الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم غاوية 11

حيدر الكعبي

2015 / 1 / 12
الادب والفن


أم غاوية

11

في الكحلاء تولّتِ أم غاوية قيادةَ الرحلة، فأثبتتْ أن الطبيعة قد حَبَتْها بمِجسّات لامرئية تغنيها عن السمع والبصر. قادتني بسهولة الى موقف باصات المجر فكأنها فارقتْه أمس. وعجبتُ لبطء الزمن وركود الأشياء في هذه البقعة المنسية من العالم. كانت الطرق متربة، والباصات الخشبية مضعضعة، والركاب يحملون قفاف الخرّيط وطيورَ الخضيري والسمكَ الحمري وجِبْنَ الضفائر. كنا كأننا ذاهبان الى الماضي، الذي هو مجموعة من القرى لا يطالها التغيير ولا تشيخ ولا تفنى رغم الولادة والموت اليوميين. فالأفراد يكبرون ويشيخون ويموتون، أما العالم الذي حولهم، أما الأشياء، أما الماء والشجر والبيوت والقصب وطيور الماء وأحوال الناس، فلا تكبر ولا تهرم ولا تموت. ولاشك أن هواء الأرياف قد أنعش جدتي وأجج الأشواق الدفينة في ذاكرتها، فراحت تحث الخطى متعجلة بلوغ (العدل)، فردوسِها المفقود وملعبِ صباها.

أقبلْنا على مرفأٍ للزوارق البخارية، جلسنا على ضفته وانتظرنا. وطال انتظارنا لزورقٍ يُقلِّنا الى (العدل) فبدأتْ جدتي تتململ. كان متعهدُ الماطورات رجلاً في الأربعين مربوعَ القامة محمر الوجه حسن الهندام مدركاً لأهميته، وكان يحمل نصفَ قلمِ رصاص يسجل به أرقام الماطورات على دفتر منزوع الغلاف. كانت نهاية القلم المدببة مَبْريّة بآلة حادة— سكين أو (قيدة)—، فيما كانت نهايتُه الأخرى متشظية نتيجةَ كسرِهِ باليد. قالت جدتي تخاطبه: "چا يمه، ليمَتْهَه تطلعون للعدل؟" كان الرجل قد ثبّت القلم على صيوان أذنه واستغرق في التفكير. وحين جاءه سؤال جدتي غمغم دون أن يرفع عينيه عن دفتره: "الراضة من الرحمن، حجية." ولم تسمعه أم غاوية التي كانت تحدق فيه بشَقَّيْ عينيها منتظرة جواباً. ورأيتُ تقطيبة ترتسم على جبينها، ثم سمعتُها، فجأة، تنبر الكلمات التالية من بين فكيها المطبقين: "لا يا چلب يا ابن الچلب." ومرت لحظة سكن فيها جسمُها حتى كأن الهواء الذي يحيط بها قد انجمد. ثم قالت: "يَحَگِرْني منعول الوالدين." ولاحظتُ رعشة خفيفة تسري في أطرافها فدخلتُ حالةَ إنذار. ثم رأيتها تنتفض كأن صاعقة ضربتْها وتتلفتُ باحثةً عن سلاح. وألقتِ الأقدار الخبيثة قصبة طويلة قربها، كانت حتى تلك اللحظة تستلقي خاملة على الأرض بلا وظيفة، فالتقطتْها جدتي على الفور. وما هي إلا رمشة عين حتى رأيت القصبة تنطلق من بين أصابعها المعروقة فتحلق في الفضاء كفرس النبي ثم تهبط كالمذنّب نحو الرجل الذي فتح فمه في دهشة. ومرت القصبة من جانب وجهه مخطئة عينه بشعرة. وقد أذهلتْني دقةُ التصويب الليزرية التي أبدتْها جدتي نصفُ العمياء. ورمش الرجل بعينه ليتأكد من صلاحيتها قبل أن ينظر من فُرجةٍ ضئيلة في جفنيه الى الجهة التي قَدِمتْ منها القصبة. نظر من موقعه في أسفل الجرف الى موقعنا في أعلاه، نظرةً حذرة تحسباً لمقذوفٍ جديد، وراح يفكر في ما ينبغي عليه أن يفعله. لكنّ أم غاوية اعتبرتْ نظرته تحدياً فاستعدّتْ لغارة أخرى، وتشنّجتْ كالزنبرك المضغوط. ووضعتُ أنا يدي على كتفها لأهدئها فأزاحتْها بضربةٍ من كفها. ومرة أخرى تفاجئني جدتي بقوة كفها المتخشبة الباردة المغطاة بالوشم والتجاعيد. وبدا أن الرجل قد قرر تجنب المواجهة فالتفت يخاطبني قائلاً: "بعد عمك هذا الماطور للعدل، إصعد انت وحبوبتك." وحين تجاوزناه ببضع خطوات لمحتُه يرفع يده الى عينه ثانية ويتمتم "چا ودِّرَتْ عيني، الله سِتَرْ." ثم يتابعنا بنظره غير مصدق ويضيف وقد شجّعه صمم أم غاوية "موش عجيِّز، عربيد أسود."

كان سائق الماطور شاباً دون الثلاثين، نحيفاً، يرتدي دشداشة بنية ويحيط رقبته بغترة رقطاء، وقد طوى أذيال دشداشته حول وسطه وشمّر عن أردانه، وراح يعرض على النساء مساعدتهن في صعود الماطور. جلسنا أنا وجدتي في المقدمة، وحين اكتمل نصاب (العِبْريّة) حل السائق حبل الماطور من وتد على الجرف، ثم احتل موضعه في الوسط. وزمجر الماطور وبدأ بالتحرك وفارت المياه من خلفه. كان مظهري يلفت الأنظار ببنطلوني وقميصي ورأسي الحاسر، فسألني السائق عبر دويّ الماطور:

-- خويه انته منين؟
صرختُ مجيباً
-- من البصرة.
اللااااااااه، خَي عونك. --
ليش؟--
متونّس. --

كانت نظرته حالمة، فالبصرة تعني له عالماً كبيراً مليئاً بالوعود.

ومن الماطور انتقلنا الى مشحوف مدبب النهايتين يوجهه صاحبه بمردي طويل يغرزه في الماء ويدفعه الى الخلف فيندفع المشحوف الى الأمام منزلقاً فوق المياه الخضراء. بدا لي الرجل طويلاً نحيفاً كأنه مردي آخر، ربما لأنه كان واقفاً فيما كنا أنا وجدتي جالسين. لم يكن هناك ما يعترض النظر سوى أجمات القصب والبردي، وأسراب النوارس البيضاء، وأجساد الجواميس الغاطسة في الماء، وأكواخ القصب والدخان المرتفع من مواقد (المُطّال). وحين مر مشحوفنا قريباً من أحد الأكواخ لمحتُ بضع نساء يتأملننا بفضول محاولاتٍ تحديد هوية هذا (الأفندي) المكشوف الرأس، الذي يرتدي بنطلوناً، وما عساه يفعل هنا في الأهوار. قالت إحداهن وهي تتقي الشمس بيدها: "أَظَنَّهْ مَعَلِّمْ." وضحكت الأخريات، وحلقت ضحكتهن مع النوارس، وذابتْ في الشمس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة