الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حساء سيدي سالم/ اقصوصة

سمير دربالي

2015 / 1 / 1
الادب والفن



مَن لم يتذوّق منكم حسَاء "سيدي سالم " في "المزَنَتّا "*...بجانب "لاقار " *....لاشكّ سيعْجب ممّا سأرويه ..ولعلّه سيقول :هذه مبالغة كاتب ...فلأجل هذا الحساء كنّا -أنا وإخوتي الأربعة وأبناء الدُّوار - ننهض في عُقْب ليالي الشتاء الباردة و نشرع في الجري ..نرمي بأرجلنا في المجهول ..نقضم الكيلمترات ..نطوي الأرض بلا عيون .. ..نركض ..فتركض خلف ظهورنا وتحت أذرعنا محافظنا المقتطعة من بقايا سيقان السّراويل و أكياس النُّخالة ..تهتز ..تنخفض ..فتُشقْشق من داخلها عُلب الشّامية المستديرة -التي تحوّلت بفعل الحاجة الى حافظة أقلام وأعْواد وأقراص... -مُحاكيةً صدى وقع أقدامنا على الأرض ..نمْضي يسابق حلمُنا حلمَ الشمس بالطلوع .. إلى أن نصل إلى سكة القطار ..هناك ..حيث يُعدُّ سيدي سالم " برْمة "الحساء السّاخن ويشرع في ملء تلك الفناجين البلاستيكية الصغيرة وتوزيعها علينا ..

-شدّو الصّف كل واحد ودوْرو ...

وكثيرا ما كنا نتزاحم في الصّف فيُدفَعُ بأحدنا الى حافة بُرْمة الحساء السّاخن .فيلتقطه "عَمّي سالم" بيده ..ويبعده غاضبا ،لاعنا ،صارخا

..-وسّعوا لْتالي ...ملاّ هَمْ ..هاك أنت ..خوذ أنت .. ..

-سيدي سالم عيْشك زيدني شويّة ..

-عمّي سالم يعيْشك جيعان -..

-أكاهُوَ يزّي ..ماعاداش حليب ..يُشير بيده الى أحدنا :ماني عطيتك انت ..

..وما أمرّ تلك اللحظات التي نصل فيها فنلمحُه من بعيد بصدد تنظيف الأواني ..نتجمّع حوله مثل الأيتام ..تسأله عيونُنا فيجيب :

.. ما عادش حليب ..وفَى ما بقاش-

يسقط الخبرُ في أسماعنا كوقع الثلج في الأمعاء الخاوية ..ونظل لوقت طويل متسمّرين بالمكان غير مصدّقين ..فيما تظل أعيننا تبحث عن برمة حساء منسية في زاوية ما ..ثم نستيقظ على صراخ أحدنا : -

فاتْنا الوقت ..دخلوا علينا للأقسام ..

..فنشرع في الرّكض نحو المدرسة .. لا نلْوي على شيء...أتوقف لاهثا أمام القسم ..أطرقُ الباب بقبضة يدي المشلولة من البرد ..يُفتح البابُ ..أهمُّ بالدخول فيعترضني سيدي "المحمودي " بعصاه الطويلة ويلزمني بضمّ أصابع يدي الخمسة ورفعها الى فوق ..ثم يشرع في أداء مهمّته المعتادة... واحد ..إثنان ...ثلاثة ...فيما يظل ما تبقى من حواسي مشدودا الى صحفة الحساء التي لم أعرف مذاقها ذلك اليوم .. .

.. ....مرارة تلك اللحظات ماتزال عالقة في ذاكرتي الى الآن ..وتزداد كلّما مررت أمام "المَزنَتّا " ..التي تحوّلت الى روضة أطفال ..أركن السيارة قريبا من طاحونة "مُقداد"..ينزل إبني الصغير فرحا أسأله :

-أعْطاتك مَمّاك لُمجتك ..-

ايه بابا - يقولها وهو يركض - .. أنيستي جتْ ..أنيستي جتْ ..

ويقف مع أترابه في الصّف ويشرعون في التدافع أمام باب الروضة ضاحكين .. فيما معلمته مشغولة بالحديث الى ام احد الصبية او الى حارس الروضة ... ..

أراقب المشهد ..أشاهده ..فأراني في نفس مكانه ...في زمان آخر .. حين كنت في مثل سنّه أو أكبر بقليل ..أنتظر فنجان الحساء السّاخن ..فلا أحصل عليه الاّ نادرا ..أتذكّر الطابور الطويل في انتظار الحساء ..أتذكر خيباتي الكثيرة ..أتذكر الجوع الذي صار رفيقي اللدود..آنذاك كان للمكان اسم آخر مختلف ..وللحياة طعم آخر شبيه بطعم الغصة ...وللبشر ملامح أخرى غير التي أراها اليوم ...في نفس هذا المكان كان سيدي سالم يوزّع حساءه الخرافي وكنا نحن أبناء الريف المحرومين ..ننهض في العتمة نمنّي النفس بتذوق فنجان منه يذيب ثلوجا تكوّمت في جوْف الأجساد الطّرية اللّزجة ..نركُض ..

......نتسابق ..نتدافع .. نتوجع كل يوم ..ثم نحتمي بالصّمت ...ونقاوم ..فيما كانت الأيام تواصل دورتها المعتادة لتزيد الأجسادَ قوة وصلابة ..
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
la gare:لاقار *
maisonnette:مَزَنتا *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا