الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فتح .. خمسون عاما من الحركة

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2014 / 12 / 25
القضية الفلسطينية


فتح .. خمسون عاما من الحركة
خمسون عاما بالنسبة لأي إنسان، هي تقريبا ثلثي عمره، وبالنسبة لعمر التاريخ هي مجرد ومضة، لكنها في منطقة ساخنة بل وملتهبة كفلسطين، هي تاريخ كامل ..

اليوم، وبعد كل هذه السنين الطويلة من عمر "فتح" تبرز الأسئلة الكبرى: ماذا حققت الحركة ؟ وأين أخفقت ؟ ولماذا !؟ وهل تلاشت فعلاً (كما نسمع كل عام، منذ 1982) ؟ ولم يعد منها قائما سوى "ذكريات بطولة" في طريقها للنسيان ؟ وإرث حفنة من القادة التاريخيين صاروا مجرد "بوسترات" ربما لا يلتفت إليها أحد ؟؟ ماذا تبقى من فتح ؟ وما هي قيمتها الآن ؟ وهل بمقدورها أن تنهض من جديد ؟ وعشرات الأسئلة التي لا يخلو بعضها من المكر.
بداية، لندرك أهمية الحركة، ومكانتها في التاريخ الفلسطيني، يتوجب أولاً أن نرى كيف كانت الظروف الموضوعية السائدة قبل انطلاقتها، وكيف كان مجرى الأحداث يتشكل، وفي أي اتجاه كان يسير ؟ ثم نرى كيف صارت الأوضاع في نقطة تبعد خمسون عاما عن بدايتها.

ببساطة، في ذلك الزمن الصعب والكئيب، كان فلسطين تمر ُّفي أسوأ لحظة في تاريخها؛ كانت أجواء الهزيمة تهيمن على الناس، وتدفعهم للقنوط، والرضوخ للواقع الجديد؛ الأرض ترزخ تحت الاحتلال المباشر ومخططاته الرهيبة للضم والمصادرة، ومن تبقى عليها من ناس يتربص بهم خطر الاحتواء، والتهجير، وهم وحيدين معزولين عن محيطهم العربي. الضفّة أُلحقت بالأردن، وكل من في الشتات كانت تنتظرهم مخاطر الوصاية والتذويب والتوطين. الهوية الوطنية تُسحق تحت عجلات الإلغاء والشطب. القضية برمتها كان يتراكم عليها الغبار سنة بعد أخرى في محافل الأمم المتحدة، بعد أن تحولت إلى قضية لاجئين بحاجة إلى خِيام، أو "بركسات" لتحسين ظروف بؤسهم.

كان حلم أغلب الشباب السَّفر للكويت للحصول على فرصة عمل، أو الهجرة إلى فنزويلا وأمريكا، فيما كان النشطاء يفنون أحلى سنين عمرهم في خلافات الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية. في المخيمات كان جُلَّ همّهم توفير "مرحاض"، وانتظار مندوب الوكالة للحصول على "بكجة"، و"سلة المؤن"، في بعض مخيمات لبنان كان شرطي الدرك ينكّل بالعائلة بأكملها، ويجلد الأم أمام أبنائها دون أن يكون بمقدورهم عمل شيء، سوى النحيب ..

باختصار، كان معداً للفلسطيني أن يكون الهندي الأحمر، وأن تطُوى قضيته للأبد، لكن حركة التاريخ ستأخذ مسارا في الاتجاه الآخر ابتداءً من الأول من يناير 1965، حيث جاءت انطلافة فتح كالصاعقة التي أضاءت ليل فلسطين، في أشد ساعاتها حلكة، والغيمة التي غطت سماءها بعد أن انهكها الظمأ والمحل، في سنواتها العجاف، ثم من بعدها انهمر المطر .. فتحول الفلسطيني من مجرد لاجئ إلى فدائي، بعد أن تسلح بالأمل والكلاشنكوف، وصارت له ثورة، وبات بمقدوره أن يصمد، وأن يواجه، بل وأن يسقط كل مخططات التصفية.

أدركت فتح منذ البداية أن الهوية السياسية للشعب الفلسطيني هي حجر الزاوية في معادلة الصراع، وأن إثبات حضور الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني هو ضمان بقاء القضية حاضرة في الضمير العالمي وفي النظام السياسي الدولي .. إبراز هذه الهوية كان إنجاز فتح الأهم، لكن فتح لم تكتف بذلك؛ إذ جعلت من الثورة المسلحة الوجه الثاني للهوية الوطنية، وبهذا التماهي صارت فتح (ومن خلال م.ت.ف) هي الإطار الجامع لتناقضات الشعب الفلسطيني برمتها من ناحية، ورأس الرمح الموجه مباشرة إلى قلب المشروع الصهيوني من ناحية ثانية.

لم تكن فتح حزبا بالمعنى التنظيمي؛ بل كانت "جبهة وطنية"، تضم كل ألوان الطيف السياسي والفكري للشعب الفلسطيني، وهذا أحد اسرار قوتها التي ميزتها عن بقية الفصائل، حيث تجد فيها اليساري، واليميني، الإسلامي والعلماني، البرجوازي والكادح، المفكر والطوبرجي .. بل أن أي فلسطيني يرى انعكاس صورته فيها دون الحاجة لملئ استمارة عضوية ..

ليس لدى فتح ثوابت مقدسة، ولا تابوهات محرمة؛ فقد غيرت خطها السياسي أكثر من مرة، وهذا سر آخر لقوتها، ففي عالم متغير، ومنطقة تتوالد فيها الأحداث بسرعة فائقة، وفي ظل نظام دولي يسحق كل من لا يفهمه، ويتجاوز من يجهل كيفية التعاطي معه .. لم يكن لدى فتح من خيار سوى البراغماتية والواقعية السياسية.

وليس لدى فتح أيديولوجية معينة، ولا منهج فكري متزمت، ولا تُلزم أعضائها بأي خط سوى فلسطين: بوصلة، وهدف ومعيار .. وهذا سر جماهيريتها. لم تسلِّم أوراقها لسورية، ولا للعراق، ولا لإيران، ولا لأي دولة في العالم، وقدمت خيرة شهدائها للحفاظ على القرار الوطني المستقل، ولم تدخل لعبة المحاور الإقليمية، وهذا ما جعلها الحركة التاريخية للشعب الفلسطيني، وما حمى القضية من مخاطر الاحتواء والوصاية والتبعية.

ليس لدى فتح أجندات خارجية، ولا مشاريع عابرة للقارات. لها هدف واحد ووحيد هو تحرير فلسطين، وعدو مركزي لا تُغلّب عليه أي تناقض آخر هو الاحتلال. لا تؤمن بالعنف إلا إذا كان في سياق برنامج سياسي مقاوم. وبالرغم أنها مصنفة على اليمين؛ إلا أنها لا تساوم على الديمقراطية والمساواة وبناء المجتمع التقدمي القائم على الحرية والعدالة الاجتماعية، المنفتح على الإنسانية. وهذا ما جعلها حامية المشروع الوطني. وبالرغم أنها الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني إلا أنها ظلت حريصة على عمقها العربي والإسلامي وامتدادها الأممي. ولأنها المشروع المقاوم ضد الصهيونية والعنصرية والاحتلال والظلم بكل أشكاله، ستجد كل أحرار العالم وشرفائه مناصرين لها، ومؤيدين لكفاحها الوطني والإنساني.

ولأن فتح حريصة على شعبها، ورحيمة به، وأمينة على مصالحه، وحارسة لأحلامه ستظل دوما تجترح بعبقرية أدواتها الكفاحية دون مغامرات مجنونة، ودون أن تتنازل عن تحقيق أهدافه.

فتح هي التي فجرت الثورة، وأطلقت الكفاح المسلح، وهي التي نظمت وقادت انتفاضتين، وهي اليوم في طليعة المقاومة الشعبية، وهي التي خاضت مغامرة "أوسلو" بكل ما عليها من ملاحظات، وهي التي مهدت لقيام السلطة الوطنية، وقادتها في مرحلة بالغة الدقة والصعوبة شهدت الانهيار العربي وتفرد الإمبريالية العالمية بالمشهد السياسي الكوني، ورغم ذلك وضعت فلسطين على أعتاب الدولة، وبدأت تنتزع اعتراف العالم بها دولة بعد أخرى.

فتح نفسها، ليست صنماً، لنعبده ولا ثابتا مقدسا، ولا هدفا بحد ذاته.. هي وسيلة للتحرير .. وما زالت الظروف الموضوعية التي استدعت انطلاقتها قائمة؛ فإنها ستظل ضرورة وطنية. وما دام الاحتلال جاثما فوق الأرض العربية؛ فإن فتح ستبقى الوسيلة الأساسية والأداة التاريخية للتحرير. ولكل من يراهن على هزيمتها؛ نطمئنه بأن فتح لم تشيخ، لأنها ما زالت في مركز الحدث. ولم تهرم لأنها الرقم الصعب. ولم تفقد مرونتها، وقدرتها على المناورة، وما زال مبرر وجودها قائما، وهي التي ستعبر بنا إلى بر الأمان.

لا ريبَ أن فتح تعاني اليوم من الترهل والتفكك، وتفرد القيادة، وشخصنة القضايا الوطنية، وضبابية الرؤية السياسية الشاملة، وضعف البرامج الكفاحية في مواجهة مشاريع الاستيطان والتهويد، وأنها فقدت الكثير من رصيدها النضالي، وأنها تقتات على أمجادها، دون أن تجدد هياكلها وقادتها وأن تطور آليات عملها .. وأن وضعها بائس لدرجة أن آلافاً من خير كوادرها باتوا مغتربين عنها، ومنكفئين على ذواتهم، بعد أن فقدوا الثقة بالحركة وبالقيادة ..

ولكن، لا شك لدي بأن ضعف فتح وتراجعها أدى إلى تراجع القضية الفلسطينية إلى أدنى مستوياتها، حتى باتت في بعض الأحيان في مؤخرة الاهتمام العالمي .. وأن قوة فتح ونهوضها هو وحده ما يعيد للقضية ألقها وحيويتها ومكانتها في الصدارة العالمية ..

خمسون سنة، هي الفترة التي احتاجتها الحركة الصهيونية لتجسيد حلمها، منذ مؤتمر بازل وحتى إعلان الكيان الغاصب، ومعها كل الدعم الدولي، فكم سنة ستحتاج فتح لتحقيق الحلم الفلسطيني !؟ وهي تسير في حقول من الألغام !؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: مزارعون في الهند مصممون على إلحاق الهزيمة بالحزب ا


.. السباق إلى البيت الأبيض: حظوظ ترامب | #الظهيرة




.. ماهو التوسع الذي تتطلع إليه إسرائيل حالياً؟ وهل يتخطى حدود ا


.. ترامب: لم يتعرض أي مرشح للرئاسة لما أواجهه الآن | #الظهيرة




.. -كهرباء أوكرانيا- في مرمى روسيا.. هجوم ضخم بالصواريخ | #الظه