الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجتمع آخر أو مجتمع الجناكا -11-

خالد الصلعي

2014 / 12 / 26
الادب والفن



في الأيام الممطرة يتوقف نورالدين عن البيع . ليس لحبه الراحة ، أو خوفا من بلل بضاعته ، فهو لايبيع الا معروضات القش التركي والصيني ، بل لأنه لايمكنه أن يفترش سلعته تحت فضاء مفتوح على امطار لاتتوقف . وحتى وان توقفت ، ثم استأنفت هطولها فان حركة الناس تكون قليلة . وسوق بني مكادة سوق الزحمة وتداخل الأجساد والازدحام . وفي فصل الشتاء ، وخاصة في الأيام الممطرة تقل حركة الناس . يتنفس الشارع من تلك الأجساد المترهلة التي تخرج من جحورها هاربة من سجنها الأبدي بين اربع جدران . يستعيد هدوءه واتساعه ، يتمكن من رؤية كل أبعاده . يطل ممر الراجلين على رصيف السيارات ، يهنئه على استعادته لدوره الأساسي . ويرد عليه رصيف السيارات التهنئة بأفضل منها وهو يوصيه بالمارة خيرا .
يقضي نور الدين يومه في رأس الحي ، وبالضبط شارع 49 بين أصدقائه من الجيران . مختبئا مع أصدقائه تحت سقف الحي يمضون وقتهم في شرب دخان الكيف ونفثه وفي أكل لحم الأموات الذي يعشقونه حد امتصاص العظام .
يمر عليه اليوم ثقيلا . ويحدث ان يتشاجر مع زوجته التي ألزمها المنزل بعدما تحركت تجارته شيئا ما ، وأصبح لايكف عن عد تلك الحزمة من الأوراق المالية الزرقاء من فئة 200 درهم . هي عادة تمكنه بحس الامتلاك . لايكف عن عدها دون مبرر ، سواء هنا أمام أصدقائه أو حين يكون منشغلا ببيع بضائعه .
أخرج هاتفه الخلوي ، بحث عن اسم زوجته ، وطلب منها أن تعد له كأس شاي وترسله مع ابنته أروى .
ولاسم أروى حكاية طويلة مع أفراد عائلته كلهم . فقد تشبثت زوجته بهذا الاسم وأصرت عليه اصرارا ، تيمنا ببطلة أحد الأفلام المصرية ، أحبتها بكل جوارحها وتمنت لو أنجبت طفلة جميلة مثلها . وحين استغرب زوجها الاسم وأنكره ، قالت له لايمكن للمصريين ان يسموا بناتهم بهذا الاسم اذا لم يكن اسما جميلا .
أما أخته أسماء فقد رفضت الاسم جملة وتفصيلا متحججة بأن هذا الاسم لم تسمعه يوما وهو اسم النصارى ، وزوجته حمقاء ، ربما كان ضغط الوحم عليها شديدا فعشقت اسما نصرانيا .
فرح نورالدين بانجابه طفلة ، جعله يرفض كل تبريرات أفراد عائلته ويتمسك برغبة زوجته . كان يدافع عن الاسم بنفس منطق زوجته ، ويصرخ في وجه أخته " ألم تتابعي فيلما مصريا اسم بطلته أروى ؟ هل المصريون نصارى ؟ " . هو الآن أب لمولودة من حر صلبه ، وهذا في حد ذاته حدث عظيم وانجاز اعجازي . لا أحد كان يتصور أن نورالدين كغيره من شباب حي أرض الدولة سينجب بنتا ، أو سيكون أسرة . العطالة سوس ينهش عنفوان شباب لأرض الدولة ، يسلبهم جميع حقوق الحياة ، يخلخل كل سنن الوجود الانساني . كيف لعاطل عن العمل أن يتزوج امرأة كيفما كان شكلها ونسبها ووضعها الاجتماعي .
لم يقتنع أطراف الممانعة بتبرارات نورالدين وزوجته ، وأصر الفريق الأخير على رأيه ، خاصة حين قال لهم نوردالدين :"انها ابنتي وسأسميها ما شئت ، حتى لو أسميتها ماريا ، هل لأحد دخل في ابنتي ؟ " . كم كان رائعا وهو يلفظ كلمة "ابنتي " . لم يكن يتصور يوما أنه سينجب ، حين نطق لفظ ابنتي أحس بتعدده وامتداده . لا أحد بامكانه أن يقتلع هذا الاحساس بالتعدد والتمدد .خاصة اذا استوطن شعور اليأس والاحباط ذاتا انسانسية ردحا من الزمن . يقولون في المثل المغربي "سول المجرب ، لاتسول الطبيب " لقد فشلت كل محاولاته في ايجاد حرفة أو مهنة مستقرة . خدم نادلا ، ثم بائعا جائلا ، ثم باع الخضر ، وخاصة الجزر واللفت . لكنه لم يفلح في الاستفادة من اي مهنة ، كان يتوهم أنه كلما استقر على مهنة ما الا وتكاثر آخرون أمثاله فيضيقون عليه رزقه وينسحب منها . فقرر كما كثير من أصدقائه وجيرانه الانتصاب أمام جدران الحي والوقوف طيلة اليوم متكئين عليها أو جالسين على دكات المنازل والتظر الى المارة من الرجال والأطفال والبنات والنساء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل