الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلّاق الفرعوني

حسين الموزاني

2015 / 1 / 2
الادب والفن


حسين الموزاني
مقطع من رواية ستصدر قريباً
الحلّاق الفرعوني

أعددت القهوة العربية وشطيرة من جبن الماعز وجلست في الشرفة المطلة على النيل أتأمّل السماء تارة والنهر تارةً أخرى. فسمعت قرعات قبضة خفيفة ومتسارعة. فنهضت وتطلعت من خلال العين السحرية، فرأيت رجلاً مسنّاً ينظر إلى ساعته ثمّ يرفع رأسه ويتطلع إلى العدسة السحرية أيضاً. كان يحمل حقيبة سوداء ودفتر ملاحظات. فالتأكيد أنّه قارئ الكهرباء أو أحد المتسولين المتحضرين، أو لعلّه مجرد رجل تائه يبحث عن عنوان. فتحت له الباب.
سألني الرجل فوراً:
ـ «حضرتك الأستاذ حمدان الربيعاوي؟» فهززت رأسي بتعجّب وقلت له:
«مين؟ حمدان الربيعاوي؟ نعم، نعم...» فقرأ الرجل قصاصة ورق صغيرة وسألني من جديد:
ـ «حضرتك من العراق، مش كده؟».
فأجبت بارتباك:
ـ «أيوه كده. عراقي الأصل، لكن الآن أنا مواطن ألماني».
ـ «مش مهم»، نطق العبارة بتبرم، ثمّ تابع «حضرتك مدعو للمباحث...» فقلت مأخوذاً بالمفاجأة:
ـ «مباحث؟» هكذا انزلق السؤال من فمي باهتاً فيه نبرة يأس ورعب.
ـ «بالضبط. مباحث أمن الدولة في ميدان (لازوغلي)، ولازم حضرتك تجيب معك أوراقك الشخصية، وكمان تمضي هنا دي الوقت على أنّك استلمت التبليغ».
ودعوته إلى الدخول وكدت أسأله عمّا إذا كان يرغب في أن يشاطرني القهوة والجبن، لكنّني شممت رائحة صيام تنبعث من فمه الذي تجمّع خيط رفيع من اللعاب في زاويتيه. وأشرت إليه بالجلوس لكي أتّصل بسفارة بلدي، فأبدى شيئاً من التمنّع والضيق؛ ثمّ نظر إلى ساعته وقال إنّه رجل مسنّ وعليه أن يبلغ بضعة سوريين وعراقيين للمثول أمام لجنة التحقيق. وأضاف موضحاً:
ـ «أنا، الحمد لله، صايم».
لم أعثر على هاتف السفارة، فاتّصلت بصاحبي عبد التوّاب وأبلغته بفحوى الدعوى إلى لازوغلي. فأقترح عليّ أن أعطي الرجل جنيهاً وأطلب منه أن يبلغ المحقق بعدم عثوره على عنواني، غير أنّني توجست من أن تلقي الشرطة القبض عليّ بحجة التسويف والمماطلة. وتطلّعت إلى سترة المبلغ المثقوبة المتهدلة وإلى بنطاله المهبهب المفتوق من تحت الخصيتين بالضبط، حيث برز سرواله الداخلي أبيض حليبياً متسخاً. فضحك الرجل المسنّ وقال «لازم أمشي، فتك بعافية!»
فقلت بنبرة يأس:
ـ «آسف مفيش فايدة! حنعمل ايه؟»
وانتظرت خروجه من الدار ساهماً لا أعرف ما الذي كان عليّ أن أفعله. فاستند الرجل إلى حوضه النحيف ونهض يتأفف بضيق ويسعل سعالاً جافاً.
عدت إلى الشرفة، وارتشفت ثمالة قهوتي التي بردت. وأحسست بطعم المرارة يتضاعف في فمي وبلعومي. ورفعت رأسي إلى السماء الرمادية وهتفت: يا إلهي، لمَ جعلت جلدتي عراقية، ألم يكن بمقدورك أن تجعلها لبنانية أو من أراضي الجزيرة العربية، لكي تُغسل بمياه الأرض كلّها لتصبح بعدها طاهرة مطهرة على الرغم من بحار الدماء؟
وظلّ بصري عالقاً بالسماء لحظات طويلة إلى أن أصابني القنوط، فعدت إلى الغرفة أفتش عن شيء أتسلّى به. ففتحت درجاً وتناولت دليلاً سياحياً تذكرت أنني شاهدت فيه ذات مرّة صورة حلاق متقدم في السنّ، أحمر الوجه، ويبتسم على نحو طريف وغامض. كان يشحذ موساه بجلدة ربطت إلى كرسيّ الحلاقة ويتطلع في الوقت ذاته إلى الناظر بعين واحدة كبيرة، في حين كانت عينه الأخرى شبه مطبقة. وكانت طاقيته تطبق على صفحة من جبينه الورديّ الشديد التغضّن، وقد انتشرت تحت أطرافها شعيرات رقيقة فضيّة ضاحكة. ولم يبد الحلاق مكتفياً بالابتسامة وحدها، بل كان يوعز لزبونه العجوز أيضاً أن يفرج عن أساريره ويطلق عصافيره المرحة المختبئة تحت عمامته المفلطحة الخضراء، عمامة المأذون أو بائع اليانصيب. فجعلتني الصورة الجميلة أشعر بألفة العالم وبساطته، بل جعلتني أشعر بشيء من الفرح والامتنان. وشيئاً فشيئاً نشأت في نفسي رغبة في أن أقوم بعمل ما، كأنْ أحلق شعري مثلاً.
مضيت إلى السوق البلدي أفتش عن دكان الحلاقة وعن صاحبه. كانت تلك هي المرّة الأولى التي أدخل فيها سوقاً شعبياً منذ أعوام طويلة. ولم يكن يختلف كثيراً عن تلك الأسواق التي شهدتها في طفولتي وصباي ببغداد: فثمّة سقائف من قصب وحصران وأكشاك من معدن وعربات جرّ يدوية وطين ومصارين ودماء دجاج وخضروات طرية لامعة وساقية زرقاء الماء والصياح الأليف. فاستحضرت في ذهني صورة الحلاق الفرعوني التي كتب تحتها Welcome, Welcome في آخر السوق، حتّى عثرت على حلّاق يشببه. وأبصرت في بابه رجلين جلسا متقابلين، كان أحدهما يقوّم مسماراً كبيراً. فسألته إن كان هو الحلاق، فتوقف لحظة عن الطرق وأشار إلى الرجل الآخر وقال «المعلّم حمزة!»
فسبقني المعلم حمزة في الدخول إلى الدكان واستل على الفور آلة حادّة دقيقة تشبه مشرط الجراحة، وكانت قذرة إلى حد ما، وأخذ يشحذها بجلدة خشنة تدلّت من حزامه وصار يطرقها على حافة الكرسي لكي يسقط الشعيرات التي علقت بها. ثمّ قال بهمّة وجديّة: «تفضّل يا أستاذ، اقعد براحتك.» جلست على الكرسي العتيق المدكوك البطانة وأسندت قحفة رأسي إلى كمّاشة المقعد الخالية من المرونة. وتطلعت إلى وجهي في المرآة، فوجدته مشروخاً وشاحباً وقد انسكبت عليه بقع بيضاء من ضوء المصباح الساطع الإنارة. وحدّد حمزة في البدء سوالفي ومؤخرة رأسي، ثمّ ألقى موساه والتقط مقصّاً صغيراً مبتور الطرفين، فطقطق به قليلاً أمام عينيّ وكأنّه ينذرني ويتوعدني. وأشعل سيجارة ونظر إلى وجهي المكسور نصفين في المرآة وقال «المهنة دي باظت، مفيش فايده منها خالص!» فقلت في نفسي إنّه ليس صائماً على الأقل! وبعد حين أخذ المقص يقرض في شعري كالفأر، ابتداءً من الهامة، ثمّ من العُطب في زاوية الرأس ثمّ الأطراف والسوالف التي حكّها حكّاً. واقترب من عنقي حاملاً سكيناً قديمة مسنونة، فتذكّرت الرسول الأمني. فتطلع حمزة إلى وجهي الحقيقي هذه المرّة، وأغلق إحدى عينيه بعد أن عبّ دخاناً كثيراً وقذف بحسرة، ثمّ عاد ليكمل عبارته الأولى «بوظوها الكلاب أولاد الكلاب!» هنا تذكرت المرأة الألمانية التي طعنت الزعيم الاشتراكي أوسكار لافونتين طعنةً ماضيةً في حبل الوريد، المرأة التي صبغت وجهها بحمرة ثورية وأخفت سكينها في باقة الزهور لتطعن بها المرشح الاشتراكي لمنصب المستشار. وتذكرت أيضاً زوجة جارنا القديم التي ذبحها أخوها، دليلاً على غسله عاراً لم يسمع به أحد. وعندما انطبقت شفرة حمزة على عنقي، حاولت، وبكلّ قواي، أن أطرد نوبة الذهان التي أوشكت أن تربك عقلي، فصككت على أسناني، وتطلعت في المرآة متأهباً لمواجهة أي خطر محتمل. فيا للصدفة العجيبة! فقد أبصرت في هذه اللحظة بالذات موكب تشييع كان يغذّ السير نحو سوق الخضار. وكان الرجال يحملون نعشاً غُطّي ببطانية أو إزار رمادي ويكبرون بأصوات رخيمة متناوبة. فترك حمزة بلعوني وخرج ليستطلع الأمر، وسمعته يسأل عن هوية الميت. وبعد دقائق رجع متبسماً بوجه طلق بشوش. فسألته عن سبب الضحك، قال إنّه سأل بائع طماطم عن هوية الميت، فردّ عليه بضيق صدر أنّه ليس سكرتير عزرائيل لكي يسجّل أرواح المقبوض عليهم من قبل ربّ العالمين!
وأدركت بعدما أوشكت حلاقة شعري على الانتهاء بأنّني كنت واهماً تماماً حين اعتقدت أنّ من شأن حلاق عجوز أن ينتزع القلق والذهان من نفسي ويخلصني، ولو لساعة واحدة، من جراثيم الخوف التي غرسها رسول الأمن بقصاصته التي خُطّ عليها عنوان قرغيزيّ، إِلاّ أنّ أمواس حمزة جعلتني أستشعر مواضع حكّ كثيرة، حسبتها وكأنّها براغيث دقيقة الحجم تقرص ثمّ تفرّ لتكرّ ثانية. وفي الختام، شعرت بيد خشنة تتحسّس عنقي وتمرر أصابعها على الجمجمة والصدغين مرّات عدّيدة قبل أن تسكب سائلاً دهنياً ذا عطر لاذع القوّة، استطاع أن يوقف رغبة الحك بضع ثوان. ثمّ التقط حمزة منشفة كبيرة ولفّها حول عنقي وقال «نعيماً!» وعلّق صاحبه مقوّم المسامير بالقول "ده حلاقة عريس يا باشا!” وأعطيت الحلاق عشرين جنيهاً فبدت عليه الدهشة، فضرب قميصي بمنشفته ليسقط بقايا الشعيرات، ضاحكاً مبتهجاً.
خرجت من الدكان أراقص كتفيّ، متوهماً القمل والبراغيث وهي تنهش جلدي شرّ نهش. ومرقت أمام صالون حلاقة لامع الواجهة، وهممت في الدخول إليه، لأعيد حلاقة شعري، لكنّني رغبت في البدء أن أغسله وأعقمه، فأسرعت في اتجاه الدار. وتذكرت الشاعر الألماني غوتفريد بنْ الذي تحدث ذات مرّة عن قمل العانة وتشمّع الخصيتين والحكة التي تصيب الجربان، فتسرب الهلع إلى روحي كالشيطان الأسود. فجأة برقت في ذهني براغيث كافكا الأبدية التي كانت تتقافز آلاف الأعوام في معطف البواب التتري ذي النظرة الكونية الخارقة. وأتتني رغبة في أن أحرق ثيابي كلّها في وسط الشارع وأطهّر جسمي باليود والكحول الخالص. فأي رعب يمكن أن تخلفه هذه الحيوانات المجهرية المصاصة الدماء، وأي تطيّر؟! وتذكّرت إِجابة آينشتاين عندما سُئل عن وجود الله، فقال إنّه ليس سوى قملة صغيرة تعتقد أنّ جسد الإنسان هو الكون كلّه وما بعده كون، وفكّرت بالمعلمين السعوديين وهم يشرحون نظرية الرجل اليهودي: «قال آينشتاين، اليهودي ابن اليهودي، لعنة الله عليه، أنّ الزمن هو إحدى خواص المكان المجرد، وأنّه بعد رابع قابل للعدم، وهو نسبي كذلك ومتناه!»








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس