الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هرولةٌ إلى الوراء

زيد عيد الرواضية

2014 / 12 / 24
الغاء عقوبة الاعدام


أدركَ الأنسانُ الأول جدليّة الصراع الأزلي بينَ الخير والشر، وانعكسَ هذا الإدراك في الأساطير القديمة لدى مختلف الحضارات. وقد ظهرَ العقاب وسيلة للخلاصِ من الأشرار، وكانت عاقبةُ الموت أمراً مقبولاً لدى معظم الشعوب، وظهرت عبر التاريخ أشكال مختلفة لعقوبة الإعدام تختلفُ في قسوتها وبشاعتها لكنها تتفقُ في نتيجة واحدة: الموت الأكيد.
لا تزال عقوبة الإعدام مسالةً تثيرُ جدلاً في معظم بلاد العالم، ففي حين أُلغيت كلياً أو جزئياً في معظم دول العالم كالاتحاد الأوروبي وبعضِ الولايات الأمريكية وأستراليا، لا تزال العقوبة تُنفَّذُ في معظم البلاد العربيّة. فقبل أيام معدودة نفّذت السلطات الأردنية حكماً بالإعدام على أحد عشر متهماً بعد أعوام من تعطيل العمل بهذه العقوبة، وانشغلَ الأردنيون بهذه الحادثة بينَ مؤيد ومعارض؛ ففي حينِ أنّ شريحة كبيرة من الحقوقيين والمثقفين والمتنورين رأوا في ذلك عودة إلى الوراء مئات السنين وسقوط أخلاقي في النظرة إلى الحياة والإنسان، تطوَّعت فئات مجتمعيّة أخرى، والمؤسف أنّها أصوات مرتفعة تعلو على أصوات الحداثيين، بالدفاعِ عن هذا القرار، وبررت هذه العقوبة بوصفها الحل الأوحد لردعِ الخارجين عن القانون، ودعَّموا رأيهم بقوله تعالى "ولكم في الحياةِ قصاص يا أولي الألباب" وبهذا الفهم الوهّابيّ الضيقِ للدين والدنيا أقحموا الله شريكاً في هذه الجريمة.
حينَ تطوَّعَ السفيرُ البريطاني في عمان بتير ميلت للتعبير عن حزنه وأسفه لتطبيقِ هذه العقوبة، استيقظتُ العروبةُ فجاءةً، أصدرَ الإسلاميون بياناً يستهجنُ تدخلَ السفير وطالبَوا باستدعائه لجلسةِ استجواب. مجلسُ "النواب" هو الآخر ثارَ لهذا التدخل "السافر"، أحدُ نوّابُ الأمّة دعا لطرده من البلاد، "نائبة" أرادت أن تثبتَ لمنتخبيها أنها "نشميّة أخت رجال" فهاجمت الرجلَ وذكّرته بقوله تعالى "ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب"، ولا أدري أنلومُ نوَّابَ الأمة أم نلومُ الأمّةَ؟! السفيرُ البريطاني، لمن لا يعرف، رجلٌ شديد اللطف وشديد الاحترام للثقافة الأردنية، وهو من الأوربيين القلائل الذين فهموا سرَّ الأرض وأَنِسُوا جَرْسَها، فهو يصرُّ على الحديث بالعربيّة ويحملُ دفتراً صغيراً يدوّنُ فيه الكلمات الجديدة التي يصادفها في حياته اليوميّة في عمَّان.
المدافعون عن عقوبةِ الإعدام يبررون وجهةِ نظرهم بكونِ هذه العقوبة هي الحل الأوحد لردعِ المجرمين والخارجين عن القانون، ولنا أن نتساءل ببراءة شديدة، هل نجحت هذه العقوبة في الحدّ من الجريمة في بلاد تمارسُ الإعدام بأبشعِ صوره؟ ثمّةَ دولة من بلادِ الأعراب تفصلُ رأسَ المتّهمِ عن جسده بالسيف، وبرغمِ ذلك لا أظنُّ أن هناك بلداً في الدنيا يستهينُ فيها الإنسانُ بقيمة أخيه الإنسان كتلك البلاد؛ فقيادة سيارتك هناك قد تكون تذكرتك المجانيّة للعالم الآخر! وبالتالي فالبحث العلميّ والواقع يثبتان أن عقوبة الموت لا تمنع الإنسان من ارتكاب جرائم تؤدي به إلى هذه العاقبة، وحتّى نفهمَ ذلك، علينا أن نفكرّ بعقليّة المجرم نفسه، وهو بالمناسبة شخصيّة تألفُ المقامرة بالحياة وتأنسُ تلك النشوة الغامضة ساعةَ الخطر.
الناسُ في بلادنا مؤمنون، والإيمان أمرٌ طيب في ظاهره، ولكنّه في حقيقة الأمر خطرٌ عظيم، فإيمانهم أيمان لا علاقةَ له بالله ولا علاقةَ له بالدنيا، لأنه أيمان أعمى بأقوالِ السلف "الصالح" وفهمهم للدين والدنيا بمستوى إدراكهم وبمقاييس ذلك الزمان وأدواته. والمبررون لعقوبةِ الإعدام يدعّمون وجهةَ نظرهم بوجودِ حدّ القتل في الشريعة الإسلاميّة. وأظنُّ أنه من الصعب جداً أن تقنعَ هؤلاء بأنَّ حدودَ الله قابلةٌ للتغيير والتعديل والتعطيلِ، وأن الذينَ يظنّون أن أحكامَ الله صالحةٌ لكلّ زمان ومكان إنما يسيئون لله ولدينه من حيثُ لا يعلمون. فالله نفسه بدَّل وغيّرَ أحكامَه خلال مدةِ نزول القرآن الكريم التي استمرتْ ثلاثة وعشرين عاماً، "فنسخَ" آياتٍ و"أنسى" أخرى، وهذه رسالة إلهيّة للإنسان بأنّ الأرضَ تدور وأن الإنسان يتطور وأنه لا بدَّ من التغيير والتجديد وفقَ متطلبات الزمان والظروف. وقد فهم عمر بن الخطاب هذه الحكمة وجهلها الكثير من بعده وذلك حينَ عطَّل حداً من حدودِ الله عامَ المجاعة.
لقد ضربت السلطات الأردنيّة بعرض الحائط نظريّات العقاب الحديثة وعاقبت المجرم بجريمة أخرى، وأثبتت للمجتمعِ الدولي أن الشتاء بعيدُ المنال، والمؤسفُ حقاً أن تُنفَّذُ هذه العقوبة في مملكة يتربَّعُ على عرشها رجلٌ حكيم تعلَّمَ عندَ بني "سكسون" واكتسبَ منهم طباعَاً حميدة تضافَ إلى طباع ورثها عن أبيه المحبوب لدى الغالبية العظمى من الأردنيين، وعايشَ الحداثة والحريّة وفهم قيمةَ الإنسان والحياة. إنني أتمنّى على جلالته عدم المصادقة على أحكام الإعدام القادمة والإيعاز بتطبيق نظام عقوبات يحترمُ حق الإنسان في الحياة.
علينا أن نعترفَ بأننا في قاعِ وادٍ سحيق مظلمٍ، وأنّ تطبيقَ عقوبة الإعدام هو هرولة للوراء، وتعدّي على حق الإنسان بل وحقّ الله واهبِ الحياة! علينا أن نفيدَ من منجز البشريّة في تطبيق نظام العقوبات وفي أشياء أخرى كثيرة ليسَ هذا مجال الحديث عنها، وعلينا أن نستيقظَ من سباتنا الأزلي، وأن نغرسَ ثقافة الحب في أطفالنا وأن نعزز فيهم قيمةَ الإنسان وقيمةَ الحياة، ولا أظنُّ هذا ممكناً في ظلّ ما تقدمه المناهجِ المدرسية الحالية من نصوص دمويّة تقتلُ براءةَ الأطفال وتشجعهم على الجريّمة والعنف، وتدفعهم للموتِ لا للحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار


.. بقيمة مليار يورو... «الأوروبي» يعتزم إبرام اتفاق مع لبنان لم




.. توطين اللاجئين السوريين في لبنان .. المال الأوروبي يتدفق | #


.. الحكومة البريطانية تلاحق طالبي اللجوء لترحيلهم إلى رواندا




.. هل كانت المثلية موجودة في الثقافات العربية؟ | ببساطة مع 3