الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النّوارس، أو مناديل لوركا

نعيم الخطيب

2015 / 1 / 2
الادب والفن


لا أشعر بالتّعاطف مع أدوارٍ نمطيّةٍ كشخصيّة (هادوك) القبطان السّكّير السّاخر في مغامرات (تان تان)، أو آدم بريكر، الطّبيب الدّاعر في مسلسل (قارب الحبّ)، ولا حتّى جاك ـ هذا مثالٌ للمستجدّين على قارب الحياة ـ وهو يسلّم كامل إيرلنديّته لروز في المقعد الخلفيّ لسيارة الرّينو في قلب الباخرة (تايتا)! لستُ تقيًّا، ولكنّني لا أحبّ أن أعبد الله على حرفٍ، أو أثناء العاصفة، أو قبل احتمال الغرق بدقائق. وأمقتُ صبيانيّة البحّارة، عندما ترسوا السّفن في المرفأ؛ فأوّل ما يقومون به، وفق بروتوكولٍ مسبقٍ، هو تبادل أشرطة الفيديو مع أترابهم على ظهر السّفن الأخرى، لينتهي بك الأمر وقد شاهدت الفيلم الكلاسيكيّ (الفرج المتكلّم) مئة مرّة. شيءٌ يخبرني أنّني لستُ بحّارًا، ليس مثلهم على الأقلّ، ولا أعرف ما الّذي أتى بي إلى هنا!

ربّما تعود بداية الحكاية إلى ما قبل خمسةٍ وعشرين عامًا، عندما استقبلتنا قوارب القوادين في عرض البحر، قبل وصولنا مرفأ طنجة. كم بدا الأمر محرجًا للقبطان وهو يطردهم مفسّرًا أنّها باخرة تدريب، تحمل فتيةً يركبون البحر لأوّل مرّة. ثلاث ليالٍ فقط كانت كافيةً لكي يصبح لليتم تعريفًا آخر. في طريق العودة، انفرد كلٌ منّا بوجعه، وقد ترك خلفه قصّةً، وفتاةً سمراء تلوّح مودّعةً بمنديلها على الرّصيف. التّمرين العمليّ الأوّل قد تمّ: كيف تترك قطعةً من قلبك في كلّ مرفأ؟

استلم كلٌّ منّا تصريحه للتّو. فما إن ترسو سفينتنا في جونيه، حتّى يرتقي الرّفاق إلى بيت (إمّ طوني) في (المعاملتين). تقرأ الزّبائن جيّدًا، فالبعض لم يأتِ طلبًا لكوب الشّاي بالنّعناع فقط. كم أتمنّى أن لا تقوم (إمّ طوني) بتقديم الخدمة بشكلٍ شخصيّ، فقد بدأتُ لتوّي صداقةً مستدامةً مع طيب العِشرة (أبو طوني). عند عودتي في آخر اللّيل، خرجت من قمرة القبطان الشّاب فتاةٌ تتلفّظ بأفظع الشّتائم، بعد رفضها الخضوع لاختبار الخلوّ من الأمراض المنقولة جنسيًّا ـ الّذي ورثه القبطان عن والده ـ وكان الأمر يتطلّب استخدام خلّ التّفاح الطّبيعيّ. همستُ في أذن القبطان: "يا رجل ما كانت السّيدة العذراء لتجتاز اختبارًا كهذا!".

تقترب سفينتنا من الإسكندريّة، أتذكّر أنّني كنتُ قد وعدتُ نفسي أن أدلّلها بقضاء ليلةٍ في فندقٍ متهالكٍ في (المعمورة)، في ذات الغرفة الّتي كان عبد الحليم حافظ قد استأجرها أثناء تصوير فيلم (أبي فوق الشّجرة). في الطّريق أشاهد محطّة القطار الملكيّ في قصر المنتزة. كان الملك فاروق يحمل حكومته كاملةً في هذا القطار إلى الإسكندرية صيفًا. تستطيع أن تحكم العالم أجمع من هنا، ولو لم تكن مقدونيًّا!

أحاول فعل النّوم أو اليقظة، أجلس معتدلًا في السّرير، أدقّ رأسي برأسه كعادة عبد الحليم. الملك فاروق في شرفة قصره، يدير مصر، ويدير ظهره لها تارةً أخرى، مراقبًا البواخر المغادرة. (أبو طوني) يفعل ما يجيده فقط ـ إرضاء (إمّ طوني)، وصناعة العرق البيتيّ وتحضير المازة من حواضر حديقة المنزل. القبطان الشّاب أجهز على مخزون النّبيذ كاملًا، وأتى على ما تبقّى من خلّ التّفاح. السّمراوات في طنجة يلوّحن بمناديلهنّ البيض، المناديل تحلّق فوق سطح الماء. السّاعة الآن الثّانية صباحًا، تستيقظ زوجتي منزعجةً من صوت هدير الموج، وتغلق النّافذة. تسألني ما حكاية البحر هذه اللّيلة. وكيف لي أن أعرف؟ ما كنتُ بحّارًا يومًا، ولا أعرف ما الّذي تفعله كلّ هذى النّوارس في رأسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