الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس: إستنقاذ الدولة، وبعد؟؟؟

محمد نعيم فرحات

2015 / 1 / 7
مواضيع وابحاث سياسية



استكمل التونسيون من خلال الانتخابات الرئاسية التي حملت الباجي قائد السبسي لرئاسة الجمهورية حلقة الانتخابات التشريعية التي جرت قبل بضع أسابيع، والتي أفضت لظهور حركة نداء تونس كقوة أساسية أولى في البلاد واندحار حركة النهضة كقوة ثانية بعد أن هيمنت على المشهد التونسي طوال السنوات الثلاث التي تلت إطاحة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

وفي قراءة مبدئية لأسباب المتغيرات السياسية التونسية الأخيرة يمكن التوقف عند مجموعة من العوامل التي بمقدورها المساهمة في تقديم فهم وتفسير لهذه المتغيرات:
العامل الاول: يتمثل في فشل البديل السياسي الذي تبلور بعد إطاحة بن علي في بناء نموذج إيجابي أفضل أو مختلف لما كان قائماً قبله، وقد تجلى هذا الفشل في أربع مستويات أساسية على الأقل لا تستوي بدون استقامتها حياة الناس في كل زمان ومكان: الاقتصاد و السياسة و الأمن و العلاقات الخارجية، خصوصا الموقف من التطورات التي يشهدها الإقليم.

العامل الثاني: المساس العميق الذي ألم بهيبة الدولة، على يدي النظام السياسي الذي أقامته "الترويكا" ، إذ جرى ذلك في بلد ومجتمع له عشرة عميقة وقوية مع الدولة وثقافتها. وقد تكاتف هذا الأمر مع زعزعة لمنظومة التصورات والرهانات والتوقعات التي حملها التونسيون لأنفسهم وللحظة السياسية التي صنعوها، بعد إطاحة نظام بن علي. والفشل الذي أظهرته البدائل السياسية التي قامت على إنقاذ الانظمة التي جرت إطاحتها، من تونس إلى مصر والعراق (في سياقه) فليبيا على الأقل، يشير إلى أزمة بنيوية عميقة تعيشها الحركات التي تصنف نفسها كمعارضات تحمل بديلا لأنظمة الحكم القائمة.

العامل الثالث: لقد كان من المثير أن يتمكن الفعل الشعبي التونسي من إطاحة منظومة النظام السابق، بذكاء وعلى نحو أدهش القائمين به، خصوصا جهة ما بدى له من سهولة الثورة ومن إمكانيتها ضد تغول السلطة القائمة ، لكن الفعل الشعبي لم يمس منظومة الدولة المادية والمعنوية، وكان حريصا على منع حدوث ذلك، في لحظة انفلات تشكل بيئة مواتية للمروق والتخريب، وهذا بالضبط ما فشلت في إدراكه النخب التونسية الصاعدة إلى الحكم، كما أخفقت في التعامل معه بذكاء يشبه ذكاء الحس العام. إن التونسيين يعرفون معنى الدولة ومعنى الحاجة إليها وأهمية تطويرها وتصعيدها، ومطلبهم السياسي التاريخي تمثل عموما في ارتقاء النظام السياسي الذي كان يحكمهم الى مستوى الدولة ونظام الحقوق والواجبات التي يرتبط بها، ووعيهم الجمعي المتورث إزاء الدولة ليس مبنياً على قاعدة الإساءة لها أو تشويهها أو تدميرها ، وهذه واحدة من مزايا عقلانيتهم التي تميزهم عن الكثير من الشعوب العربية .

على أن المعني بتاريخ تونس السياسي المعاصر يستطيع أن يلاحظ، بان موقف التونسيين عموما من الزعامات والنخب السياسية التي تداولت على حكمتهم، قد تحدد بصورة رئيسية بمقدار قرب هذه الزعامات والنخب من منطق الدولة ومتطلباتها، فكلما كانوا كذلك، كانوا يحظون بالتقدير والاعتراف والاحترام، حتى وهم يختلفون مع خيارات هذه الزعامات والنخب ومع سياساتهم، وكلما كانت النخبة الحاكمة تبتعد عن منطق الدولة وتقيم في منطق النظام السياسي وتتردى في اخلاقياته السيئة، كلما كانت تونس تعيش أزمات وتوترات متعددة.

وفي هذا الصدد يمكن فهم القيمة والمكانة التي لا زال يحتلها الحبيب بورقيبة في وعي أجيال من التونسيين كرجل دولة، وكذلك رجال أمثال: أحمد بن صالح والهادي نويره ومحمد مزالي والباجي قائد السبسي (الذي استفاد من هذه القيمة على نحو عميق) رغم أن الكثير من خياراتهم لم تكن تلقى الرضا من فئات أساسية من الشعب التونسي، ولكن موروثهم في ثقافة الدولة كان يشفع لهم ويصون احترامهم رغم الاختلاف معهم.

ونظرا لمركزية دوره ومحوريته في حياة تونس المعاصرة، فإن تدهور مكانة الحبيب بورقيبه في سنوات حكمه الأخيرة قد ارتبط بتغول النظام السياسي على الناس وعلى الدولة نفسها، فيما قراءة إطاحة زين العابدين بن على،جاءت في إحدى أبعادها العميقة، كرد فعل للناس على قيام النظام السياسي بابتلاع الدولة ذاتها وتحويلها مطية لخدمة النظام السياسي القائم، وقد بدى لافتا في هذا السياق أن يعود وعي الكثير من التونسيين في السنوات الاخيرة، للبحث عن مزايا الحبيب بورقيبه كرجل دولة (له وعليه) والاعتراف له بذلك (حتى) من طرف خصوم ايديولوجيين له، لأن "بؤس الحاضر" الذي انتجته تجربة حكم الترويكا، جعل البحث عن الماضي وفيه " سيدا للايام" على ما قال يوما الراحل الكبير محمود درويش.

كما يمكن التوقف هنا ايضا، لفهم ظهور رجل كالباجي قائد السبسي" كممثل متجدد" لفكرة الدولة المفتقدة، رجل ينتمي إلى عصر قديم وجد سبيلا له في لحظة جديدة بمقدار ما إستدعته، وكذلك لتفسير ظهور بيئة حاضنة لدعوته، وبيئة مساندة له ،متعددة المشارب والاتجاهات والخلفيات الفكرية والسياسية والإيديولوجية والطبقية، لكنها تتقاطع عند هدف استعادة الدولة ودورها.

العامل الرابع: لقد جدد المشهد السياسي التونسي كما غيره في مصر وسوريا والجزائر سابقا أهمية موقف الحواضر إزاء ظاهرة التغير واتجاهاتها وإزاءعملية "تريف" السياسة والدولة، وردها لقبلية أولية وبدائية، تجنح نحو التوحش بالمعنى الحضاري للكلمة ، وها ما أخطأت به قوى وشخوص ورموز في ترويكا الحكم السابق، بعد أن رمت وراء ظهرها بخيار ثمين، هو خيار تمدين الريف وثقافته من خلال مشروع يستخرج من الدولة ومن الريف ومن الحواضر ومن اللحظة التاريخية المتاحة أفضل ما فيها، من إمكانيات ومن توقعات ومن رهانات، وملاقاة التحديات الماسة بصورة بناءة وايجابية وناجعة تخلق لها مشروعية وتفاقم من شرعيتها . إن هذا المعطى جوهري لفهم السلوك السياسي لتيار واسع ومتنوع في المجتمع التونسي تختلف وتتباين مكوناته، اقتصاديا واجتماعيا، بيد أنهم يشتركون في الانتماء لثقافة مدنية متجانسة موروثة ومجربة، ويتفقون على ثابت الدولة، كقيمة ضامنة ومؤسسة مضمونة، وعلى الطابع المدني لها، كما هي في طبيعتها وفي جوهرها وفي وظيفتها.

***

في مرحلة عجزت فيها الساحة التونسية عن إنتاج فاعلين سياسيين جدد، يعبرون عن حجم التغير الذي شهدنه البلاد، جرب فيها التونسيون الوبال السياسي والنفسي الذي صنعته المعارضة التي صعدت إلى الحكم ، سواءً لنفسها أم للتونسيين ، وتأكدوا فيها من مزايا الاستقرار ومخاطر الزعزعة وأهمية الدولة ،ها هم يبلورون ضمن ممكنات السياسة ومعطياتها، خيارا يعتقدون بأنه يستنقذ الدولة ويستعيدها من احتمالات التدهور، وقد نجحوا في ذلك انتخابيا وسياسيا.
غير ان الزعامة الجديدة الصاعدة إلى الحكم والفائزة بصعوباته، والتي تستند لموروث قديم جددته الأيام كضرورة، تقف وجه لوجه مع تحديات كبيرة،أقلها هو أكثرها في نفس الوقت، أي ما يسميه موسكوفيتشي "بالإنجاز كمحك للقيادة"، واختبار درس القيادة الأهم المتمثل في القدرة على أن تستخرج من نفسها وزمنها وظرفها أفضل ما فيهم ، وتأكيد قيمة الشراكة وثقافتها كقيمة أساسية في الحكم، وبلورة مشروع سياسي جامع وجاذب يجد غالبية الناس فيه أنفسهم وعواطفهم ومصالحهم، وبناء دليل عام يحكم المجتمع والدولة ويحتكمون له ، ومن باب الحيطة والحذر، فعلى التونسيين "خصوصا الفائزين بالانتخابات والصعوبات معا" أن يتجنبوا الإفراط في الزهو أكثر مما يجب، كي لا يتحول لقوة سلبية ، في لحظة يحتاجون فيها، كل جهد لبلورة خيارات مبنية على صعوبة أن يختلف بشأنها أحد.
------------------------------
*كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تفض بالقوة اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة


.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: مسودة الاتفاق بين حماس وإسرائيل




.. جيروزاليم بوست: صحفيون إسرائيليون قرروا فضح نتنياهو ولعبته ا


.. عضو الكونغرس الأمريكي جمال باومان يدين اعتداءات الشرطة على ا




.. فلسطيني يعيد بناء منزله المدمر في خان يونس