الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إحياء روح مصر القديمة

إكرام يوسف

2005 / 9 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


ليس تحسرا على ما فات، ولا تعذيبا للنفس بجلدها.. وليس أيضا تباهيا بما حققه الأجداد ، ومازال الأحفاد يجاهدون لمجرد الحفاظ عليه من الاندثار.. وإنما لو لكان الأمر بيدي لقررت على تلاميذ المدارس المصرية ـ في جميع سنوات التعليم الأساسي ـ مادة أساسية ، اسمها روح مصر القديمة؛ ولا ينتقل إلى السنة الدراسية الأعلى إلا من ينجح فيها بنسبة ثمانين في المائة على الأقل .. ولحشدت من أجل إعداد كتب هذه المادة أفضل خبراء التعليم، والفلسفة، والتاريخ، وعلم النفس، والتربية، والاجتماع. وناشدتهم الحرص على إخراج هذه الكتب بالصورة التي تضمن إعادة تشكيل وجدان الأجيال الجديدة على النحو الذي يدفعهم إلى الشعور باحترام تلك الروح التي خلدت ذكر أسلافهم؛ والعمل على إعادة إحيائها من جديد، لبناء المستقبل الذي يليق بأحفاد هؤلاء أن يعيشوه.
تذكرت وأنا أقرأ كتاب "روح مصر القديمة" للمؤلفة الانجليزية "آنا رويز" زيارة قصيرة إلى عاصمة الضباب؛ ولما كان الوقت والقدرة المادية لا يسمحان بأكثر من الإقامة لأيام معدودة؛ حاولت فيها الاطلاع على أكبر قدر ممكن من معالم المدينة التي كانت يوما ما عاصمة "الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس"..وكان من بين هذه المعالم بالطبع المتحف البريطاني الشهير. وعندما دخلته وجدت أن مشاهدة جميع أقسامه تحتاج وقتا أطول كثيرا مما أملكه. وعلمت أن هناك حلا مناسبا؛ يتمثل في أن أدفع زيادة طفيفة في تذكرة الدخول لأنضم إلى مجموعة من السياح يتولى مرشد يتولى انتقاء أهم ما في المتحف لإطلاعهم عليه في عجالة. واستملحت الفكرة لأنها على الأقل ستتيح لي التعرف على مختلف حضارات العالم من خلال مشاهدة أهم كنوزها التي نهبها الاستعماريون من مختلف البلاد التي وقعت في قبضتهم. وبذلك أكون حققت أقصى استفادة ممكنة تتناسب مع ضيق الوقت وذات اليد، معا. وسارعت إلى اللحاق بطابور ضم مجموعة من الأجانب تتقدمهم المرشدة. وإذا بها تمر بنا مر الكرام على عدد من أقسام المتحف، ثم تعلن لنا أن مسك ختام الجولة؛ الذي ستخصص له أكبر قدر من وقتها سيكون في الجناح الذي يداعب أحلام جميع الزائرين للمتحف ويشهد الإقبال الأكثر كثافة. وفجأة وجدتني أقف مع هؤلاء في القسم المصري لتشرح لنا في إسهاب مقتنيات (أو بالأحرى منهوبات) المتحف القادمة من آلاف السنين ومن مهد الحضارات. وكدت أنفجر من الغيظ بالطبع بعد أن ضاع اليوم في سماع شرحها السطحي لما أعلمه بالفعل بحكم قراءات واهتمامات؛ وحنين لا يهدأ لسنوات طفولة قضيتها أستنشق عبق الماضي من أغلب آثار مصر بحكم عمل الوالد. وبينما تتحدث المرشدة ببرود شريط مسجل؛ حديثها الذي تردده كل يوم عدة مرات ـ من دون روح ـ على السياح؛ تلفت حولي لأجد عددا كبيرا من أطفال الانجليزـ تتراوح أعمارهم بين الثامنة والثانية عشر ـ بعضهم يطالع باهتمام فائق آثارنا، ومعظمهم استلقى على الأرض متخذا الوضع الذي يساعده على رؤية جيدة لما يحاول أن يرسمه من هذه "المقتنيات". وسألت أحدهم عما يفعل؛ فأخبرني أن المدرسة كلفته بعمل بحث عن الحضارة المصرية؛ التي هي أول ما يدرسه أطفال المدارس البريطانية في مادة تاريخ العالم. ولا أنكر أنني شعرت بما يشبه الحسد. وتمنيت لو وجد أطفالنا من يدلهم على هذه الكنوز التي بين ظهرانينا، ويشرح لهم كيف كانت روح مصر القديمة ملهمة لأبنائها؛ وكيف فاض هذا الإلهام فلسفة وعلما وثقافة وفنا وعمارة وطبا و... و..و....
تمنيت ساعتها لو كان هذا التاريخ مقررا على تلاميذ المدارس في جميع سنوات التعليم الابتدائي في بلدي؛ بأسلوب سلس ممتع يغوص في بحار الماضي السحيق، ليخرج لنا أثمن مكنوناته بنعومة، ودون إثارة لضجر كالذي تسببه كتب التاريخ المدرسية الجافة .. أسلوب يشد التلميذ لمواصلة القراءة، ويدفعه دون افتعال إلى المقارنة بين ما كان وما آل إليه الحال..فأين من علموا الدنيا الفلسفة والعلوم، من أحفاد كادت عوامل كثيرة أن تنجح في إبعادهم عن التفكير الجاد والبحث العلمي، ودفعهم إلى الانشغال بالتوافه من الأمور وصرف طاقاتهم العصبية والبدنية فيها؟.. وأين من اخترعوا التقويم السنوي وحسبوا مواقيت السنين والمواسم والشهور بدقة فائقة؛ من أحفاد باتت سمعتهم في الاستهانة بالوقت وتضييعه تسبقهم أينما يذهبون؟.. وأين "الفلاح الفصيح" والعمال الذين نظموا أول إضراب حضاري عن العمل مسجل في التاريخ عام 1170 قبل الميلاد ـ استطاعوا بفضله الحصول على حقوقهم قبل أن يتشدق البعض من المحدثين بحقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي؛ بأكثر من ثلاثة آلاف عام.. أين هؤلاء من أحفاد بات يقال عنهم أنهم غير ناضجين سياسيا لممارسة حريات من هذا النوع؟.. وأين "بيشيشيت" المصرية؛ أول طبيبة عرفت في التاريخ المدون (في عصر الأسرة الخامسة 2498- ق.م2345).. من حفيدات صرن أداة يستخدمها الجميع لتحقيق أغراض في نفوس يعاقبة كثيرين: من دعاة انغلاق يظهرون رغبة في المحافظة عليها بحبس قدراتها وكفاءتها وحرمانها من ممارسة حقوقها كإنسان في مجتمع؛ إلى دعاة تحرر لا يملون من محاولاتهم تحويلها إلى سلعة تجلب أرباحا. بل أن الحلبة دخلها مستغلون آخرون لا يرون في المرأة حفيدة "بيشيشيت" سوى ورقة تستخدم للضغط على الحكومات من أجل تحقيق أغراض لا تمت لحقوق المرأة( المدعاة) بأدنى صلة..
لقد أكدت تجارب البشرية منذ فجر التاريخ أن أية قوى طمعت ـ يوما ما ـ في تحقيق السيادة على العالم، كانت تدرك أن تأمين هذه السيادة يستلزم بسط سيطرتها على هذه المنطقة من العالم، حتى قبل ظهور العروبة والديانات السماوية.. ولم تنجح أي قوة عظمى في بسط سيطرتها على هذه المنطقة ـ التي أصبح اسمها الآن المنطقة العربية ـ إلا في فترات ضعف الدولة المصرية وهبوط روحها. وما أن تستعيد مصر روحها القوية حتى تسارع بطرد المحتلين من أرضها، ومن بقية الأراضي المجاورة لها أيضا .. وشواهد التاريخ ماثلة على ذلك: منذ الهكسوس والفرس والرومان والمغول والصليبيين وحتى الاستعمار الحديث الذي بدأ أواخر القرن التاسع عشر.. وإلى ما شاء الله.. فهل آن الأوان أن تبعث روح مصر القديمة من جديد ؛ لتزيل الصدأ الذي ران على قلب مصر الجديدة؟ وهل تعود لتلهم ـ كما كانت دائما ـ أبناءها، وجيرانها، وبقية العالم قيم العلم والحق والعدل والخير والنماء؟ أعتقد أنه قد آن أوان بعث هذه الروح، والاعتصام بها، لرد جميل الأجداد، وتأمين مستقبل نستحقه ويستحق الأبناء والأحفاد.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تبدو النتائج الأولية غير الرسمية للانتخابات العامة البري


.. مراسل الجزيرة يرصد أبرز تصريحات وزير المالية الإسرائيلي سموت




.. بايدن يعترف: لقد أخفقت في المناظرة وكنت متوترا جدا وقضيت ليل


.. استطلاعات رأي: -العمال- يفوز في الانتخابات البريطانية ويخرج




.. أبرز المرشحين الديمقراطيين لخوض انتخابات الرئاسة في حال انسح