الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خمسة أعراس لم يرقص بها أحد

محسن حنيص
(Mohsin Shawkat)

2015 / 1 / 1
الادب والفن


خمسة أعراس لم يرقص بها أحد

...

في آخر زيارة للعراق كان لابد ان أمر بمدينة (الثورة ) وأبيت ليلتين في الزقاق العتيق الذي خرجت منه ضيفا على (راضي حسن ) صديق الطفولة والشباب والايام العصيبة . وجدت تبدلات كثيرة في المدينة . هناك مظاهر كثيرة اختفت ومنها الرقص والغناء والخمر . تبدل شكل الأعراس فلم تعد مناسبات للرقص والغناء بل للنكاح . لم يعد هناك سوى مكان واحد في المدينة للخمر هو باص خشبية عتيقة مختبئة وراء سياج من البلوك واشجار النخيل . ورث راضي الباص عن أبيه وجلس خلف مقوده زمنا طويلا . وجدته كما تركته غارقا في التفلسف متخذا من الباص صومعة لتأملاته . لم يعد الباص قادرا على السير بعد توقف قلبه فتحول الى حانة شبه سرية لشباب الحي . وقبل ان نشهد معا آخر عرس جلسنا في الباص نشرب الخمر وفتحنا ذاكرة المدينة ورحنا نستعرض تاريخ الرقص والغناء , وتوصلنا الى عزل الأعراس التي لم يرقص بها أحد والظروف التي دعت الى ذلك .
......
......

1 - عرس العريف كاطع
...
قاطع الحي كله هذا العرس بسبب القسوة المصاحبة له . هذه هي الزوجة الثانية لكاطع . تزوج عريف الشرطة كاطع في نفس البيت الذي تحتضر فيه( رومية) زوجته المصابة بالسرطان . بقي كاطع لوحده في ساحة العرس جالسا على كرسيه أمام طاولة مغطاة بقماش أبيض وعليها باقة ورد من البلاستيك ووعاء ماء زجاجي ( سراحية ) مع قدح . كان هناك خمسمئة كرسي فارغ من حوله . وكان الوقت يمضي وهو ينتظر من يزفه .
في اعراس مدينة الثورة هناك عقيدة راسخة هي ان فض البكارة لا تتم الا اذا تم بعص العريس ( وضع الاصبع الوسطى في الدبر ) قبل دخوله على عروسه ( الزفة ) . ويقوم بذلك عادة اصدقاؤه المقربون او معارفه . وكلما كانت عدد (البعابيص ) والاصابع اكثر كلما كان الوقت اللازم لفض البكارة أقصر .
في ساعة متأخرة من الليل دخل الزقاق ( نجم ابو ليلى) السكير الابدي عائدا من الحانة . شق طريقه مترنحا في العرس بكراسيه الفارغة ونشرة الاضواء التي مازالت مشتعلة بلا جدوى . قام كاطع من كرسيه ليحييه فقد وجد فيه مفتاح الفرج والأمل الأخير في الحصول على زفة .
كان (ابو ليلى ) بالكاد يرى طريقه فقد وضع العطش الذي يعقب الخمرة ( عطاش الكحول ) غشاوة على عينيه و جفف فمه . وقعت عينه على وعاء الماء , وبدل ان يواصل طريقه مخترقا العرس انحرف نحو الطاولة التي يجلس خلفها العريس ببدلته البيضاء وشاربه المصبوغ بالفحم . أنتعشت آمال العريف كاطع ومد كفه لكنه لم يجد كفا تصافحه . تركه ابو ليلى وتناول وعاء الماء . وضع فمه وعبه حتى آخر قطرة . وعندئذ استعاد قدرا من وعيه ليمسح العريس بنظرة طولية من أخمص القدم الى قمة الرأس . وقذف عبارته :
(( وانت شدعوة مستعجل ؟ خليها عاد تموت ))
و ترجمتها :
(( لم العجلة ؟ , انتظر (رومية ) حتى تموت ))
رمى جملته دون ان ينتظر جوابا وواصل طريقه تاركا كاطع لوحده . كان أبو ليلى هو خاتمة اليوم في الحي . بعده لن يخرج ولن يدخل أحد حتى شروق الشمس .
نظر كاطع بحسرة الى ابو ليلى وهو يعطيه ظهره و يبتعد مترنحا وهمس له بحرقة :
(( على الأقل بعبصني ))
كان بودنا ان ننقل نداء التوسل هذا بلغته الأصلية ( عاد بعبصني ) . لكننا نخشى من سوء الفهم لغير الناطقين بلغة المدينة . لأن مفردة (عاد) التي تقابل (على الأقل) لا تستخدم بهذا المعنى ألا في مدينة الثورة .
بقي كاطع لوحده . لم يزفه أحد , زف نفسه بنفسه . لم يجد من يبعصه فمد اصبعه الى دبره وبعبص نفسه . دخل على عروسه الجديدة بينما تلفظ (رومية) انفاسها الاخيرة في الغرفة المجاورة . استغرق فض البكارة الليل بطوله , أمتد حتى الفجر . ماتت رومية وهي تسمع جميع التؤهات والحمحمات وصيحات الشبق وصرخة الرعشة التي خرجت من فم ضرتها .

..

2 - عرس حجي ريسان
..
بسبب البخل فشل عرس (حجي ريسان ) , وانتهى دون ان يرقص فيه أحد . واثبت للحي ان البخل والفرح لا يجتمعان في مكان واحد . عدا دكان البقالية يملك الحاج ريسان باص للنقل بين مدينة الثورة وباب المعظم يقودها ( سماري) وهو سائق أجير أقرب الى العبد , يعمل منذ عشرين عاما دون ان يزيد أجره فلسا واحدا . ولكي يستعبده الى الأبد فقد خطب ثلاثة من بناته لأولاده الثلاث . ولكي يختزل المصاريف الى الثلث فقد قرر ان يزوجهم في يوم واحد . كلف الحاج ريسان اولاده بكتابة بطاقة الدعوة بخط اليد و استنساخها على ورق الكاربون . استنسخ منها الف وخمسمئة نسخة . قدر معدل (النقوط ) المتوقع وهو المبلغ الذي يدفعه المدعو للحفل كهدية وطرح منها المصاريف فوجد العرس مشروعا ناجحا . كان الحاج ريسان مصمما منذ البدء على ان لا يخسر فلسا واحدا . بل على العكس سوف يربح من عرس أولاده مبلغا يكفي لشراء سيارة أجرة ووضعها بيد الأبن الاصغر لسماري واستعباده لربع قرن قادم .
لا احد يعرف ان كان ماحدث في العرس صدفة او ان الحاج ريسان قد خطط له , فقد كتب في بطاقة الدعوة ان الحفل تحييه فرقة (فليفل) للرقص الشعبي . والحقيقة ان فليفل وفرقته ليسوا قادرين على أحياء الحفلات فقط بل واحياء الموتى ودفعهم الى الرقص . تختص الفرقة بما يسمى (البزخ ) وهو الرقصة التي اخترعها ابناء هذه المدينة والتي تسمى احيانا ( الردح ) , وهي خليط متجانس من المرارة والفرح وانفلات لا مفر منه ورغبة عارمة في الانعتاق من قيد غير معروف تماما . وقد تم كتابة العبارة بخط عريض ووضع قوسين كبيرين على كلمة ( البزخ) التي تبشر برقص أقرب الى الجنون خصوصا حين يؤديه فليفل وجماعته . سحبت هذه العبارة عددا كبيرا من المدعووين وغير المدعووين . وبسبب العبارة تحمل الكثير مشقة الوقوف والجوع فقد كان هناك نقص في الكراسي والأكل . وتحمل الحضور الزهد المفرط في كمية الطعام وخلوه من اللحم . وشعر الكثيرون منهم أنهم في دير للرهبان اكثر منه عرس .
كان الموسم حافلا بثمار (الرقي ) الذي يعرفه بعض العرب بأسم ( البطيخ ) . ولولا وفرته في ذلك الموسم لبقي نصف المدعوين بلا عشاء . وكان لغزارته يباع بالعربات وليس بالمفرد . فلكي تشتري عليك ان تأخذ العربة كلها . اما اذا انتظرت حتى غروب الشمس فسوف تحصل عليها مجانا . كأن سماء البلاد أمطرت رقي . في يوم العرس نقل الحاج ريسان نصف ما موجود في السوق من هذه الثمرة . وقد حلت هذه الثمرة مع ارغفة الخبز المتبقية مشكلة نفاذ الرز والمرق . كانت قشور الرقي تتكدس على جوانب الشارع في تلول صغيرة وفي السطوح وتحت الكراسي . تحمل الجميع هذا الأستعراض السافر للبخل على أمل ان يعوض بالرقص حين يطل فليفل وفرقته .
كانت هناك مفاجأة غير متوقعة تنتظر الجمهور . بعد أن وضع الحاج ريسان ( نقوط ) المدعوين في جيبه . أشار الى عريف الحفل ان يتقدم للجمهور ويعلن لهم خبرا غير سارا وصله توا . قبض عريف الحفل على عنق الميكرفون وأعلن أسفه عن تعذر حضور فليفل وفرقته . ففي طريقهم الى الحفل أوقفتهم مفرزة حزبية وخيرتهم بين احياء الحفلات أو الدفاع عن الوطن . فلبى فليفل نداء الواجب المقدس وتطوع مع كافة افراد فرقته في الجيش الشعبي . وكانت هناك باص عسكرية تنتظر , سلمتهم سلاحا وبدلات زيتونية ونقلتهم الى الجبهة في قاطع ديزفول .
القي الأسف على عجل وبعذر لا يسمح بالتعليق . خلف الأسف والعذر ظلالا من الشك على العرس . صار الحضور ينظرون في وجوه بعضهم . ماذا جرى بالضبط ؟ المعروف عن فليفل انه لا يلبي مثل هذه النداءات . لا يلبي فليفل سوى ندائين فقط هما الرقص والخمر .
((ولكن ايها الجمهور الكريم لن نترككم تعودون الى بيوتكم بخفي حنين . سوف نقدم لكم مطربا يدفن موهبته منذ عقود من السنين في معمل النسيج الصوفي ( معمل 1 حزيران ) في كمب سارة , حيث تبتلع مكائن النسيج صوته فلا يسمعه أحد . مطرب يسير منذ زمن طويل على خطى (سلمان المنكوب ) دون ان نتعرف عليه . اعزائي الحضور يسرني ان اقدم لكم نسخة لاتقل جودة عن الأصل أنه المطرب .
(( رحيم المنكووووووووووووب ))
كان هناك عرف يحترمه الجميع في أعراس مدينة الثورة هو ان يمنحوا المغني الجديد عشرين دقيقة ليظهر مواهبه , فاذا لم يرقصوا او يطربوا بعدها فسوف يطلبون منه التوقف او ينصرفوا تاركين المطرب يغني لنفسه . أما اذا سبب صوت المطرب اضرارا لحاسة السمع او أحال الجمهور الى فضاءات أخرى لاتمت بصلة للموسيقى او الرقص فسوف يلجأ الجمهور الى أساليب قسرية لأيقافه . وماحدث في تلك الليلة ان صوت (رحيم المنكوب) أحال العرس الى معمل للنسيج . لم يكن هناك اي أثر او لمسة تشير الى (سلمان المنكوب ) . ما أن مرت الدقائق العشر الأولى حتى وجدت راضي وسط ذلك الصخب يقترب مني ليبث نفس الأنطباع الذي يجول في خاطري .
((رحيم المنكوب هو ماكنة نسيج تغني )).
هل تسمع ؟ قال لي . الا تشعر انه بحاجة الى تزييت ؟ . هززت له رأسي مؤيدا . حقا أنه ماكنة قديمة جدا وتحتاج الى تزييت . احيانا تصدر منه حشرجات وضربات مكوك ومسننات تحتك ببعضها فتحدث صريرا واختناقات وتوقفات كأن هناك خيوطا تتقطع . بعد عشرين دقيقة من الاصغاء اصبح واضحا ان هناك خطأ ما يجري . ويبدو ان هناك معلومة لم يذكرها عريف الحفل وهي ان رحيم المنكوب مطرب النسيج الصوفي كان اطرشا . اذ لم يسمع النداءات والصيحات المتكررة للتوقف عن الغناء .
كان من الواضح ان اسكاته يحتاج الى وسائل بصرية بعد تعذر الوسائل السمعية . كان اول قشر رقي حط على ظهره جاء من أحد السطوح لكنه تجاهله وواصل الغناء . ثم جاء تصحيح في الرمي فوصل القشر الى رأسه فتجاهله ايضا . مع توالي وكثرة القشور اصبح التصويب عشوائيا واغلبه في القفا . كان لابد من الدقة في التصويب حيث المطلوب هو التسديد في الفم لأسكاته . تكاثرت عليه القشور . خصوصا من السطوح , وحين هرب طاردته , كانت هناك ابواب في طريق هروبه تفتح على عجل فتخرج منها قشور من تحت عباءات سود ترشقه ثم تدخل وتوصد الباب . وأراد (حجي ريسان) ان يقول شيئا فانهالت عليه قشور الرقي . ثم انهالت على العرس فهرب العرسان الثلاثة الى جهة مجهولة تطاردهم قشور الرقي .
..

3 - عرس عماد مياسة
..
ولد عماد مياسة وهو يحمل حاسة شم قوية جدا من النادر ان تخونه . يمكنه وهو معصوب العينين ان يميز ان كان امامه حيوان ام نبات ام جماد , قطة أم فأر , كلب ام طير . وقبل ان يبلغ الخامسة عشر ظهر في برنامج مسابقات تلفزيوني يقدمه الفنان ( سامي قفطان ) . عصبت عينا عماد مياسة ووضع أمامه عشرة أشخاص ليحدد بأنفه طبيعة عملهم . واستطاع في نفس البرنامج التعرف على محتويات عشرة اطباق من الطعام دون ان يتذوقها . كان وجهه مغطى تماما بفوطة سوداء ولم وترك له سوى ثقب صغير يخرج منه منخريه . و ما ان انهى دراسته الاعدادية حتى وجد له خاله (مياس ) وهو شرطي في مديرية الأمن ميدانا خصبا للأستفادة من حاسته الخارقة حيث قاده من يده و قدم اوراقه الى كلية الامن القومي في منطقة الفحامة . وفي الاختبار العملي استطاع عماد ان يهزم خمسة كلاب بوليسية ويتعرف على القاتل بعد عجز هذه الحيوانات المدربة . فقبل في الأمن القومي على الفور .
خلال ثلاث سنوات من الدراسة التطبيقية في المعتقلات وزنزانات التعذيب في الامن العامة والشعبة الخامسة للأستخبارات تم تدريب انفه بحيث يكون قادرا على شم المعارضين السياسيين للسلطة والتعرف عليهم بمجرد الاقتراب منهم . بل وشم جميع الاماكن المحتملة التي يلتقون فيها من جوامع او اوكار سرية مخترقة والكتب التي يتداولوها . وحين تخرج برتبة ملازم في مديرية الامن العامة كلف بتشكيل شبكة من الوكلاء والجواسيس في مدينة الثورة . وضع خارطة دقيقة لجميع الأماكن التي تخرج منها الروائح الممنوعة .
لا نعرف المصير الذي آل اليه عماد مياسة بعد 2003 لكننا نعرف عن كثب فترته الذهبية . الانجازات التي حققها انفه و فترة صعوده و تألقه و يوم عرسه طبعا .
كانت مسيرة عماد مياسة حافلة بالأنجاز ومليئة بالضحايا . لا يمكن ان نتحدث عن جميع الضحايا لأننا نحتاج الى مجلد كامل لكننا سنكتفي بنماذج مبتسرة من قطاع 20 الذي خرج منه هذا الأنف الأسطوري .
بدأ باقرب الجيران . وهذا أمر طبيعي لأن حاسة الشم هنا لا تخطئ أبدا . اثناء مروره شم رائحة كتاب (فلسفتنا) لمحمد باقر الصدر بين الكتب المدرسية التي يحملها (علي ابن حجي حسن) ممزوجة برائحة الحسينية ( الشوشترية ) في مدينة النجف . عرف منها ان علي يتصل دوريا بالفيلسوف والفقيه (المخترق أمنيا و المراقب لحظيا ) وربما يكون وكيله في قطاع 20 . اكتشف ان ( زينب) اخت علي هي الاخرى تخفي كتبا ممنوعة تحت عباءتها . كان أنف عماد لايخطئ أبدا . لم يمض سوى شهرين على هذه (الشمة) حتى اختفى علي واخته والأخ الأصغر قاسم .
كان شم الشيوعيين اسهل بكثير من غيرهم بسبب رائحتهم النفاذة . كان بيت (سالم مهاوي) الطالب في كلية الطب في البصرة على بعد عشرين مترا . فكان مجرد ان يزيح عماد فراش النوم و يخرج أنفه كافيا لمعرفة مايجري في البيت المقابل . ويعرف من يدخل ومن يخرج . استطاع ان يشم ( سعدون عباس الحريشاوي ) زميل سالم في كلية الطب . وحين أرسلت دائرة أمن البصرة الى بغداد أستفسارا عن الطالبين المعتقلين لديها , انتقل الاستفسار من يد الى أخرى حتى وصل الى يد عماد مياسة فكتب تقريرا وافيا عنهما عجل في سقيهم عصير البرتقال ممزوجا بسم الثاليوم .
