الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العنف و السلطة في فكر أرندت

محمد المشماش

2014 / 12 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


نادرا ما نعثر على كتابات أو مقالات حول حنا أرندت فيلسوفه الحرية و السلم بكل ما تحمله كلمتا حرية/سلم من معنى مع أن قراءتها للمشهد السياسي الغربي قراءة غاية في الدقة,قراءة واقعية مبنية على التحديد الدقيق لكل المفاهيم المرتبطة بالسياسة,تحديد غالبا ما بلور جرأتها من خلال مناقشة أغلب المواقف و التيارات البارزة لعمالقة الفكر الغربي الحديث و المعاصر بكل تلويناتهم و انتماءاتهم الفكرية فتارة تجدها تناقش هيغل و كانط و تنتقد ماركس و تتجاوز كلوزوفيتش و ماكس فيبر و سارتر ...,أسلوبها الأدبي الفني في هدم اليوتوبيات و النظريات السياسية المتعالية على الواقع,جعلها تعيش تجربة فريدة بعيدة عن التعصب و الدغمائية و الأحكام القطعية و إقامة صرح فكري واقعي قائم على ثنائية الهدم و البناء لا على الاعتقاد الراسخ,قراءتها للفلسفة السياسية الحديثة و إعادة تفكيك مفاهيمها جعلها تتبوأ مكانة متميزة في الفترة المعاصرة,دافعت عن الحرية الحقيقية و الواقعية المرتبطة بالمشهد السياسي و رفضت الحرية المتعالية التي تسكن العقول و الأفئدة,غيرت مجموعة من المفاهيم كمفهوم الشر,"بقدر ما أعادت مفهوم الحب إلى أرضه وواقعه,فالحب الحقيقي يقع في النهاية على ما هو محسوس و عيني و حي,بقدر ما يتجسد في العلاقة بين الناس"1,و أما الشعوب و الأوطان لا ينبغي تقديسها كأيقونات مقدسة و كحقائق متعالية,لأن هذا من شأنه أن يقود الإنسان إلى التعصب و العنصرية و نبذ الاخر و إقصاء الغريب.
في كتابها الشهير "أصول الأنظمة الشمولية" سلطت الضوء على مرحلة مهمة من تاريخ البشرية,القرن العشرين الذي شهد ظهور ما يسمى بالتوتاليتارية كنظام سياسي قائم على العنف و الإرهاب و التخويف انطلاقا من أدوات أيديولوجية قادرة على تخدير العقول و تطويع الأجساد,و بالتالي نزع إنسانية الإنسان و تحويله إلى مدافع عن وهمية غاية في العنصرية (قانون الطبيعة بالنسبة للنازية و حتمية التاريخ بالنسبة للستالينية و الفاشية)أما في ما يخص وظيفة هذه الأنظمة هي تحويل الفرد إلى آلة أو أداة للتنفيذ فقط لهذا فأيديولوجيتها تسعى غالبا إلى خلق نوع من التماهي بين الفرد و النظام المتجسد في كاريزما القائد الهمام الذي لا يشق له غبار الآمر و الناهي في السلم و الحرب,لهذه الأسباب انتقدت أرندت بشدة موقف الصهيونية من العرب,و جعلها تتراجع عن تأييد حكم الإعدام الذي صدر في حق النازي أدولف إيخمان بسبب ما اقترفته النازية في حق اليهود,حينما طلبت مقابلته قبل إعدامه و من خلال حوارها معه وجدته شخصية عادية و ليس كما صورته الصهيونية على أنه سادي و شاذ,و لم تر فيه تجسيدا للشر,بل أدركت أنه رفض بعقله الاستئصالي أن يشاركه أحد أرضه,و هذه فكرة النازية التي حولت الأفراد إلى آلات تنفيذية مجردة من جانبها الإنساني,و اعتبرت أرنت هذه الحادثة مجرد ادعاء من الحركة الصهيونية القومية المتعصبة لاستخدام الهولكوست كأداة سياسية لاستمالة عطف الشعوب من جهة و الضغط على ألمانيا للحصول على مزيد من التعويضات المالية من جهة أخرى و لهذه الأسباب اتهمت بمعاداة السامية و الوقوف ضد وحدة الدولة اليهودية.
أما بالنسبة لمؤلفها الثاني"ما العنف"قدمت أرندت تحليلا دقيقا لماهية العنف تجاوز العديد من التصورات التي قاربت هذه الظاهرة,فناقشت فيه "المعذبون في الارض"لفرانز فانون و انتقدت كاتب مقدمته سارتر كما أن انتقدت في هذا المؤلف جورج سوريل باعتباره أكبر منظر للعنف و تجاوزت كلوزوفيتش و ماكس فيبر و كل المواقف التي تضع علاقة حميمية بين العنف و السلطة,فماذا تقصد أرندت بالعنف؟
ترى أرندت أن العنف يختلف اختلافا تماما عن السلطة,بل و يتعارض معها,و هذا المفهوم حسب أرندت لم يحض باهتمام كبير,ولم يلق الأهمية التي تناسبه في تاريخ الفلسفة,و حتى الذين اهتموا بمقاربته عبر التاريخ اعتبروه ظاهرة هامشية و مشروعة سياسيا,ككلوزوفيتش الذي اعتبر الحرب استمرارا للسياسة غايتها إخضاع الاخر المنهزم,و إنغلز الذي عرفه بكونه مسرعا في التنمية الاقتصادية انطلاقا من تناقض بنية السلطة مع النمو الاقتصادي,و كذا فيبر الذي ربط مفهوم الدولة بالعنف المادي المشروع و المبرر,و تبريرها في هذا النقد هو كون أن الحرب لا يمكنها تبرير استمرار السياسة,و بهذا فالصيغة التي وضعها كلوزوفيتش ليست صحيحة من منظور أرندت لأن الحرب قد تصبح وسيلة لانتحار جماعي,إذا ما تم استخدام أسلحة متطورة الصنع كالأسلحة النووية أو البيولوجية,التي بإمكانها أن تسمح لمجتمعات صغيرة من الأفراد بأن تقلب التوازنات الاستراتيجية,و هذا ما أحدت في نظرها انقلابا كاملا في العلاقات التي كانت قائمة بين العنف و السلطة,هذا بالإضافة إلى أن العنف أدواتي يعبر في كثير من الأحيان عن مشاعر لا ترتبط بالضرورة بالسياسة: كالخوف من الموت الفناء والبحث عن الخلود عن طريق استمرارية الجماعة,لهذا فهو يحتاج دائما إلى توجيه و تبرير غايته,أما السلطة تقوم على المشروعية و لا تحتاج إلى تبرير ذاتها,"السلطة تكمن حقا في جوهر كل حكومة,لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر,العنف بطبيعته أدواتي و هو ككل وسيلة,يظل على الدوام بحاجة إلى توجيه و تبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه,و يحتاج إلى تبرير يأتيه من طرف آخر,ولا يمكن أن يكون في جوهر أي شيء,فنهاية الحرب تعني السلم و نهاية السلم لا تعني أي شيء"(2)
إذن فالسلطة و العنف,على الرغم من كونها ظاهرتين متمايزتين,عادة ما يظهران معا,و حيثما يتم التوليف بينهما يتم إبراز السلطة باعتبارها العامل الأساسي و المسيطر,غير أن الوضع يختلف تماما حينما نتعاطى معهما انطلاقا من حالتهما البحتة,و المشكل هنا حسب أرندت راجع إلى المستوى الضعيف لحقل العلوم الإنسانية التي لم تستطع بلورة إطار يسمح بفهم المصطلحات التي تبدو للجميع كمترادفات في حين تحيل على ظواهر متمايزة,مثل "سلطة"و "قوة"و"سيطرة"و "عنف".
المراجع:
(1)مقال بعنوان"حنا أرندت عشق الحقيقة و الأصدقاء"صحيفة الحريات لعلي حرب
(2)في العنف حنا أرندت,ترجمة إبراهيم العريش الطبعة الأولى 1992 دار الساقي بيروت لبنان ص45








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة