الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرسّام جان ماري بوميرول

يحيى البوبلي

2015 / 1 / 4
الادب والفن


يستحوذ على بوميرول إعجاب كبير بفن التصوير الطبيعي الداخلي، حيث يرجع الصدى من بواقي العصور الماضية عبر كهوف خافتة الإضاءة. وغالباً ما تعبق المساحات القاحلة والمهجورة لهذا الفنان بعلامات من ماضيه الضائع.

عُرف جان ماري بوميرول، في أعماله المبكرة، بكونه سيداً للفن الإباحي، دامجاً الهلوسة والصور المروّعة بأسلوب لا نظير له. لكن الفنان أبدى، في فترة نضجه، افتتاناً واضحاً بالصور الطبيعية، خصوصاً المساحات المغلقة لشبكات المجاري والنفايات الصناعية ومحطات الصرف الصحي. وبعد، إن الدقة المدهشة وجودة الأداء التي أنعشت أعماله المبكرة لم تتركه، لكنها ازدادت مع تقدمه في العمر.

ولد بوميرول عام 1946، ودرس في أكاديمية الفنون الجميلة في بوردو. في وقت تخرجه، كان لديه ابن في الرابعة من عمره ليعيله، ولذلك ابتدأ مشواره المهني اللامع كمعلم لفن الرسم الميكانيكي ( تعلم تلاميذه كيف يرسمون البراغي والمسامير .. إلخ).

تم الانتهاء من هذه المهنة، لحسن الحظ، عندما سُرِّح من النظام التعليمي. في الحقيقة، كان على معلمي الفن أن ينجحوا بامتحانات يعقدها المجلس التعليمي لتحديد ما إذا كانوا مهرة بما فيه الكفاية لتدريس الفن. وفي الوقت الذي بدأت أعمال بوميرول الإباحية تُطبع ويُبحث عنها بشوق من قبل جامعي اللوحات، رسب في امتحان مدرسي الفن، حيث حصل على علامة F للوحة عري.

وقد شجعه رسوبه على تكريس نفسه بوقت كامل للرسم، مبدعاً بالنهاية عدداً ضخماً من اللوحات الإباحية التي ميّزته منذ وقتها كواحد من أعظم فناني فرنسا في هذا المجال.

تكشف لوحة ذاتية من هذه الفترة عن الفنان كمتنقّل وحالم؛ مسافراً في مقصورة قطار مثقلة بلقطات فوتوغرافية لذكرياته الأكثر خصوصية. تمثلت أساليب عمل بوميرول في جوهرها من خلال هذه اللوحة: تفضيله لحالة "الما بين" لأحلام اليقظة والكآبة:
يكتب بوميرول: "حسب ما أذكر، لطالما صحبني الملل بأمانة. هذه اللحظات الحزينة واللا مجدية، كفراغ سارّ، خلقت تلك الأوهام الغريبة التي تتجول بذاكرتي البصرية على الدوام. مع الوقت، نضجت هذه الحالة غير المألوفة بين الذاكرة والخيال لتصبح نوعاً من التأمل، وقد أصبحتُ متذوقاً عظيماً للعزلة، مفضّلاً ذلك الملل الذي يرافق كل رحلاتي في عالم لذيذ ومسرف وعابث".

على الرغم من الأرباح الكبيرة التي يمكن تحقيقها من الفن الإباحي، انتقل هذا الفنان تدريجياً لما بعد الأشكال الأنثوية، حيث وجد إعجاباً أكبر بالفضاءات الداخلية الخالية من العري:
"مع الوقت، أصبحت النساء في أعمالي الإباحية أكثر تشتتاً وبالنهاية اختفين، تاركاتٍ الأثر الأكثر خفوتاً لوجودهن. هذه اللوحات الداخلية، التي لم يعد يقطنها أحد، قدمت لي، بدلاً من الأشكال الحية، فراغاً غامضاً ينفتح على كل الاحتمالات".

"من هذه اللحظة، أصبحت مفتوناً بسلسلة من الأماكن تحرس ما فيها من أسرار. وقد سمح لي هذا التحول في أعمالي باستكشاف مخاوف الإنسان الأكثر بدائية: الضيق، الهوس، العزلة، الظلام، الحبس، مرور الوقت، الهجر، والموت".

تعتبر لوحة "أمل" التي رسمها عام 1983 مثالاً دقيقاً على أسلوبه الفني الجديد. يكشف ضوء الشمس المائل على الجدار حجرة فارغة كان فيها شخص بذل جهداً كبيراً لبناء مجسم سفينة من البلسم والصمغ. وعلى الحائط مجموعة من الصور الإباحية التي تمثل أعمال بوميرول المبكرة. وفقط عندما نصوب عيوننا باتجاه الباب المخطط نلاحظ المأزق الحزين لبطل اللوحة، ولماذا يمنحه المركب الشراعي أملاً خائباً يائساً.

وبعد سلسلة من "أعمال الحجرات" هذه، انتقل بوميرول لأماكن أكثر قتامة، حيث غادرت أية علامة لوجود الإنسان منذ زمن بعيد. تغيرات الفصول فقط تمنح إشارات باهتة على الحركة والحياة والتحول. في سلسلة "ينابيع ضوء النهار" التي رسمها الفنان عام 1994، تبدو الحركة آتية من الأضواء المختلفة للفصول التي تنسكب بالينبوع.

يقول بوميرول بفخر، متحرراً تماماً من الأشكال البشرية: "بإمكاني استكشاف الكهوف، الممرات، المخازن، الملاجئ، العلّيّات، وكل الأماكن المتوارية.. أبواب خشبية، وقد حرّرت أقفالها وتأرجحت مفتوحة على مغاسل مطبخ صدئة، أو سخانات غاز مطلية، أو حتى سرير عليه ملائات مبعثرة في منطقة مظللة ضيقة".

"هذه المتاهات قد أضيئت من خلال فتحات صغيرة نورها القاسي كشف عن الأجسام التي فيها بلا رحمة. عبر هذه الفتحات نستطيع أيضاً ملاحظة ما يحيط بالبناء؛ الأرض المبهمة والنفايات الصناعية، المستنقعات وأسطح المنازل البعيدة. كل هذه الصور الطبيعية تم تغطيتها بالثلج أو أوراق الخريف في الضوء الذهبي لآخر النهار".

في الوقت الحالي، يعيش بوميرول في باو في البيرينيه، ليس بعيداً عن جان بيير أوغارتي (بالتأكيد أقام الرجلان معارض معاً). تطور منظوره أكثر، وآخر أعماله تمنح فضاء مفتوحاً بشكل أكبر، كأكواخ صيادي السمك والشواطئ.

من نظرة أولى قد تبدو تلك الأعمال بلا رؤية على الإطلاق. ولكن عندما ينظر إليها في سياق الأعمال الكاملة لبوميرول، نجد علامات استمرارية لا يمكن إنكارها. القارب على سبيل المثال، الذي تُرك في لوحة أمل نصف مبنيّ في حجرة، يظهر الآن في المياه، حقيقة لم يحلم بها.

ويستمر الفنان بالتجوال على الشواطئ، باحثاً عن العلامات المحفزة لذكرياته الضائعة. كتب مؤخراً: "بعد أن تجولت وحيداً لفترة طويلة، داخل أماكن غامضة، استطعت أن أنبثق للعالم الخارجي. ومرة أخرى، كشف لي تيار ثري من الذكريات عن لوحات جديدة. لقد أعدت اكتشاف تلك الفضاءات في عقلي، التي افتتنت بها مرة بالماضي".

"وقد ولدت هذه الأعمال عبر سلسلة من المسودات السريعة، أو من رسومات آتية من الذاكرة (ليست دقيقة تماماً ربما) حيث تمكنت مجموعة من التفاصيل من النجاة بدقة متناهية. مرور الوقت يجعل الذاكرة أكثر انتقائية، متخلصةً من كل الزوائد لتعيد بناء أكثر الأشياء أصالة ومعنى".


المقال مترجم عن موقع:
www.johncoulthart.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعات وفاته


.. من المسرح لعش الزوجية.. مسرحيات جمعت سمير غانم ودلال عبد الع




.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله


.. ندى رياض : صورنا 400 ساعةفى فيلم رفعت عينى للسما والمونتاج ك




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في