كان بأمكان عماد مياسة تمييز الماوي من غير الماوي والتروتسكي عن الستاليني وجماعة اللجنة المركزية عن القيادة المركزية ( الكفاح المسلح ) . وهو يستطيع تمييز رائحة صحيفة (طريق الشعب ) على بعد 200 متر . وكان بمجرد الوقوف امام الدار يمكنه من معرفة أذا كان البيت يحوي (رأس المال ) لماركس , او (ضد دوهرنغ) لأنجلز , او ( ما العمل ؟) لفلاديمير لينين . او حتى مؤلفات لودفيغ فيورباخ رغم نقده اللاذع لهيغل .
وحين بدأت موجة الكتابات المعارضة على الحيطان وازدحمت جدران المدارس والمنظمات الحزبية بشعار ( الموت لصدام ) كان عماد مياسة هو بطل أخماد هذه الفورة . طلب من مدير الأمن العام الدكتور (فاضل البراك ) مهلة شهرين ليضع بين يديه جميع الاصابع المتورطة . كان يمرر انفه على تلك الكتابات فيعرف على الفور اسماء مرتكبيها . بدأ عماد عمليات الملاحقة واستطاع ان يرسل الى زنازين مديرية الامن قوافل من الشبان المتورطين لا يسعنا ذكر أسمائهم جميعا . زج بالعشرات واختفت آثارهم لكنه استطاع ان يفي بوعده الى مدير الأمن العام .
بعد سنوات طويلة رحنا نعد الذين كانت لنا صلة مباشرة بهم , ممن شمهم عماد بقوة فأخرجهم من عالم الدنيا قبل الأوان , واغلبهم كانوا روادا للباص الخشبية ويسكرون معنا دوريا :
((, بيت فليح الساعدي , بيت مناتي , محمد منشد , وليد جاسم مهدي , بيت شرجي , علي اخو سعدية , حمزة حسين , قادر الفقير , علي وزينب وقاسم من عائلة حجي حسن , محمد عبد الواحد كويش , عبد عداي , حسن ابن نعناعة , كامل كريم , عبدعلي حسين , سالم مهاوي , سعدون عباس الحريشاوي , سعد ابو شيبة , رعد شوحي , صبري ابو صابرين )).
بعد ان جلس على تل من الضحايا . قرر عماد مياسة ان يتزوج . زوجته امه واحدة من بنات اخيها مياس . طبع بطاقات لجميع بيوت الحي , لم يستثني أحدا حتى بيوت ضحاياه . ونشر الف وخمسمئة كرسي , وجلب فرقتين للغجر وثلاثة مطربين من الاذاعة والتلفزيون مع عريف حفل يعمل في الاعلام .
في يوم العرس بقيت الكراسي فارغة , لم يرقص احد . فقد حدثت مقاطعة جماعية لكنها غير معلنة . كان هناك تنسيق ضمني باختراع كم من الاعذار المختلفة و تقديمها على دفعات الى مياسة . فقد هرب اقرب الجيران بحجة موت اقاربهم او زيارة مرضاهم . واخترع سيد عاتي ( عبر مكبر الصوت في الحسينية) وفاة مفاجئة لأحدى بنات الحسن يتطلب زيارة الكوفة والمبيت فيها ليليتين . وادعى جميع الموظفين في الدولة ان لديهم خفارة . اما الطلبة والعاطلين فقد تطوعوا في حملات العمل الشعبي لبناء مجمع 7 نيسان قرب البلديات . ولكي لا تجبر الفتيات على الزغاريد او الرقص فقد تحججن بأضطراب العادة الشهرية . وشرب (نجم ابو ليلى) ليتر ونصف من الخمر (العرق) ليبيت في الحانة . ورتب (هاني حسن الرماحي ) مسؤول الفريق الكروي مباراة فجائية مع شباب المعقل في البصرة في نفس يوم العرس .
خلال يومين فرغ الحي بالكامل ولم يحضر العرس سوى زملاء عماد مياسة في مديرية الأمن الذين ظلوا ينتظرون ان يهتز جبل حصاروست ويرقص لكي يرقصوا بعده . . كانوا جالسين ببدلاتهم الرصاصية وشواربهم التي تحاكي (۸-;---;-- شباط ) وأطراف المسدسات التي تبرز من تحت الأبط . أما أكتافهم فكانت اكثر رصانة وصلابة وسكون من أعمدة قلعة القشلة . صافحوا زميلهم وقدموا له هداياهم المالية ( النقوط ) في ظروف ورقية مغلقة وغادروا الحفل دون ان تهتز لهم شعرة واحدة . وفيما عدا اطلاق العيارات النارية فان العرس لم يشهد شيئا جديرا بالذكر . باختصار لم يرقص احد في عرس ابن مياسة .
....


4 - عرس المدينة
..
بمبادرة من ( الأيادي البيضاء ) احدى منظمات المجتمع المدني تم تنظيم حفل عرس جماعي في مدينة الثورة . يتألف العرس من ( 79 ) زوجا من العرسان وهو نفس عدد قطاعات المدينة بحيث يخرج عروسة وعريس من كل قطاع . كانت الاستجابة فورية وشاملة مما دفع اللجنة الى اللجوء الى القرعة لأختيار العدد المطلوب من العرسان والمغنين والراقصين والموسيقيين والبهلوانيين واصحاب المواهب الغريبة وصالونات التجميل والخياطين والخياطات وغيرها .
وقد مثل قطاع ( 20 ) العروسة ( وهران فليح) وعريسها ( قاسم مناتي ) . والعروسة هي ابنة ( فليح الساعدي ) معلم العربية المعروف . كان والدها قوميا يساريا و من المتحمسين للثورة الجزائرية . وقد بلغ حبه للجزائر حدا دعاه الى طلب اعارة خدماته الى ذلك القطر الشقيق لأعادة اللسان العربي لأبنائه . سافر الى الجزائر مع عائلته و قضى هناك عشر سنوات وانجب خلالها ابنتيه ( وهران ) و ( جميلة ) . وبعد عودته من الجزائر اصبح فليح واحدا من رواد الباص الخشبية . كان يصعد الباص حاملا خمرته بيده ليحدثنا عن ذكرياته في الجزائر .
طبعت اللجنة مئة الف اعلان ووزعت بطاقات الدعوة على مليون ونصف من سكان المدينة . اختير التقاطع بين شارع الثورة ( الجوادر ) وشارع (مريدي) ليكون مركزا للأحتفال ومكانا للمنصة التي يقف عليها العرش الجماعي محاطا بالاعلام الوطنية .
عمل فريق من المتطوعين تجاوز عددهم ( 600 ) شاب وشابة ولثلاثة ايام لتنظيف ساحة الحفل ومقترباته والشوارع المؤدية اليه وصف الكراسي المؤجرة . اخرج الاهالي كل ما في بيوتهم من كراس وارائك وقدموها للجنة ليصبح العدد ربع مليون مقعد .
كان عدد المتطوعين من الفنانين لاحياء العرس قد بلغ رقما يصعب تقديمه في حفل يمتد من السادسة عصرا الى الثانية عشر ليلا . كان التدفق على مقر اللجنة لتسجيل الاسماء جارفا والمكالمات الهاتفية بلا أنقطاع , كل يطلب ان يغني او يرقص او يقدم عرضا بهلوانيا . وكان على اللجنة أن تتصرف فارتأت تمديد الحفل من العصر الى الفجر . وبذلك يمكن تقديم أكبر عدد من فناني المدينة الذين خرجوا من صمتهم .
استطاعت اللجنة بصعوبة بالغة ان تختزل العدد الى ( 1500 ) مطربا وراقصا ومغنيا وطبالا وبزاخا ورادحا وبريكيا وبهلوانا من بلاعي مصابيح النيون ونفاخي النار ومرقصي الضفادع ومروضي الثعابين . واولئك الذين يكسرون طبول الفخار على رؤوسهم والذين يعزفون بأنوفهم او يخرجون أيقاعات من أبطهم . ومغنو معامل النسيج الذي لا يسمح ضجيج المكائن العتييقة بسماعهم , وصبيان عمال الطابوق الذين يمشون على النار واولئك الذين ينامون على المسامير , ومجاميع التحشيش الذين يحولون الكوارث الى أعياد , وبقايا الزنوج نصف العراة . كان تراث المدينة يخرج مثل عفريت من قمقم ..
خرج (حسين سعيدة ) من قبره وسجل اسمه واعدا ان يعيد قصائد (عريان السيد خلف) التي لحنها له قبل اربعين عاما . جاء (خصاف العبد ) الذي اصيب بشلل نصفي اقعده خمسة عشر عاما ووعد ان يهز النصف الحي من جسده . استيقظ (عبادي العماري) و (سلمان المنكوب) . جاء (سيد محمد النوري) بصحبة ابنه (فيصل) . جاءت فرقة (فليفل) وشدة (ابراهيم الاسود) واخيه ( بوسي ) . اتصلت حفيدة (شكرية خليل) ملكة الغجر تلفونيا لتعلن ان جدتها مازالت مغرية , لا زال الوشم في نحرها يسيل له اللعاب وصوتها بعافيته . سوف تحضر مع بناتها واحفادها و(التفريعة) أي احتضان الغجرية وقرصها في فخذها ستكون مجانا . خرج (عبد شنين) من فرن الخبز (الصمون) الذي دفن فيه ذاكرته لثلاثين عاما يرافقه ابن اخيه (رياض) . عبد شنين هو النسخة المعتمدة في المدينة ل(جميس براون) . جاء (حفيظ دحدوح) بديلا مقبولا لعبد الحليم حافظ لولا انفه الزائد عن اللزوم والذي يقبل القسمة على ثلاثة بدون باقي . بعث (فرج وهاب ) ابن اخيه (مصطفى وهاب) نيابة عنه . عاد (حسين البصري) و ( مدلل) و (نسيم عودة ) و ( شامل العماري ) . خرج الراقوص المخنث ( صباح الزبيري ) من عزلته . أعاد الشامة المستعارة الى وجنته وكحله ونزع الشعر عن سيقانه . تقدم (عبد فلك) و (يونس كلو ) و ( العيساوي ) .
وجاء عازف الكمان ( فالح حسن ) يجر وراءه فصيل من العميان يبلغ عددهم 80 عازفا .واتصل 25 مقلدا لسلمان المنكوب و 40 مقلدا لعبادي العماري , 15 مقلد لحسين البصري و 3 لحسين سعيدة . وحضر (حاتم البز ) ليقدم عرضا لموسيقى الجيش . تقدم الجيل الثالث من صناع الفرح وبزاخي العصور الغابرة . واعداد لا تحصى من مطربي خلف السدة الغير مقيدين بأي سجل رسمي .
حضر (سعيد بوردا ) ملك ألأناقة في المدينة من منفاه في بريطانيا ليخيط (79 ) قميصا للعرسان . وتطوع (50 ) حلاقا وحلاقة لتزيينهم . قدمت وزارة السياحة ليلتين في الميريديان .
واستطاعت الأيادي البيضاء ان تحصل على كميات غير محدودة من الطعام الجاهز تبرعت به مطاعم المدينة . وقدم اصدقاء المنظمة في أربيل (عينكاوة ) شحنة من الخمرة المحلية ( العرق ) بواقع أربعين ألف زجاجة . وقدمت حكومة اقليم كردستان كمية من الألعاب النارية ( متبقية من أعياد نوروز ) . وابدى ( 25 ) فنانا عربيا رغبتهم في الحضور الى العرس والغناء فيه مجانا لكنهم تلقوا تحذيرات ونصائح (من جهات لم تكشف عن نفسها) بعدم المشاركة .
لم يعد خافيا لأحد ان الحفل المرتقب هو تحد للأرهاب الذي استهدف المدينة منذ سقوط صدام , ورسالة حادة لأيتامه وللتكفيريين . ان المدينة باقية ومصممة على الفرح رغم سيل الأعمال الوحشية .
غير ان اللجنة المنظمة كانت تحمل رسالة اخرى لا تقل قوة عن الرسالة الموجهة للأرهاب . هنالك عدو داخلي للمدينة يريد مسخها بالكامل . شئ يشبه الارضة ينخر في لبها الابيض النقي في فترات الاستراحة بين مجزرتين .
فيما عدا الخطر الخارجي الذي يهدد بافشال العرس و المتمثل بهجمات الارهابيين هنالك تهديد داخلي يتمثل ب (التيار الصدري) الذي عمل منذ سقوط النظام على بسط سيطرته على المدينة وفرض مزاجه عليها . المدينة التي اقامها الزعيم عبد الكريم قاسم ولم يجرؤ حتى على وضع أسمه عليها نزع عنها اسمها مرتين : مرة على يد صدام والثانية على يد الصدريين . عبر الصدريون علنا عن رفضهم لأقامة العرس . وزعوا بيانا من مليون ونصف نسخة . الصقوه على الجدران وحرصوا ان يوصلوه الى كل بيت في المدينة .
كان الخوف من الصدريين له ما يبرره فهم يستندون الى ذراع عسكري ( جيش المهدي ) ليس معصوما من الانفلات . وانزعاجهم من الحفل أمر لايمكن تجاهله . ورغم ان الدولة كانت تقف في صف العرس وتحميه الا ان القلق بدأ يساور اللجنة . كانت طبيعة الارهاب الخارجي واعماله لاتسمح بالنظر الى الصدريين كعدو للمدينة . المقارنة بينهما فيها ظلم كثير . الوحشية المفرطة للأرهاب تجعل من الصدريين حملان وديعة . كان من الصعب أهمال الصدريين او معاداتهم . كان لابد من التوجه لهم ومحاولة التفاهم معهم .
ذهب وفد الايادي البيضاء الى مكتب الشهيد الصدر لمقابلة الشيخ (حليم الكناني ) المسؤول الاول . لم يخف الكناني أستنكاره و سخريته . أعاد امام الوفد قراءة فقرات من اعلان العرس . قرأ بصوت مرتفع أسماء الغجريات والطبالين والمطربين الذين اعيدت لهم الحياة ومجاميع الزنوج الذين اوشكت الاجيال الحالية على نسيانهم ( على حد تعبيره ) وذكر أسم صباح (الزبيري) واشار الى الخمرة (العرق) متسائلا عن الكيفية التي حصلوا من خلالها على كل هذه الكمية من المنكر بعد ان لعن (كامل الزيدي) محافظ بغداد شاربها وساقيها وصانعها . كانت اللعنة علنية وكتبت على ألواح كبيرة زرعت في ساحات العاصمة وبذلك تحققت فريضة الأمر بالمعروف . ولكي يحقق النهي عن المنكر فقد قام الزيدي بغلق معمل (العرق) في الكرادة .
(( ماذا تنوون بالضبط ؟ , هل تريدون ان تعيدوا المدينة الى عهدها الوثني ؟ . لقد اوشك الناس على نسيان كل هذه الاسماء والمظاهر . انكم تهدون كل ما بنيناه منذ اول سقوط النظام , لم تبقوا داعرا ولا فاسقا ولا سفيها الا وأحييتموه )).
كان على اللجنة ان تمارس اقصى درجات ضبط النفس للخروج بنتيجة ايجابية . لم يرد عليه احد . اكتفى ممثل الأيادي البيضاء بالقول .
(( لكنهم أبناء المدينة , هل تنوون مهاجمتهم كما يفعل الآخرون ؟ ))
(( لن نهاجم أحدا , حتى لو كنا غير راضين فلن نهاجم العرس , لا يمكن ان تمتد ايدينا لابناء مدينتنا . لكننا نحمل نفس القلق الذي تحملونه . هناك مجاميع كثيرة منفلتة وكلها تدعي انتمائها للتيار الصدري , ونحن غير مسؤولين عن المنفلتين ))
..

كان من الصعب عزل المدينة بالكامل واحاطتها بالكونكريت . لذلك تم منع دخول العربات الا بترخيص . اكتفى المسؤولون عن الأمن بأحاطة مركز العرس بالحواجز الكونكريتية وفي دائرة قطرها 500 مترا .
....
يبدو ان هنالك حزمة من اعلانات العرس عبرت نهر دجلة ووصلت الى منطقة اللطيفية , ومن هناك نقلت على عجل الى الفلوجة المدينة العراقية التي احتلها الارهاب واتخذ منها مقرأ لصناعة الموت ومدرسة للأباحية الدموية . انتقل الأعلان من كف الى كف حتى وصل الى (ابو ايوب المصري ) وزير الحرب في دولة العراق الأسلامية . هناك عرس شيعي دسم . مليون ونصف سوف يجتمعون في مكان واحد . بعد استطلاع الموقع وجدت ثغرات كثيرة يمكن الدخول منها . قدر فريق الاستطلاع ان هناك فرصة لهلاك ( 50 ) الف من (الروافض ) أذا تم تجهيز (25) انتحاريا . كان مستودع الفلوجة لايكفي لتأمين هذا العدد , وكان لابد من اللجوء الى الأحتياطي الستراتيجي . اجريت الاتصالات مع الخلايا النائمة وشيوخ الجوامع في العالم العربي .
يجدر هنا ان نتوقف قليلا عند التعديل الذي صدر من (ابو عمر البغدادي) أمير الجماعة بخصوص عدد الحوريات المنتظرات في الجنة . فبدل ان يكون الرقم ثابتا (17 حورية ) اصبح متغيرا . فقد اعتمدت دالة جديدة تأخذ بعين الأعتبار عدد الهالكين ومذهبهم ودرجة قربهم من مراكز السلطة ومكان العملية والصدى الاعلامي . وحدد التعديل ثلاثة حوريات كحد أدنى مقابل كل (رافضي) واحد يتم أهلاكه .
هنالك ( 25 ) عربيا سوف يشاركون بهذا العرس بطريقتهم الخاصة : الاردن 3 , السعودية 3 , مصر 2 , ليبيا 2 , الجزائر 2 , تونس 2 , السودان 2 , العراق 2 , فلسطين 1 , اليمن 1 , سوريا 1 , المغرب 1 , الامارات 1 , قطر 1 , الكويت 1 . ( الأسماء متوفرة لم يريد ) . يحمل كل واحد منهم بطاقة الدعوة كي لايثير الشبهات مكتوب فيها ( وبحضوركم يزداد الحفل بهجة وسرورا ) . وسيأخذ كل منهم موقعه بين الجمهور المليوني .
انتقل الاشقاء العرب عبر الأردن وسوريا الى الفلوجة ومنها وزعوا على ثلاثة اوكار سرية في الغزالية وحي الجهاد والدورة . ( أسماء الأدلاء متوفرة فقد القي القبض عليهم لاحقا واعترفوا بأدوارهم ) . من هناك نقلوا الى محيط مدينة الثورة وزرعوا في الوقت المناسب بأنتظار بدأ الحفل رسميا .
هل نتوقف هنا ؟ لا شك اننا امام مشهد لم يعد خافيا على أحد فقد سجلته آلاف الكاميرات من فوق السطوح ومئات الألوف من العيون التي بقيت مفتوحة , وكل العيون التي غادرت وهي تحتفظ باللقطة الأخيرة متجمدة على شبكية العين . هنالك شئ أسمه الرقص . كان العرس على حافة الرقص . هناك مليون ونصف زوج من الاكتاف تنتظره . شئ يشبه الديدان التي تدبي تحت الجلد .
خرجنا أنا وراضي من باص الخشب بعد ان كرعنا ليترين من الخمر ( العرق ) . وقفنا في ابعد نقطة عن مركز العرس . يمكن القول اننا وقفنا على محيط ما يجري . أتاح لنا موقعنا ان نرى ما جرى بطريقة مغايرة تماما .
بعد ان صعد عريف الحفل ( غالب حمود الأزيرجاوي ) ليشعل أول سهم من الألعاب النارية , حبس الجميع انفاسهم بأنتظار انطلاق السهم . لكننا فوجئنا بصعود عريف الحفل وليس السهم . كان غالب أول الصاعدين الى السماء . بل كان اسرع من السهم الناري . ولوهلة قصيرة جدا شعرنا أننا امام مفاجأة بهلوانية خبأتها اللجنة عنا . شئ اشبه بعروض الافتتاح في الالعاب الأولمبية . حيث يمكن ان يطير كل شئ . هل لعبت الخمرة بعيوننا . ارتفع العرش الجماعي والموسيقيون في زفة واحدة . كانوا اشبه بطبق فضائي يحمل أنوارا . رأيناهم بوضوح ,( 79 ) زوجا من المصابيح البيضاء ارتفعت الى السماء . لم يتشظوا بعد , لم تنفصل العرائس بعد . كانوا مايزالون كل يمسك بكف الآخر كأنهم يصعدون أول مرة قطار الموت في مدينة الألعاب . واصلوا صعودهم حتى تجاوزوا منارة (جامع الرسول) . اصبحت المدينة كلها تحت انظارهم . عند هذا المستوى بدأ تشظيهم الى نجيمات صغيرة . ثم بدأت الألعاب النارية تخرج من أماكن أخرى . وتصعد النجيمات لتتبخر امام أعيننا . استطعنا ان نحصي خمسة وعشرين موضعا تخرج منها الألعاب النارية .
كان من الممكن ان نواصل بهجتنا وشعورنا باننا امام عرض خالص للألعاب النارية لولا موجة من الهلع قد وصلت الى محيط الدائرة وضربتنا مثل أعصار . لم نكن بحاجة الى أعصار لقذفنا بعيدا فقد كان سكرنا كافيا لوحده . كانت الموجة من القوة بحيث قذفتنا انا وراضي لمسافة تزيد على (15 ) مترا , هذا يعني ان قطر دائرة العرس تمدد بمسافة اضافية مقدارها (30 ) مترا على الاقل . غير ان ذلك التمدد لم يكن ممكنا في جميع الاتجاهات بسبب وجود الجدران . من هنا تضاعف حجم الضحايا ليصل الى اكثر من ( 50 ) الف . كان لابد حسب قوانين الامواج ان تضرب الجموع الجدران ثم ترتد . هنا حصل تداخل الاجساد وصعودها فوق بعضها والتحام الصراخ والبحث الغير مجدي عن الأنفاس والفراغ المستحيل , حيث تحول العرس الى مطحنة كبرى . من الأفضل التوقف هنا فاللغة تبدو ركيكة وعاجزة عن اللحاق .
رحت ابحث عن راضي . أمسكت بكفه وسحبته الى باص الخشب . صعدنا الى هناك وبدأنا رحلة التضاؤل . اصبحنا نصغر . بدأت أبعادنا تتضاءل تدريجيا . تركنا الأجساد في الخارج تطحن بعضها . تركنا المجزرة مثل أعصار مدمر يتمدد في كل الأتجاهات . وبدأنا رحلة الذهاب الى الصفر الوجودي . كان لابد ان نكون اصغر ما يمكن , أن نصبح صفرا كي لا يبقى لدينا ما نخسره .
بعد ساعة من المجزرة زف موقع في الانترنت البشرى للعالم الأسلامي وعززه بفيلم يصور الحادث ويكشف أسماء المنفذين والنتائج الباهرة التي تحققت . كان من الصعب وضع رقم محدد للضحايا بسبب الاعداد الهائلة من الجرحى الذين ينتظرون دورهم في الموت .
(الأيادي البيضاء) لم تبتر كلها . بقي منها مايكفي لأقامة عزاء جماعي . انتظروا حتى يفصح الجرحى عن موقفهم ويستقر رقم الضحايا عند (56) الف . عندئذ شرعوا ببناء حاتط في نفس المكان لتسجيل الضحايا , بلغ طول الحائط ( 250 ) مترا وارتفاعه مترين . صبغوه بالأسود . ووضعوا طباشيرا الى جانبه .
تقاطر ذوو الضحايا . وقفوا في طوابير طويلة يخطون بالطباشير أسماء ضحاياهم . جاء الناس للتعرف على اسماء الضحايا والجناة . وضعت اللجنة اسماء ال ( 25) عربي في أعلى الجدار . كان هنالك خارطة تؤشر موضع وقوف هؤلاء السفراء في العرس وحصاد كل منهم . جاء (حنظلة النجدي ) من السعودية في المرتبة الأولى حيث وصل عدد ضحاياه ( 3500) مما يعني حسب الدالة الجديدة ان هناك (10500) حورية تنتظره في الجنة . والثاني من تونس ( أبو دجانة التونسي ) برقم ( 2500 ) . والثالث اليمني ( ابو براء العدني ) برقم ( 2000).
ذهبنا انا وراضي لنكتب اسم (وهران ) عروس قطاع 20 , حيث لم يبق من أهلها أحد , وقبل ان نخط أسمها على الحائط فتشنا عن أسم القاتل فظهر أنه ( ابو حفصة الجزائري ) , لكنه لم يأخذ وهران لوحدها بل أخذ معه عريسها وأهلها وجميع العرسان البالغ عددهم ( 79) , وجوقة المغنين والراقصين في المنصة وما يحيط بها , انتبه راضي الى شئ كان غائبا عن بالي . سألني ان كنت أفكر بما يفكر فيه في تلك اللحظة , فقد وجد جسرا غريبا يربط القاتل بالضحية . يربط وهران بأبي حفصة الجزائري .
يتفلسف راضي حسن في احلك الظروف . ترك بقية الجدار وظل مسمرا امام ( ابو حفصة الجزائري ) . سألته بماذا تفكر ؟ قال ان لديه شعور قوي بأن ابو حفصة يعرف وهران وانه أحد تلاميذ والدها المعلم فليح الساعدي . وانه زميل لها في المدرسة الابتدائية ويجلس معها في نفس الصف .
(( سوف أتحرى عنه . لايمكن ان يكون ما جرى محض صدفة . ان البشر يميلون الى اللقاء بطرق مختلفة )) .
....


5 - العرس الخامس
....
على أثر العرس الدامي لم يبق من بيت فليح الساعدي سوى بنت واحدة هي ( جميلة ) . ومن بيت مناتي لم يبق سوى الأبن الاخير (جاسم ) . لم يبق من هذين البيتين سوى ذكر واحد وانثى واحدة بعد ان ارسلت أنف أبن مياسة نصفهم الى زنازين الامن العامة فلم يبق منهم أثر , وتكفل ابو حفصة الجزائري في شطب النصف الثاني منهم . كان لابد من الاستعجال في تزويجهم قبل انقراض البيتين وضياع اسميهما فالمفخخات والمنتحرون أصبحوا جزءا من الحياة اليومية .
جرى العرس وسط اجراءات أمنية غير مسبوقة , وتكفلت شرطة مكافحة الارهاب والشرطة الأتحادية بالاشراف المباشر على البرنامج المؤلف من فقرة واحدة هي الزفة , حيث سيخرج العريس (جاسم ) من بيته مرتديا بدلة عسكرية وخوذة فولاذية وصدرية مضادة للرصاص ليجد عربة مدرعة مع فوج آلي يرافقه الى بيت ( جميلة ) العروسة التي ستنتظره ببدلة زفاف خاكية مرقطة مضادة للرصاص .
كلفت وزارة الأسكان والتعمير بأنشاء غرفة خاصة للعرس في ساحة وسطية في قطاع 20 . حفرت شركة المقاولات حفرة عميقة مربعة الشكل أبعادها عشرة في عشرة متر وبعمق خمسة امتار , وشيد بداخلها ملجأ كونكريتي مغلق بجدران ذات سمك متر ونصف وبسقف سمكه مترين . أهيل التراب فوق الملجأ ودفن تماما فلم يبق منه سوى فتحة صغيرة للتهوية ومدخل مختزل يمكن النزول اليه عبر سلم من ثمان درجات . وضع داخل هذا الوعاء الكونكريتي المحكم المستلزمات الاساسية اللازمة للبقاء تسعة شهور في اقل تقدير . سرير للعرس وحمام وركن للطهي . لم يكن هناك كراس ولا رقص ولا غناء . نزلت (جميلة ) الى مخدعها الكونكريتي وهي تمسك بيد (جاسم ) . هبطا السلم و وانحنيا لكي يمرا عبر فتحة الباب . ثم سد اربعة من الجنود الفتحة وراءهما .
قطعت جميع الطرق المؤدية للملجأ . وضعت حواجز كونكريتية ( صبات) . ونشرت وزارة الداخلية لواءا ثابتا حول الملجأ سوف يعسكر اكثر من تسعة شهور ولن ينسحب الا بعد خروج جاسم وجميلة وهما يحملان مخلوقا جديدا .
وحين انتهت مراسيم العرس عدنا انا وراضي الى الباص وتناولنا ما تيسر من زجاجات الخمر . شربنا بأفراط كي نحتمل غياب الرقص والزغاريد وطغيان السواد .
((لم يعد الفرح هو الهدف )) قال لي راضي كي يبقي جذوة الخمر مشتعلة . ثم أضاف :
(( لقد تم فصل الرقص عن العرس . اصبح العرس هو النكاح . أنه أمر طبيعي يا صديقي . لابد أن نعيش أولا ثم نرقص وليس العكس ))

..................................
محسن حنيص
- هولندا -









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا