الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تراجع لابد منه

كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)

2015 / 1 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


لا أستطيع التخلص من وحش همجي يسكن أعماقي، إذ أنتظر على أحر من الجمر، أن يحيل المجاهدون في سبيل الله "لندن"، إلى كتلة من النار الركام، وقد جعل أهلها منها وكراً لحماية وتفريخ الإرهابيين الفارين من الشرق. ربما هو الغباء المفرط، وراء ألا تنتبه أوروبا حتى الآن، للخطر الداهم والزاحف على حضارتها، وعلى كينونة شعوبها. يبدو أنه من الصعب على الإنسان الأوروبي، إدارك أن هناك كائنات تنتمي لفصيلة البشر، لها طبيعة العقارب والذئاب، وأنها تحتاج لتعامل يتناسب مع طبيعتها. لا مفر للعالم الغربي، من تجاهل "حقوق الإنسان"، في التعامل مع الكائنات، التي لا يتوفر لها الحد الأدنى من مقومات "إنسان". لقد تمادى الأوروبيون في التحضر، إلى درجة أصبحوا معها ككائن، فقد الجلد أو القشرة، التي تحميه من مهاجمة الميكروبات. هكذا تستطيع أضعف وأحقر الحشرات، أن تزلزل كيان هذه الشعوب فائقة التحضر. أبداً لن نفلح في مقاومة الإرهاب، مادمنا نعتبره مجرد تطرف، وليس ممارسات إجرامية، تستند لأيديولوجية وحشية واجبة الاستئصال.
يمكننا أن نرجع تنامي تلك الموجة الإرهابية إلى العناصر الأساسية التالية:
• توافر الحافز المادي والتمويل، نتيجة لتراكم الثروة البترودولارية لدي المراكز المصدرة لفكر الكراهية، وعلى رأسها السعودية، سواء لدى النظام الحاكم أو الأفراد والمنظمات الشعبية.
• توافر العنصر البشري القابل للاستلاب بهذا الخطاب، بموجب مقومات التربية الفكرية والاجتماعية، والوضع الاقتصادي الناشئ عن الفشل الذريع في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عبر نصف القرن المنصرم، في مراكز تفريخ وتصدير العنصر البشري لتلك الموجه، بالتحديد في مصر والدول العربية وباكستان وأفغانستان.
• التشريعات والفكر الليبرالي المنفتح على الآخر في الدول الأوروبية وأمريكا، وترحيب تلك المجتمعات بالتنوع الثقافي كعامل إثراء لحضارتها، دون الأخذ في الاعتبار قابلية الثقافات الوافدة للتأقلم والتعايش المثمر مع الثقافات السائدة في تلك البلدان، أدى إلى تحول تلك المجتمعات والدول إلى مأوى، بل وحاضنة لعناصر الكراهية وتنظيماتها، لتنمو وتترعرع في بيئة نموذجية من الحرية والرعاية القانونية، غير المتوافرة لها في بيئاتها الأصلية، لتتبوأ لندن مثلاً عن جدارة منصب عاصمة الفكر الإرهابي المتعصب وتنظيماته، على مدى يمتد لأكثر من نصف قرن، منذ بدايات جماعة الإخوان المسلمين، الجدَّة والأم لطوفان القتل والكراهية الذي يجتاح العالم الآن بجسارة وثقة.
• العولمة وسهولة التنقلات للأفراد والمواد، وتضاؤل العوائق الحدودية، وتقدم المواصلات والاتصالات، وما وفرته الشبكة الدولية (الإنترنت) والقنوات التليفزيونية الفضائية، من ترويج لخطاب الكراهية، والتعبئة الجماهيرية خلفه، كمثال قناة الجزيرة والمنار، كذا سهولة الاتصال والتنسيق بين جماعات العنف، في ضوء حرية الاتصالات وسريتها المصونة بالقوانين الغربية الليبرالية.
إن نظرة مجملة للعناصر الأربعة السابقة، تكشف لنا أن هناك سبباً أو خيطاً واحداً يجمعها، بحيث يشكل السبب الأساسي لما يحدث الآن في العالم، من خلل أمني وتصادم ثقافي، يتفرد عن كل ما مر بتاريخ البشرية من صراعات، بأن القوى الفاعلة فيه هي الأفراد والشعوب، وليس أنظمة الحكم أو الجماعات المسيطرة على مقاليد السلطة، هذا الخيط أو العلة الأساسية هي التحديث والتقدم لقطاع من البشر (العالم الغربي) في غياب تقدم متناسب – وإن لم يشترط بنفس الدرجة- لبقية العالم، في ذات الوقت الذي فرض هذا التقدم - عبر ما نعرفه بالعولمة - ارتباطاً وثيقاً بين الجميع، الأمر أشبه بالجمع بين المتقدم والمتخلف في غرفة واحدة مغلقة، وضع البيض الفاسد مع البيض الطازج في سلة واحدة، أن تربط بين قدم العداء وقدم كسيح بسلسلة، ليسيرا سوياً في رحلة لا نهاية لها، كأن تصر على ترك نوافذ وأبواب بيتك مفتوحة، وأنت تسكن في حارة للصوص، أو أن ترتدي ثوباً ناصع البياض، لتمر في خان الفحامين والحدادين.
ما يحدث الآن لا يمت بصلة لصراع الحضارات الذي تحدث عنه صموئيل هنتنجتون، فهو أقرب لما تنبأ به هيربرت ماركيوز، من قيام المهمشين بمحاولة تحطيم الحضارة التي لم تحتويهم، لكنه أبعد عن التبسيط المخل، بتصور الأمر كما لو كان مجرد رد فعل الفقراء على غنى الأغنياء، أو رد فعل المظلوم على ظلم الظالم، فثنائيات الفقر والغنى، والظالم والمظلوم، موجودة منذ بدء الخليقة، ونظنها ستبقى إلى أبد الآبدين، لكننا نزعم أن البشرية لم تعرف في تاريخها هذه الحالة من العداء وممارسة القتل لذاته على مستوى الأفراد والشعوب، فقد انحصر الصراع البشري دائماً في دائرة التصادم بين الكيانات الكبيرة، فيما يقاد إليها الفرد أو الشعب انقياداً، بغض النظر عن درجة القناعة المتضمنة في هذا الانقياد، في حين أن ما يحدث الآن هو العكس، فالدول والنظم تتحرك بعكس اتجاه هذا العداء والصدام الشعبي في بعض الحالات، وتستغله متلاعبة به في بعض آخر، وبعضها يداريه وينافقه اتقاء لشره، لكنها لا تقوم بدور القائد والمحرك إلا في حالات تعد على أصابع اليد الواحدة، وهي ما يصطلح على تسميته "محور الشر".
الأمر ببساطة أن البعض قد ذهب في مسيرة التقدم والحضارة أبعد مما تسمح به ظروف بقية أنحاء العالم، في ذات الوقت الذي أدى فيه التقدم إلى الربط الوثيق بين الجميع، المتقدم والمتخلف، وبصورة غير مسبوقة في تاريخ البشرية.
إذا صحت هذه الرؤية، فإن الحل لابد أن يتم بالتحرك عبر ثلاثة محاور:
1. تراجع المتقدمين خطوة أو أكثر إلى الخلف.
2. إجبار المتخلفين قسراً على التقدم ولو بقدر بضعه بوصات (لأن التقدم لم ولن يكون خيارهم الحر، وإلا لحدث تلقائياً خلال ما مضى من عصور)، وتخليصهم ولو بالجراحة من الأورام الإرهابية السرطانية المنتشرة بالجسد، بتجلياتها السياسية والثقافية وخلايا العنف القاتلة.
3. فك أو تخفيف الربط بين العالم الذي فرضته العولمة، حتى لو أدى في بعض الحالات لعزل المتخلف عن المتقدم، بكل ما لمفهوم "عزل" من أبعاد.
سنحاول التوضيح ببعض الأمثلة، لما نعنيه بهذه المحاور، على أن يكون واضحاً أن المطروح ليس وصايا عشر، بل مجرد فروض تستدعي النقاش، وأبعد ما يكون عن أن يوحي بيقين ما:
خطوة أو أكثر إلى الخلف.
ليست تلك دعوة للنكوص لمسيرة الحضارة لتتجه للخلف، هي خطوة أو بعضها للخلف، فيما الوجه يتجه صوب الأمام لاستئناف المسيرة في ذات الاتجاه الصاعد في أقرب فرصة، لابد من تراجع الدول المتقدمة، بالقدر الضروري المحسوب، في مجال التشريعات التي تحمي حرية الفكر والنشر العلني وتكوين التنظيمات والتنقل، كذا في تشريعات حماية الخصوصية من التصنت على المكالمات التليفونية والبريد الإلكتروني، وإجراءات المداهمة والتفتيش والاحتجاز، كل هذه المجالات التي حققت بها المجتمعات الغربية فردوس الحرية الإنسانية، هي أيضاً التي جعلت من تلك المجتمعات جسداً مستباحاً، وغنيمة سهلة ميسورة المنال، لشياطين الظلام والكراهية.
قد يعني هذا خضوعاً للإرهاب، بتمكينه من تغيير طريقة الحياة الحديثة، لكن لا بأس بالأمر إن كانت هذه هي حقيقة الواقع على الأرض، ثم لا بأس أيضاً إن كان هذا هو الطريق الوحيد لوقف طوفان الظلام الزاحف بثقة وإصرار، لا بأس بالتراجع إن كان لمسافة وفترة زمنية محسوبة بدقة، تراجع تكتيكي لابد منه، لتحقيق التقدم الاستراتيجي الدائم لمسيرة الحضارة الإنسانية.
إجبار المتخلفين قسراً على التقدم
لا ينبغي التعويل كثيراً على ما يمكن أن يتحقق على هذا المحور في شقه الإيجابي، بمعني الدفع بالشعوب المتخلفة المصابة بالإرهاب، باتجاه الحداثة والتنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فهذا الطريق قد يكون شبه مسدود، بناء على ما تؤكده الشواهد المعاصرة، من تقدم شعوب شرق وجنوب شرق آسيا، مخلفة وراءها شعوب الشرق الكبير، تتردى من هاوية لهاوية، وتتقدم خطوة لتتراجع خطوات، ومع ذلك يبقى الباب مفتوحاً للمحاولة عبر التدخل القسري للدول المتقدمة، بالقدر المتاح عملياً، لكن الجانب السلبي من الدفع باتجاه التقدم، ونعني استئصال أورام الإرهاب والكراهية السرطانية من تلك المجتمعات، لابد وأن يتم بدقة وصرامة، إنقاذاً لتلك الشعوب وللحضارة الإنسانية، التغيير القسري لنظم ومناهج التعليم في الشرق، مثلها الخطاب الإعلامي والثقافي، محاولة التطوير الاقتصادي، ومراقبة مسارات تدفقات الثروة البترولية، لضمان توجهها نحو تأسيس قاعدة تنمية اقتصادية واجتماعية لشعوب المنطقة، وعدم تسللها إلى بالوعات الفساد والإرهاب، حتى لو أدى الأمر لتطبيق برامج تماثل النفط مقابل الغذاء، على مراكز الثروة البترولية الأساسية.
تخفيف الربط بين العالم، الذي فرضته العولمة
تسهيلات الهجرة واللجوء السياسي وحرية التنقل التي أدت إليها أو تطلبتها العولمة، لابد وأن تتراجع بالقدر الذي يكفل حصار التيارات والتنظيمات الإرهابية، وحرمانها من مساحة الحرية التي أتاحت لها الأداء الفعال، الذي لم يكن ليتأتى لها بدون سمات هذا العصر، وما أتاحه لها من حرية الحركة للأفراد والأموال والأسلحة والاتصالات.
هو التراجع إذن، ليس لمسيرة الإنسانية، لكنه تكتيك مرحلي، ريثما يعاد التوازن لكافة مكونات القبيلة البشرية، وتطهير ما لحق بها من أدران، لتستأنف بعدها السعي الدائم للأمام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المعضلة كيف التصدي لهؤلاء دون خسارة مكتسبات حضارية
بشارة ( 2015 / 1 / 10 - 00:43 )
بالنسبة للمحور الاول
في الحقيقة للشر خاصية وهو انه يجبر ضحيته على رد الفعل وهذا ما حصل ونلاحظه في
المطارات خاصة
مؤخرا كان هنالك نقاش في امريكا حول مشروعية وحدود خرق الخصوصية عبر التنصت على الهواتف...خسارة اخرى
ممارسات تعذيب في السجون لم تكن مسموحة من قبل الخ الخ الخ
المحور الثاني
اتمنى ان تتم فرض حقوق الانسان فرضا وبالتحديد حرية المعتقد والدين...هذا المنفذ الوحيد للقسم الاعظم للفلات من دين ومفرخة الارهاب...لكن للاسف الى الان المصالح المادية غلبت المثاليات العليا...لكن الامور اخذه في التغير
المحور الثالث ايضا جاري العمل به

اخر الافلام

.. فيضانات عارمة تتسبب بفوضى كبيرة في جنوب ألمانيا


.. سرايا القدس: أبرز العمليات العسكرية التي نفذت خلال توغل قوات




.. ارتقاء زوجين وطفلهما من عائلة النبيه في غارة إسرائيلية على ش


.. اندلاع مواجهات بين أهالي قرية مادما ومستوطنين جنوبي نابلس




.. مراسل الجزيرة أنس الشريف يرصد جانبا من الدمار في شمال غزة