الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لم أعُد أتسلق الشجر

على المحلاوى

2014 / 12 / 31
سيرة ذاتية


لم أعد أتسلّق الشجر
لازلت أتذكر ما جرى وكأنه حدث بالأمس القريب ، بالرغم من مضى أكثر من ثلاثون عاما على ما حدث، كنت حينها في أواخر الخامسة من العمر، كنت أرافق والدى عند ذهابه الى حقله فبينما هو يقوم بعملة كنت أنا ألهو على شط الترعة أو جسور القنوات ، ولفت نظري وجود طفل يكبرني في السن بعدة سنوات ، يجلس بجانب مواشيه في حقل ليس مجاور ولكنه قريب من حقلنا ، كان أسمر البشرة يرتدى طاقية قديمة على رأسه لا تفارقها حافي القدمين ،يرتدى دائما سروال أبيض وقميص قديم قصير الأكمام، تعرفت علية وتكلمت معه ، كان طيب القلب ،لم ينل أي قسط من التعليم فهو لم يدخل أي مدرسة بالرغم من شده شوقه لدخولها(كما قال لي)، يعيش في كنف أسرة شديدة الفقر كحال أغلب القرية (حينها) يتيم الأب والأم ، له من الأخوة ثلاثة الأكبر متزوج ويعول ثلاثة من الصغار ، وكانت وظيفته منذ الصغر هي رعاية ثلاث بقرات ، فهو يمضى بهم مع بزوغ شعاع الشمس الى الحقل يرعاهم ويوفر العلف لهم من الحقل ويعود بهم بعد غروب الشمس ، وبقراته الثلاث هي كل ما يعرفه في الحياة ، أحببته حينها وكنت أحب الجلوس معه ، لدرجة أنني كنت أقضى اليوم في الحقل بجانب حيوانات أبى (رحمه الله عليه) لكى ألعب معه ، ورويدا رويدا أصبح أبي يعتمد على في الذهاب بالحيوانات الي الحقل بالرغم من صغر سني والفضل يعود لهذا الجار الصغير، فهو من علمني كيفيه حش البرسيم في سرعة ومهارة وبدون أن يجرح المنجل يدى ، وقد علمني الكثير من فنون الزراعة ورعاية الحيوانات ، وكانت بينه وبين حيواناته صداقة غريبة لدرجة إذا حل الظلام أطلقهم من عقالهم ، ويتخير إحداهم ويقف أمامها ويطلب منها أن تنحني أذ بها تخفض رأسها فيتسلق رقبتها للوصول لظهرها في خفة ماهرة ويستوى فوقها جالسا ، ثم تأخذ تلك البقرة بالسير وهو راكب فوقها تتبعها باقي البقرات ، وكانت تعرف الطريق الى البيت ولا تخطئه قط ، بينما أنا ولخبرتي المتواضعة أركب حماري وأجر ورائي حيواناتي وأسير ورائه ، وإذا أسرع في المسير أنادى عليه لكى ينتظر لأنى كنت أخاف من الظلام وأنا وحدى بين الحقول ، وفي فصل الربيع وهو موسم هطول الأمطار بنى عشا من الطمي بمعاونتي لا يزيد ارتفاعه عن متر وعرض مترين في طول متر سقفه مغطى بالقش ، وكان هذا العش يحمينا من الصقيع والرياح الشديدة والأمطار، ولا تعلمون كم كانت سعادتي بهذا البيت المتواضع (ما أروعها من أيام)
ولكن أشد ما أسعدني حينها أنه كانت له مهارة غير عادية في تسلق الأشجار المرتفعة وكان يصل الى قمتها ، ويتمايل معها مع كل هبة ريح وكأنه غصن من أغصانها ،وكم حاولت أن أقلده ولكنى لم أفلح وذلك لصغر جسمي وضعف خبرتي وخوفي الدفين من الأماكن المرتفعة ، فكنت إذا تسلق هو شجرة مرتفعة أقف أنا أسفلها متطلعا إليه وأطلب منه أن يصف لي ما يرى ، فيقول أنه يشاهد قريتنا ، بل يشاهد أيضا القرى المجاورة لنا ، و هناك على البعد طريق ليس كطرقنا الترابية فهو مسفلت تسير علية سيارات كثيرة مسرعة ، وكلما وصف لي مشهدا يزداد شوقي لرؤية هذا العالم الأخر الذى يصفه ، حتي جاء يوم ولشدة شوقي وتشجيعه تغلبت على خوفي ونجحت في تسلق شجرة مرتفعة ، حتى أنني دفعني الحماس فتسلقت حتي وصلت الى أقصى قمتها ، ونظرت على هذا العالم الأخر الذى سمعت عنه ولا أعرفه ، وكم كانت دهشتي وأنا أشاهد قرى أخرى غير قريتنا ، بل إنني شاهدت على البعد مباني شاهقة لمدينة كبيرة ، وكنت في سعادة غامرة وأنا أنظر للأفق الفسيح أمامي ، وأحسست أنني طائر صغير يطير بلا أجنحة ،وذهب الخوف عني يومها فكنت أتمايل مع الشجر كلما داعبتها الريح ، وتسلق هو أيضا وجلس بجاني وأخزنا بالغناء وأحداث الأصوات وننتظر لنسمع صوت الصدى ،ونحن في أشد لحظات السعادة بهذا اللهو البريء ، وظللنا على تلك الشجرة يومها نستمتع بما نشاهده قرابة الساعة من الزمن ، ومن يومها أدمنت طلوع الشجر ومداعبة الرياح والنظر للأشياء من أعلى ، حتي أنه إذا ذهب على حماري لإحضار غدائنا أنتظره أنا أعلى الشجر أتطلع اليه حتى يحضر ، وكنا نتسابق على من يتسلق الشجر قبل الاخر أو من يستطيع تسلق تلك الشجرة الملساء ويصل الى قمتها رغم ما في ذلك من خطر ، وكان هو بمهارته يسبقني دائما ثم بعد ذلك غالبا ، ومرت الأيام ودخلت المدرسة ، وكنت عند خروجي منها أرفض أن أتغدى في البيت فكنت أحمل غذائي وأذهب مسرعا الي الحقل شوقا للقياه فأجده منتظر ، فنتقاسم الأكل سويا على جسر الحقل فإن كان الجو ممطرا داخلنا عشنا ، وأقص علية أنا ما جرى معي أو لي في المدرسة ، وهو يستمع لي في شوق ولهفة ، وعند انفضاض الغداء يكون اللعب والمنافسة في تسلق الشجر ،
وكنت قد(توهمت)أنني أصبحت ماهرا في التسلق ، وشيئا فشيئا أصبحت أسبقه في التسلق والوصول للقمة ثم مع مرور الأيام (مرة أخري) أقولها حاليا والألم يعتصر قلبي (توهمت) أنني أبرع منة كثيرا وكنت بطفولتي الساذجة أسخر منه لأنني أصبحت مؤخرا أسبقه دائما ، حتى أنه مؤخرا لم يعد يسبقني ولو مرة واحدة بل أصبح يأتي الى القمة متأخرا ، يأتي متقطع الانفاس لاهثا بعد أن يستريح على أحد الاغصان في منتصف التسلق ، (ولم أدرك حينها السبب) ومرت الأيام على هذه الصداقة ثم الشهور (وليست السنوات) بدأت ألاحظ علية اصفرار الوجه والهزال بدأت البطن تعلو شيئا فشيئا ، حتى جاء يوم توقف في منتصف تسلقه لأحدى الشجرات وكاد أن يسقط عنها وساعدته على النزول ،ومن يومها(ونظرا لانتفاخ بطنة) لم يعد يتسلق بعدها الشجر ،وتغير الحال فبعد أن كنت أنا أقف أسفل الشجر وهو في الأعلى واصفا اكتفى بأن أتسلق أنا الشجر وأصف له المشهد من أعلى وهو أسفل الشجرة في البداية واقفا ثم بعد ذلك جالسا(طبعا تدركون السبب) يتطلع إلى وأنا على قمة الشجرة
وفى أحد أيام الربيع ونحن نتناول الغداء شعر هو بالألم وأفرغ ما في جوفة ولم يكمل غدائه وأكملت أنا الغداء ، لطفولتي ولم أعرف ما أصابه أو ماذا ألم به
وفى اليوم التالي كعادتي ذهبت إليه مسرعا بعد المدرسة وأنا أحمل غدائنا فلم أجده ، وبحثت عنه عند أبقاره وفى حقلة فلم أجد له أثر فتسلقت أحدى الشجرات وناديت علية عله نائما هناك أو هنا ولكن لم يرد على صوتي أحد إلا الصدى ، فنزلت وتناولت غدائي لأول مرة وحيدا بدون هذا الصديق الوفي ، وقضيت اليوم بين الجلوس قلقا وحيدا بجانب أبقاري أو متطلعا للطريق متأملا أو واقفا على إحدى الأشجار أنادى علية حتي قرب حلول المساء ، ولخوفي من الظلام بعد غياب الصديق ومصدر الامان ركبت حماري وأخذت أبقاري وسلكت طريق البيت باكرا عن كل يوم ، وفي منتصف الطريق وجدت جمعا غفيرا من البشر يسيرون في صمت وحزن على الجانب الأخر من الترعة وبينهم أبي ، فخمنت أن هناك من توفي من الكبار وهم في طريقهم للمقبرة ، لكن حين شاهدت أخو صديقي الأكبر بين الجمع يبكي تملكني الجزع واشرأبت عنقي في لهفة للنظر للمحمول على الاعناق بين الجموع وصعقت حينها
يا إلهي أنهو هو!!. . . . . . صديقي !!. . . . صديقي الوفي !. . . . . . . . . . . . . وظللت أتطلع لنعشة وأنا على الطريق المقابل حتي دخلوا المقابر واختفوا عن مرمى البصر ، وإذ بهذا الصبى (أنا) وهو جالس على حماره يرفع يده الصغيرة ملوحا ومودعا صديقة الوفي والدموع تنساب على وجنتيه حزنا وألما على فراق رفيق الصبا
(بعد فترة من الزمن عرفت السبب المباشر لما أصابه في حينها ، فالسبب هو تضخم وارتشاح الطحال الناتج عن الاصابة بالبلهارسيا ، وعلاجها لم يكن ليكلف شيئا لو كان هناك وعى أو اهتمام ورعاية حينها ،وأدركت في مرحلة أكثر تقدما ، أن السبب غير المباشر هو الفقر والجهل وإهمال الأهل والدولة والمجتمع ، واستغلال طفل يتيم الأبوين من أهل الجشع)
ليتني أدركت في حينها. . . . . . ليتني أدركت في حينها
بذهاب صديقي كل شيء ذهب
فقد امتنعت عن الذهاب الى الحقل بأبقارنا
بيعت أبقار صديقي الثلاث التي طالما كان يعتنى بها
تهدم العش الذى بنيناه لنؤى إلية عند البرد أو المطر
ورغم مرور كل تلك السنوات على فراقه ، لم يحدث ولو مره واحده أن حاولت تسلق الشجرـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م