الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدارة التوحش

علي المدن

2015 / 1 / 10
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


من الناس من يقضون جُلَّ أوقاتهم في العمل وتدبير المعاش، ومنهم من يقضون أوقاتهم في تأمل مشكلات نظرية في قضايا معرفية، وقد يكون هذا هو عملهم الوحيد .. وفي النهاية قد يتفق أن لا يتاح لكلا الفريقين فرصة تأمل ذاته ومشكلاتها ... إلا أن الأشخاص من الفئة الثانية هم الأكثر بعدا عن الاستماع لنصائح غيرهم العملية في تذليل هذه المشاكل، لأن المعرفة مهما كان مجالها تمنح صاحبها نوعا من العجرفة والغرور بالغنى عن الآخرين ...
شخصيا أجد في الغالب أنني بحاجة لطرح بعض الأسئلة على نفسي أكثر من طرحها على موضوع خارج عني، أنا أحب أن أعرف الكثير عن مشاعري، عن دوافعي، عن خياراتي، عن ردود أفعالي، عن مصادر فهمي، عن كيفية فهمي وتقييمي للأمور، عن الطرق التي أسلكها غالبا في تعاملي مع من حولي ... إلخ.
كلنا سمعنا بجملة: "الحياة الباطنية الغنية" ... في تصوري أن بداية هذا "الغنى" تكمن في هذا المران المستمر على طرح أمثال هذه الأسئلة .. وسيكون رائعا لو كان هناك من يشاطرك "تجربته" في هذا المجال .. ومن هنا أجدني مغرما بمطالعة السير الذاتية لكبار الكتّاب في العالم من شعراء وروائيين وفلاسفة وفنانين وعلماء .. بل التعرف على كل خبرة وليدة موقف عملي .. كما لو كتب متسلق جبال عن الخوف، أو سائق فرمولا 1 عن المغامرة، أو مصارع ثيران عن التحدي، أو محترف دراجات هوائية عن الشغف، أو عدّاء عن البطولة ... إلخ. لا أعني أن عمق هذه التجارب يأتي من كون أصحابها محترفين لتك التجارب، بل من ممارستهم لها، كما هو الحال مع من يكتب سيرته مع علاج مرض خبيث، أو ذاك الذي يحدثنا عن الإحساس بالشوق لحظة غرقه، أو عن فهمه للأسرة وقت اشتباكه مع عدوه، أو حنين الرحالة لبلده ... إلخ.
هذه التجارب والمزاولات هي واحدة من أغنى مصادر الوعي بالحياة الباطنية للإنسان، لأنه لا توجد معرفة أسمى من تلك التي تكون مصدرها الممارسة، التجريب، المواقف العملية.
الكثيرون منا يقرنون العمق الفكري والثراء الروحي بتلك الكتب ذات العبارات الهائلة والألفاظ الفخمة والاصطلاحات العسيرة المزعجة، ولكن الحقيقة هي أن من يستفيد من هذه الكتب، ممن هم على غير اختصاص بموضوعها، هم قلّة يسيرة، وجُل المعرفة التي يحصلون عليها يكون هدفها التباهي أو بز أشخاص آخرين، وليس الفهم الأفضل للإنسان والحياة. إن الهيمنة، كما الخوف، من أهم الدوافع الغريزية لدى الإنسان. هذا بالطبع ليس تقليلا من شأن هذا النوع من الكتب، إذ إن الكثير مما يقال بوضوح أحيانا يحتاج إلى تفصيلات في منتهى الدقة في مستوى آخر ليفهم بنوع أوسع. ولكن من الصائب والواقعي القول إن فهم الحياة الجوانية للذات لا يحتاج للدقة أكثر من حاجته للوضوح.
من هنا أجد من الضروري العودة بين الفينة والآخرى لتلك الكتب التي تتحدث عن "تنمية الذات" وتطويرها، ليس لأن النصائح التي تقدمها هذه الكتب تصدر عن معرفة تخصصية، بل لأنها نصائح مصحوبة بـ"تمارين" يمكن اختبارها من خلال التطبيق، وبالتالي التأكد من جدواها.
اخترت هذه المرة كتابا يتحدث عن "الغضب"!! وهو موضوع يكاد يقف خلف عدد كبير جدا مما نمر به على المستويين الشخصي والعام. الغضب يكتسح فينا كل شيء! نحن كأشخاص، غاضبون على أنفسنا، وفي بيوتنا، ومع جميع من نلتقيهم في العمل أو في الشارع أو في المطعم أو في الباص .. إلخ، ونحن كشعب وأمة، غاضبون اليوم إلى حد "تدميري" أعجز أشد الناس حنكة استيعابه والسيطرة عليه.
كتاب السيدة جيل لندنفيلد: (طرق مختصرة للاحتفاط بهدوئك: نصائح واستراتيجيات ستغير حياتك) لم يكتب ليعالج هذه المحنة الهائلة التي تعصف بنا، فهو ليس دواء لأمة، ولم يكن هدفها يتجاوز تعميم السلام في حياة الأفراد الذين فقدوا سلامهم وهدوءهم الداخلي. إنها تعترف بأن الفوارق الفردية (مزاج، ثقافة، شخصيات ملهمة) تجعل "القواعد العامة الفعالة" في إدارة الغضب قليلة، ولكن ذلك لم يمنعها من المحاولة. واستراتيجيتها تقوم على التعامل مع الغضب انطلاقا من فهم طبيعته كـ"وحش"، نبدأ بترويضه على تحمل أعباء المسؤولية، ثم تأتي محاولة تزويد صاحبه بمهارات وفنون التعبير عنه بشكل آمن وبارع وإيجابي. هي تدرك أن أهم ما على القارئ أن يستعد له هو "إعادة تدريب الاستجابة التلقائية"، لأن هذا هو بالتحديد ما يجعل منا "متحضرين". ليس هذا الكتاب نصيحة من متصوف يتحدث عن أعماق حالات الوجد والهيام وانقباضات الروح وانبساطاتها في علاقاتها مع المطلق، بل هو مجرد إرشادات عملية يمكن الرجوع إليها عندما نصادف اختبارات حقيقية من واقع الحياة.
الهدف بسيط بالنسبة لمتصوف، ولعله تافه بالنسبة لمن يضيق بالمهام البيداغوجية، ولكنه مفيد في نظر من هم أكثر تفاؤلا .. وأنا أحاول أن أكون من بين هؤلاء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المجلس الحربي الإسرائيلي يوافق على الاستمرار نحو عملية رفح


.. هل سيقبل نتنياهو وقف إطلاق النار




.. مكتب نتنياهو: مجلس الحرب قرر بالإجماع استمرار عملية رفح بهدف


.. حماس توافق على الاتفاق.. المقترح يتضمن وقفا لإطلاق النار خلا




.. خليل الحية: الوسطاء قالوا إن الرئيس الأمريكي يلتزم التزاما و