الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التالية ...

الرفيق طه

2014 / 12 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


في الصباح و ككل صباح يتجه اهل القرية للعمل في ما يملكون من حقول . وحدها التالية تتجه للمركز المعروف بالقشلة . هناك راسمالها الوحيد و الاوحد ، شفقة الناس و عطف البعض منهم دون الكل .
التالية امراة مسنة ، بين السبعين و الثمانين من العمر و المحتمل اكثر . عزلاء ، وجها لوجه مع الواقع العنيد و وضعها البئيس .
خمس كيلومترات تعبرها كل يوم من اجل كسب القوت اليومي لها و لشقيقتها الحاجبة في المنزل ، انضباطا للعادات و التقاليد التي يدين بها اهل القرية و نسبهم المميز . وحدها التالية تختلف عن نساء المنطقة . تخرج بلا قناع ( الكناع بثلاث نقط على الكاف) ، ثوب اسود بطول المتر و نصف و عرض المتر الواحد ، تطرزه النساء بالوان مختلفة من الخيط البراق . في قريتها النساء لا تخرج النساء من المنازل الا ملحفات بالكساء ، لحاف منسوج من الصوف طوله ستة امتار بلون ابيض ناذرا ما يكون به خط مخالف . التالية و نظرا لواقعها الميؤوس تمردت عن اعراف راسخة و متجدرة في اذهان الاهالي .
التالية وحدها تلبس نعال من البلاستيك بلون اخضر خاصة بالاطفال الذكور تعرف ب ( حنيقزة ) .
امراة قصيرة القامة نحيفة البنية و جهها رسم عليه الزمان تجاعيد باشكال هندسية و جبرية متعددة . عيناها ضيقتان لا ترى الا بصعوبة بين اجفان قلت اهذابها .
حين تقترب من التالية تكتشف براءة في عينيها ، و ابتسامة فياضة على وجهها بنفس القدر الذي تكتنز فيه الحزن و اللظى في اعماقها . سيدة هادئة ، لا تهتم بمن حولها . تستقبل من قصدها بابتسامة صبيانية ، و كانها طفلة في العشر الاولى من العمر . بين شفتيها تبزغ اسنان صغيرة و متساوية و كانها لم تساير الجسد طيلة عمره .
ابتسامتها تغير كل تقاسيم وجهها باحمرار الخدين و توسع ما بين التجاعيد و تمطط ما تجلد من العنق .
تبتسم لكل الناس . حتى الاطفال الذين يعترضون سبيلها حين يرعون نعاجهم في طريق القشلة . تسمع قهقهة ضحكاتهم من بعيد حين يشكلون حلقة عليها و يعتدون عليها . يقولون كلاما قبيحا بافواهههم و يشيرون لاشياء مختلفة باياديهم و تجيبهم بدعوات الخير بسخاء . يقهقهون لانها لا تسمع ما يقولون .
يجزم البعض ان التالية فقدت حاسة السمع منذ الولادة . و يدعي اخرون ان سبب صممها حمى عانت منها و وضعتها على فراش الموت . و تقول احدى العجائز التي تقاربها في السن ان الطاعون و الجدري لم يتركا احدا من جيلهما بدون عاهة مستديمة . لكن ابراهيم ولد بوجمعة، الكفيف ، يدعي انه قريب منها منذ الطفولة ، يؤكد انها كانت تتظاهر بالصمم تجاوزا لحرج الناس بكلامهم الجارح ، فتعودت على ذلك حتى اصبحت فاقدة للسمع فعلا . كما يقول انها تسمع ما تحب و تنكر غير ذلك .
التالية تسير بخطوات صغيرة تنسجم و قامتها و سنها. مثقلة بهم و غم تعايشت معه حتى اصبح منها و اصبحت منه . لا تهتم بمن يسرع على دابته او مترجلا .بالبغال ذات البرادع المرصعة او الحمير القوية يتجاوزها المارة دون الاهتمام بالغبار الذي تخلقه حوافر دوابهم . اما راكبي الحمير الضعيفة فرغم ان مرورهم عليها ليس بالسرعة فلا تجمعها بهم اية احاديث سوى دعواتها للكل بتسهيل الطريق و السلامة . تسير وحيدة ، تعد الخطى بعينين الى الاسفل و ظهر مقوس . لا احد يعرف ما يجول في خاطرها بصمتها القاتل و هدوءها الدائم . موحشة كاعماق المحيطات . لا تهتم الا بما يعنيها . اذا سالتها لا تجيب . و اذا اشرت لها بحركة تجيبك بدعوات الخير مع الابتسامة و كانها اللغة الوحيدة التي تتكلمها .
بعد تعداد خمس كيلومترات كاملة بخطواتها الهادئة المتانية تدخل التالية تاكونيت او القشلة كما يعرفها الناس انذاك من الجهة الشمالية الشرقية . مركز القشلة لا هو حضري و لا هو قروي . به محلات تجارية و مؤسسات ادارية ، بدون ماء و لا كهرباء و سكانه يربون المواشي و يزرعون الارض . من بين سكان المركز عسكريين و اداريين تربطهم بتاكونيت خدمة مؤقتة ، و الرحل الذين امتلكوا منازل طينية مرتبطون بنشاطهم الرعوي او زراعتهم المعاشية . اما اصحاب المحلات التجارية فيعدون بالاصابع و هم المستفيدون من ماذونيات تجارية او ما يسمى بالبون.
الكل في القشلة يعرف التالية ، الجزار و الخضار و مساعد حافلة البوسطة ، حتى المتسكعون و الحمقى يعرفونها . كلهم يحترمونها . طيبة بشوشة مبتسمة تتجول بين المحلات . لا تمد يدها لاحد لانها تفضل ان تموت بشرفها على ان تعيش بعارها . فقط ما يقدم لها هو نصيبها . حتى ما تصادفه في طريقها لا تعتبره من حقها . مبتسمة توزع الدعوات الطيبة دون ان تنتظر جوابا . لا تحقد على من لم يعطف عليها و لو مرة بقليل . دون كلل تتجول في كل مكان
. في الممر بين المحلات و يسمونه شارعا ، تسير اما يمينا او يسارا . لا تابه بمن يملك قصرا او كوخا او من لا يملك موطئ قدمه. كلهم امام اعينها متساوون. بل ربما تؤمن ان الكون كله هي سيدته . تسير فريدة وحيدة و كانها في مهمة تؤديهابامانة و انضباط دائمين . لا تهتم بتجمع الناس على حدث ما او خصام بين اشخاص او جماعات . كما لا تميز بين المحلات التجارية الخاصة و مركز الدرك او المقاطعة او المستوصف الذي يشتغل به ممرض واحد .
الابتسامة وحدها وسيلتها للتعبير و دعوات الخير هي كلامها . ابتسامتها الدائمة تشعرك بالامان . لا احد يعرف ما في اعماقها . هل هي دائمة الفرح ام انها تظهر ما لا تضمر ، ام تضمر ما لا تظهر .
لولا تلك الابتسامة لقال الناس التالية تتالم و تحمل في دواخلها لظى الحقد على الوضع الذي تعيش فيه . وقد تكون سعيدة بحريتها و استقلاليتها بشرفها .
بعض الناس احاسيسهم اقسى من الصخر على من له حاجة علينهم و لكن جل اهل تاكونيت غالبهم الدهر بقحطه . جعل وجوههم تتشابه باثارة الشفقة . محاصرون في واحة شبه صحراوية لا امل فيها لتحسين وضعهم . اذا رغدت واحتهم سنة بالثمر و القمح نسو ويلات الماضي . لكن سرعان ما يعود الجفاف و يموت النخيل و الطلح و يقل الزرع و يصبح شبابهم شغالين في اوراش البناء . الكهول و النساء و الاطفال حياتهم تصبح رهينة للارساليات التي يوزعها الكنيوي ، الا التالية لا تنتظر عائدا من سفر و لا ارسالية .
يومي الخميس و الاحد يتجمع الناس في السوق و ترى الرجال و النساء يشبه حالهم حال التالية ، لكنها وحدها تكد على عناد الالم بابتسامتها الدائمة . اما هم اذا ابتسموا فلن تكون ضحكتهم من اعماقهم المجروحة .
حين تظما التالية تتجه نحو المقهى المعروف بمقهى لحميد او مقهى الوناس . المقهى هنا خال من الكراسي التي عوضها الحصير .
بمدخل المقهى تصطف اشكال من البراميل المصنوعة من الفخار لتبريد الماء،بعضها ملفوف بقماش اكياس السكر .عليها استنبتت حبات الزرع التي استهوت وفرة الماء و لطافة المكان ، و اخرى بلطت بالطين المبلل للاحتفاظ بالبرودة الدائمة . كلما تقدمت نحو عمق المقهى عمت رائحة الفحم الخشبي و دخان الكيف و التبغ الاسود و نكهة الشاي المنعنع و طناجر الخضر بلحم الجمل .
المقهى هنا في تاكونيت يوفر الظل و الحصير و اواني الشاي و فحم الطهي . الزبناء يجلسون مجموعات مجموعات . بعضهم اعتاد على ارتيادها بشكل دائم و لو لمرتين في الاسبوع ، اي اثناء السوق الاسبوعي . و اخرون اضطروا باسرهم لنذرة وسائل النقل ينتظرون شاحنة تنقلهم نحو زاكورة او وارزازات حيث تتوفر الحافلات .
تشرب التالية كوبا او كوبين من الماء باليد اليمنى و هي جالسة القرفصاء . فتسلم صاحب المقهى فلسا او فلسين ثمنا للماء ، لتمر على الحضور بعيون مبتسمة و لسان يدعو بهدوء و صوت منخفض للناس بالخير . بعضهم يمدها بكاس شاي ساخن و اخر بخبز او ببطيخ اذا كان الفصل صيفا. قد تكون سعيدة محظوظة اذا من عليها احدهم بقروش نقدية من ريال ابيض الى عشر ريالات صفراء .
التالية لا تعرف للنقود قياسا سوى ان فلس عشرة سنتيمات او ريالين تشتري كوب ماء و فلس عشرون سنتيما تشتري كوبين . كما ان الفلس الفضي المعروف بدرهم اذا اضيفت اليه ثلاث فلسات من فئة ريالين ثمن للشعرية الملفوفة في الورق الاصفر او المحمصة ( بركوكش ) الملفوفة في الورق الابيض .
كلما انحدرت الشمس اتجاه الغروب كلما زاد انكفاء وجه التالية نحو الارض بتزايد ثقلها . لم تعد قادرة على تحمل ابسط حمولة . خليط من الاشياء تعودت التالية على حملها ، اغلبها لا يسمن و لا يغني من الجوع . عظام و شحم و قطع سكر و بقايا خضر و طحين . كل ذلك في كيس على ظهرها المقوس . بعض الاشياء تكون عرضة للضياع ، اما لشدة الحر او لتمازج المواد بعضها البعض.
. في المساء تعود الرحلة اتجاه القرية . تعبر تضاريس مختلفة من اراض منبسطة محجرة ، الى حقول يصعب المرور منها اما لانها مزروعة او لانها مسيجة او مسقية . ثم تمر من تلال الرمال التي منها تطل على قرية ام البروج و منها نحو قرية انيسي .
في اغلب الاحيان لا تدخل التالية بيتها الا بعد الغروب . و قد تاخرت لمنتصف الليل مرات عديدة . في الصيف تكابد الحر و العياء و تنتظر ان تتلطف الاجواء لكن لسعات الحشرات لها فعلها . و قد يؤخرها العطش اذ تبقى تنتظر من يمدها بالماء من البئر بتلات . و في مرات عديدة شربت من الماء المخصص للدواب و الاغنام .
اما شتاء فان الطريق يكون مليئا بالبرك التي تسقط فيها . و قد تبللت بالماء البارد فتتجمد اطرافها . فيكون البرد سببا في ارتفاع حرارتها .
كما انها كانت عرضة للكلاب الضالة التي نهشتها لمرات . و لو لم تترك حمولتها لافترستها لشدة الجوع الذي يجعل منها حيوانات متوحشة و كاسرة ، خاصة حين تشم رائحة القليل من الشحم الذي على ظهر التالية .
كل يوم تدخل التالية مسكنها الذي يجمعها بشقيقتها متاخرة .هي تهتم بما جادت به يد اختها من اكل اذا توفر في حين تقوم الاخت بفرز حمل التالية مما يمكن استهلاكه انا و ما يمكن اكتنازه لوقت الحاجة .
لترتكن التالية الى فراش النوم . فراش عبارة عن دربالة ، جمع لرقع من الاقمشة التي لم تعد صالحة لللباس .
الاختين تقتسمان مكان النوم ، عبارة عن جزء من دار عم الخراب في كل اطرافها . في كل مرة تنتقل الاختين لاي جزء لم ينله الخراب . لكنه يتهدد مسكنهم من كل جهة كالسرطان في الجسد . القصر (القرية )الذي كان عبارة عن منازل متراصة و حيطانها مشتركة هجره سكانه، و ما بقي الا من لا سبيل له غير البقاء بين الدمار و الخراب . الاختين وحدهما وسط الاتربة المتراكمة لا يفصلهم عن الخارج غير باب صنعته اخت التالية من الخيزران .
في احد الايام لم تعد التالية الى البيت . بعد ذلك اليوم الحزين اكتشفت جثة على طريق القشلة . جثة بشرية تبين انها لامراةذات شعر طويل . و لكنها فقدت كل ما يشير لصاحبتها . فقط العظام المتناثرة و المشتتة وجدت في المكان . الكلاب الضالة فعلت فعلتها بجثة الهالكة . الكل اجمع على ان التالية اكلتها الكلاب . الا ان بعض العارفين اكدوا ان العظام لامراة فعلا ، لكنها امراة ذات قامة طويلة و شعر اسود عكس قامة و شعر التالية .
تطوع البعض من اهل القرية لجمع العظام و دفنها في المقبرة . كان ذلك في عز حملة انتخابية للبرلمان شغلت الناس عن مثل هذه القضايا . في كل يوم ياتي الشباب و الاطفال و حتى الرجال بعظام او اجزاء من العظام لاخت التالية التي تبكي وضعها و تاليتها ، فتلفها و تدفنها .اغلب تلك العظام قد لا تكون بشرية . لم يدم الامر طويلا ليفاجا اهل القرية باخت التالية ميتة ببهو ضريح قريب من القرية .
بعد مدة عادت التالية تحمل كيسا من الطحين و قنينة من الزيت . تبين في ما بعد ان احد المترشحين جمع كل المتسكعين و ذوي الحاجة المغلوبين و استعملهم كجماهير داعمة لحملته الانتخابية و صنع بهم مهراجاناته. كانت التالية العزلاء احدى ضحاياه .
اسم " التالية " يعني الاخيرة تمنى به والديها ان تكون هي نهاية للاناث و يتبعها الذكر ، لكنها التالية كانت التالية او الاخيرة في اخواتها و فصيلتها .
سي محمد طه
26/12/2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه


.. اعتصام لطلبة جامعة كامبريدج في بريطانيا للمطالبة بإنهاء تعام




.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح