الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقول من تراب

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 1 / 3
الطب , والعلوم


المقالة في أدناه هي علمية، وليس كما يشير لها عنوانها، وقد حاولتُ جهدي تبسيطها، ذلك لأن المادة العلمية صعبة بعض الشيء وبحاجة لتركيز.
أرجو أن أوفق بطرحي التعريفي بعنصرين هامين في الطبيعة هما ... الكربون والسليكون.

عقولٌ من تـــُــــــــراب

عقلان يقومان بخدمتنا بهذه اللحظة التي نجلس فيها أمام حواسيبنا، عقل في رأسنا يعمل ابتداءً من استلام المعلومة عن طريق إحدى والحواس الخمسة ليقوم بتحليلها وتمييزها وإبداء رد الفعل المناسب إزاءها وحفظ ما يهمنا ويستهوينا منها، وعقلٍ ثانٍ داخل الحاسوب يقوم بإظهار العمل وعرضه وخزن ما نأمر الاحتفاظ به.
ملايين الخلايا تعمل الآن مشتركة لخدمة كل ثانية تمر، خلايا دماغية وخلايا صناعية.
جميع الأجسام الحية تتكون من مركبات هيدروكاربونية، أي من ماء (أوكسجين وهيدروجين) ومن كربون.
ولأن عقولنا هي جزء من أجسامنا، فسوف لا نختلف إذاً في أن أحد مكوّناتها الرئيسية هو الكربون.
والسؤال هنا، هل توجد كائنات خُلقت عقولها من مواد أخرى؟
نعم، فالإنسان اليوم (يَخلِقُ) كائنات - وإن تكن غير حيّة - لكن لها عقول مصنوعة من التراب (سيلكون)*.
× × ×
في أول دروس هندسة البدالات الالكترونية، تَعلمنا كيف نَضيفُ أرقام جديدة أي مشتركين جُدد، والعملية يسيرة وليست صعبة قالتها الشركة المنتجة لنا، فكل ما علينا فعله أن نقوم - بواسطة الحاسوب - بخلق مشتركين جُدد !
ولأن مشترك الهاتف هو بشر، استوقفتني كلمة (خَلِقْ) التي يتداولها الخبراء الأجانب ...
(creation - creates)
والفعل (خَلَقَ – يَخْلِقُ) ومنه المصدر (الخَلِقْ) وأسم الفعل (خالق) ...
فتساءلتُ... هل يمكن أن يكون لغير الله في خَلقْ البشر من سلطان؟
وهل هؤلاء الخبراء مُلحدين أو مُشركين بالله؟

(لا أظن) فهم يؤمنون بأن الله يخلق البشر وهو من خَلقَ الحيوان والشجر وحتى الحجر، هكذا تُنورنا الكتب السماوية جميعها، وأرشدنا لها أنبياء الله ورسله، وحتى كلمة (مخلوقات) تعني أن لها خالقٌ، هو الله، وعملية الخَلقْ هنا لا تخصّ سواه.
كل ما في الأمر إننا - كبشر - قومٌ خَلاقون نُصَنّعُ الأشياء غير الحية ونبرمجها، أي باستطاعتنا أن نَخلقُها ونجعل منها مواد مفيدة في مسيرة حياتنا.
وبالرغم من مقدرة عقولنا - نحن الكائنات الحية (الكهيدروكربونية) التي خلقها الله ـ على التحكم بمصير العالم، لكن بإمكان كائنات الكترونية مصنوعة من سليكون (تراب) أن تستوعب وتخزن أضعاف قدرة عقولنا.
كما يمكنها الاتصال ببعض على بُعد آلاف الأميال ومع أيةِ معدات الكترونية في أي ناحية من الكون ... إن وُجِدت، وحالها بذلك أحسن من حالنا نحن بنو عائلة الكربون الذين لا نتمتع سوى بنعمة النسيان، ولا يُمكننا سوى التواصل مع الغير - نسمع ونرى ونشم ونلمس - عن بعد بضعة أمتار لا أكثر !

الكربون...
أهم اللافلزات على الإطلاق، يُسمى مَلك العناصر، مركباته من الأهمية بحيث يُنسب لها أساس الحياة، لأنه أهم عناصر الكيمياء العضوية التي تقوم على أساس شدّة قابليته بالإتحاد مع العناصر الأخرى وكما يلي:
إتحاده بالأوكسجين: يشكل غاز ثائي أكسيد الكربون الضروري لنمو النباتات التي تُوفر لنا الطعام لقيام حياة على الأرض.
وبالهيدروجين: يكوّن الهيدروكربونات والوقود الحيوي (ألفحم والبترول) وإطلاق غاز الميثان.
وإتحاده مع الإثنين ينتج الأحماض الأمينية الأساسية في الجينات لإعطاء الصفات التي تحفظ النوع وتُميز زيد عن عَمر، والنكهات التي تعطي طعم الأغذية.
ومن خلال مدى إشعاع (نظير الكربون 14) نتعرّف على العمر الزمني للأحياء.
وبإضافته للحديد نحصل على الفولاذ شديد الصلابة، ولقضبانه دور في تشغيل المفاعلات النووية، وله دور فاعل بصناعة الأدوية وفي امتصاصه الروائح والسموم، وبخلط أحد أشكاله (الكرافيت) بالطين نحصل على أقلام (الرصاص)، وللماس أهمية ـ نظراً لصلابته ـ بصناعة أسنان آلات الحفر والنقش، كما يستخدم بتزيين التيجان والحلي.
الكربون يتواجد متفتت بالطبيعة أو متحد بالعناصر، نقي وقاسٍ (الماس) إن كان قد نشأ تحت ضغط عالي، أو أملس هش لو نشأ تحت ضغط واطئ فيسمى (كرافيت).





تَشكـّـلَ الكربون منذ مليارات السنين من اتحادات واندماجات في الفضاء وفي نوى الشموس حين يكون تحت سخونة وضغط هائل، وهو المكون الرئيس لأجسامنا وعقولنا التي تقود اليوم كل الفعاليات على وجه الأرض، وهذه معادلة (أزلية) منذ أن خـُـلقت الحياة.

بيد أن عنصراً آخراً هو السليكون، وهو الأكثر توفراً على الأرض، يأبى اليوم أن يكون خاضعاً للكربون كبقية العناصر، ما هو السليكون ؟
السليكون
السليكون (السيليسيوم) هو عنصر شُبه مُوصل، وهو الأول من حيث الوفرة على الأرض.
هو المكون الرئيسي للصخور والتي عند تفتتها نحصل على الرمال، وبالتالي فهو يُغطي 90% من قشرة الأرض (بضمنها قاع البحار والمحيطات).
أدخله الإنسان منذ القدم في البناء كحجر أو خرسانة أو زجاج، وأول من قام بعزل المادة النقية منه هو الكيميائي السويدي (برزيلوس) في العام 1823 ،لكنه ـ أي السليكون ـ أحدثَ ثورة صناعية عظمى منتصف القرن العشرين، عندما أدخِل في اصناعة (أشباه الموصلات).
ماهو شبه الموصل ؟
هو عنصر غير موصل للكهرباء، وعند تشويبه (أي تطعيمه) بعنصر معين آخر وبنسبة لا تزِد عن واحد بالمليون (1000000:1) يصبح موصل، كما أن كمية التطعيم هي التي تقرر درجة التوصيل الكهربائي والمغناطيسي لأشباه الموصلات.
... رُب سائل يستدرك القول أنه لدينا في الطبيعة مزيداً من العناصر الموصلة للكهرباء بكفاءة ومتوفرة وزهيدة كالنحاس والفضة، لِمَ اللجوء لابتكار غيرها؟
الجواب أن المواد الموصلة تحوي وفرة الكترونات حُرّة تجعلها موصلة للكهرباء على الدوام، لكن في أشباه الموصلات نحن مَن يتحكم بتوصيلها وبمدى شدته.
المادة شبه الموصلة (كالسليكون) هي مادة رباعية التكافؤ، أي لدى المدار الخارجي لذرتها أربعة الكترونات، وهي ولكي تتعادل في داخل كل جزيء، سوف تضطر للاندماج مع أربع ذرات أخرى مُشكلة رابطة تساهمية ومُشبِعة مدارها الخارجي ذي الثمانية الكترونات.
الآن ماذا لو طُـُعمت بعنصر خماسي التكافؤ (زرنيخ) مثلاً؟
ستقوم أربع ذرات سليكون بالاندماج مع ذرة الزرنيخ، فيفيض ألكترونها الخامس ويبقى سائباً طليقاً باحثاً عن فجوة موجبة ليملأها، معطياُ للمادة سالبيتها الكهربائية.
أما الفجوة، فبالعكس، سوف تتأتى من تطعيم عنصر ثلاثي مثلاً (جاليوم) بالسليكون فسنحصل على فجوة موجبة، حيث يصبح في مدار كل ذرة جاليوم خارجي سبع الكترونات وستميل لاستقطاب إلكترون لمعادلة شحنتها، لأن المادة بطبيعتها مائلة للتوازن الكهربائي.
× × ×

عند ربط مادتين موجبة بسالبة، ستتصرفان بحسب الجهد المسلط الذي يجعلهما عوازل أو موصلة، أي ستكون كالبوابة التي تسمح بمرور تيار باتجاه معين، وتمنع مروره بالعكس، وهذا هو (الدايود).
بإمكاننا هنا أن نسلط جهداً على بوابة ثلاثية فنتحكم بفتحها وغلقها أمام التيار متى ما نشاء، فالالكترونات تملأ الفجوات مما يجعل البوابة متعادلة وغير موصلة، وبهذا أصبح بإمكاننا أن نتحكم بمرور التيار عبرها أو منعه، وهذا هو الترانزيستور.
من مجموعة دايودات وترانزستورات أمكننا حجز المعلومة، وبالتالي خزنها في الدائرة الكهربائية المسماة (الوورد)، وهي تقابل الخلية الدماغية ألتي تقوم بخزن المعلومة بذاكرتنا على شكل شحنة كهربائية أو تراكيز كيمياوية.
العلم حتى يومنا هذا، لا يزال لا يعرف بدقة كيف هي الذاكرة في عقولنا وكيف تُخزن المعلومة، لكنه ـ أي العلم ـ على دراية كاملة بأسلوب حفظ المعلومة الأساسية في ذاكرة الحاسوب، وفي إدارة عملية حسابية أو إجراءات أخرى في ( الدوائر المتكاملة والمعالج الدقيق) لأنه باختصار هو من صنعها (خلقها)، وأن مراحل تطورها كانت...
الدايود والترانزيستور Diods, Transistors
البوابات الألكترونيةGates
الدوائر المتكاملةIntegreted circuits
وأخيراً ... المعالجاتMicroprocesors

يقوم المعالج الدقيق اليوم بآلاف العمليات، تساعده معالجات ثانوية وذاكرة تتناسب وقابلياته.
× × ×

وهكذا وفي منتصف القرن العشرين، لم يعـُـد السليكون عنصراً مبتذلاً، حين صنّعنا منه العقل الصناعي.
صحيح هو عقل يأتمر بأمرنا، لكنه أسرع وأوسع من أدمغتنا ويتفوق عليها، وليس من إمكانية اليوم بالاستغناء عنه، فالتكنولوجيا تتحكم فينا شئنا أم أبينا ...
في السفر: حجوزاتنا الكترونياً وإجراءات المطار وحركة الطائرة ... حتى العودة للدار.
في طعامنا: تحسين الجينات في الزراعة والتسميد والحراثة، ومن السوق للمطبخ وحتى التعامل مع فضلاتنا.
وفي الاتصالات والسكن والصحة ... في كل شيء.
في خضِم التنافس والمقارنة بين عقلين وكشف عيوبهما:
عيوب العقل البشري (الكربوني) الذي نستخدمه كلنا بهذه اللحظات، أنه يتميز بكبر حجمه (عُشر حجم الجسم) وباستهلاكه قدر كبير من الأوكسجين والطاقة حتى في فترات راحته أي النوم (يستهلك ربع الطاقة التي يُنتجها الجسم وهي طاقة يُزودهُ بها الدم ومتأتية من التهامنا كميات كبيرة من الطعام).
وتعتبر الطاقة التي تُشغل عقولنا كبيرة جداً نسبة لقدراتها الاستيعابية مقارنةَ بما يستهلكه عقل الحاسوب (السليكوني) الذي لا يحتاج سوى قدر ضئيل جداً من الطاقة دون الحاجة لأوكسجين أو خلود للراحة، ويعمل تحت أية ظروف.
فعقل الحاسوب إذاً يستهلك أعشار الأعشار من كمية الطاقة التي تستهلكها أدمغتنا !

وغير هذا وذاك فإن عقل الحاسوب صفحة واضحة بيضاء كريمة العطاء لمن يسأله المعلومة الصحيحة، بعكس عقولنا التي تَشـْغلها صفحات ملونة، سوداء (كره وحقد وكراهية ...) وحمراء (دم وعنف وجريمة ...) وصفراء (حسد ونميمة ونفاق ...).

ورغم ان بإمكان العقل (السليكوني) حل وتحليل أعقد المسائل الرياضية وتحليل البيانات، لكنه لا يزال غير قادر على كشف ألغاز العقل البشري (الكربوني) ليتمكن من فضح كذبه، وحين يتمكن من ذلك، فإنه سيتفوق على آخر ميّزة لازلنا نتبجح بها، ألا وهي ... كتم الأسرار !

... هل سيكون المستقبل رَحباً للعقل البشري المتكون من الكربون، أم للعقل الصناعي المصنوع من تراب، الكاذب أم الصادق؟
ولمن تكون الغلبة ؟

عماد حياوي المبارك

× لا تزال أجهزة كشف الكذب غير موثوق بها حتى اليوم ولا تعترف به المؤسسات الرسمية والقضاء، وعليه فلا زالت عقولنا (تتلاعب) بأجهزة الكومبيوتر... وربما ستظل.
مكونات الطين
يتكون الطين أساسا من جسيمات صغيرة جدًا صفائحية الشكل من الألومينا والسيليكا مرتبطة معاً بالماء. توجد مواد مختلفة في الطين يمكن أن تعطيه ألوانًا مختلفة. فعلى سبيل المثال، يمكن لأكسيد الحديد أن يكسب الطين اللون الأحمر، أما المركبات الكربونية فتعطي ظلالاً مختلفة من اللون الرمادي، بينما تضفي المادة العضوية على الطين اللون الأسود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية
عبد الله خلف ( 2015 / 1 / 3 - 22:51 )
تم التعليق في خانة (الفيس بوك) , و السبب : سعة مساحة الكتابة .
و بيّنا فيها أن (العقل) لا علاقة له بـ(الدماغ) .

تحياتي المخلصة

اخر الافلام

.. مرض الملاريا ينقل عن طريق البعوض ونقل الدم


.. اعرف استعدادات مديرية الطب البيطرى لاستقبال الأضاحى




.. أحد الأشخاص يتجول بالقارب على طريق غمرته المياه بولاية فلوري


.. شهادات ناجين من داخل مجمع الشفاء الطبي خلال اقتحامه من قبل ق




.. مؤشرات على تحسن العلاقات بين إسبانيا والجزائر رغم خلاف الصحر