الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبو زيان السعدي , سيد الغيلان

كمال العيادي

2005 / 9 / 9
الادب والفن



العظيم، ­- أبو زيان السعدي

حين كنت ولدا مشوشا، أتطاول علي سلطان أخي الأكبر الذي لايزال يصر علي أن أناديه بلقب ­- سيدي - ­ رغم أنه لا يكبرني بأكثر من ثلاث سنوات مغشوشة، وكنت أجاهد للتخلص من الآثار القاسية التي حفرتها جدتي في ذاكرتي، رغم أنني كنت قد أسقطت الكثير من الأوهام الغريبة التي كانت تستوطنني بل أنني تخلصت من الإيمان الراسخ بذلك الجني الذي يلبي ثلاث رغبات حتي قبل بلوغي سن الثالثة عشرة، ولكنني احتجت وقتا طويلا للتخلص نهائيا من خوفي المزمن من الغيلان والعبابيث من الاناث والذكور, تلك التي تتربص بنا خلف أضرحة الأولياء المبللة جدرانها ببول السكاري وغسيل الجيران وعند الزوايا التي يكتنفها الظلام ورائحة القطط الحديثة الولادة.
تخلصت من كل تلك الاباطيل وأنا اتلمظ اسمي, يردده السيد حمادي الجوادي مدير معهد المنصورة معلنا نجاحي بتفوق في مناظرة البكالوريا، أو كما كنب أسميها: شهادة التأهيل لفراق القيروان العجوز. ولم أكن أعرف وأنا الذي شد الرحال صوب العاصمة شدا قويا، مضمرا تعكير مزاج شعراء العاصمة الوديعين بأنني سأخاف من الغيلان من جديد، ولكن ذلك ما حدث فعلا.

قابلته مباشرة قبل دفع ثمن البيرة الوحيدة التي شربتها منذ ساعتين، قبولا للأمر الواقع. كوني لا أملك سوي قطعتين من فئة الخمسمائة مليم. كان ذلك مساء سبت ممطر، ولم اشك للحظة واحدة بأنه غيلان خطير متنكر في هيئة كائن بشري. بل اعتراني احساس لم أسع يوما لتكذيبه في كل الأحوال بأنه غيلان من أسياد القيروان السبع.
كان يحاول بطريقة مكشوفة ايهام الجميع بأنه بشر عادي في معطف قاتم وحذاء عسكري متين، لذلك سألت صديقي المرحوم الضخم صلاح الدين ساسي الذي كان وقتها منهمكا في توضيب خطة محكمة لموته العظيم سألته عنه ودون أن يرفع برأسه ليعرف عن أي شخص اسأل أجابني: اسمه ثلاثي أبو زيان السعدي ثم انه قيرواني.
مرت أعوام بعدذلك لم أتحدث فيها إلي أبي زيان السعدي سوي مرتين، لم نتبادل فيها أكثر من عشر كلمات عامة.

وغادرت الوطن الغالي في طائرة تلهث اعياء إلي ثلوج موسكو، حاملا معي ارثا ثقيلا من الاحكام الجاهزة وثقافة من قشور اللوز والعناوين. لم يحدث أن هاتفته. اطلاقا. لم أراسله ولم اسأل عنه. بل انني كثيرا ما كنت امر بالقرب من طاولته بمقهي تونس عند الساعة التاسعة والنصف صباحا واتعمد التسلل خارجا حالما اراه، لخوف قديم من ازعاج صفاء الغيلان من غرس جدتي زمرده.

واذا حدث مصادفة ورفع رأسه المثقل برؤي غريبة لانفقهها في كل الأحوال ­ نحن البشر, فإنه كان يقف مطلقا شعورا مكثفا ومؤثر من المبالغة في الاحتفاء برؤية وجهي البوشكيني النحيل. وعادة ما كان يعتصر قفص صدري الخلفي بذراعيه الطويلتين، مطبطبا بطريقة حميمية وأبوية علي صدري المفصل بالعظام قائلا: أين أنت يا أبو الكمال. وكان ذلك يربكني ويخجلني. ذلك أنني لم أتعود بعد احتمال نظرات جلاسه من الكبار وهم يسلخون جلده وجهي متسائلين خلف سكونهم الموقر وسمك نظاراتهم الرسمية : - ‘من هذا النحيل’؟

خمس مرات التقيت بأبي زيان السعدي في حياتي إلي اليوم. هذه هي الحقيقة. حصيلة مؤسفة بالمقارنة مع سنواتي الستة والثلاثين ومئات المرات التي كنت أمر فيها كالمتخفي من أمام بلور مقهاه بشارع الحبيب بورقيبة حيث تم تهجير كل بائعات الورد والعصافير لتوسيع الشارع احتياطا من اجتياح السيارات.
حدث بعد ذلك أو قبله، وعموما مع سقوط جدار برلين الذي احتفظ في مكتبة ابنتي ياسمين بحجارة صغيرة منه نقش عليها - قلب صغير- باللون الأحمر وكلمة مبتورة باللغة الالمانية تعني تخمينا: الي الابد.

حدث أن تعرفت إلي حسونة المصباحي وحتي أكون أكثر أمانة، فقد كان ذلك خلال شهر أوت 1993 ولما كان ولابد لكل كاتب من مقهي فقد تركت للمصباحي أن يقودني الي مقهاه، وكان اسمه التيركنجوف Türkenhof كنا نقشر بمكر كل الاصدقاء بدون مراعات لجانب الصداقة أو التكتلات وبدون اعتبار لحسابات اجلة أو عاجلة. وكان ذلك ضروريا حقا للتغلب علي جبروت الليل البافاري الطويل. وحتي نلفت بضخب ضحكاتنا أنظار كريسينا قاتلتي, تلك النادلة البيضاء كالقمح المدقوق.
تلك التي تصب نار الألهة وتخلطها برغوة البيرة البيضاء. كنا نضحك من الجميع بدون استثناء, نقرأ صحف الاسبوع الأسبق أولا: ثم نقارب الكراسي المرتفعة ونبدأ في الضحك، ذلك أنه لم يكن في وسعنا غير ذلك، ويكفي أن يلفظ أحدنا اسم كاتب أو ناقد أوشاعر حتي ننخرط في موجة جديدة من الضحك تقطعه قاتلتي كريستنا عادة بسؤالنا من جديد:
­ بيرة أخري يا أوغاد؟
ولكننا حين يأتي ذكر اسم ­ أبي زيان السعدي ­ نتخذ فورا هيئة الجد والوقار. تماما وفي نفس اللحظة وبدون أضمار مسبق. كان المصباحي يقول: أبوزيان السعدي ذاك رجل عظم. وكنت اردد وكأنني لا اسمعه: أبوزيان السعدي، ذاك رجل عظيم, كان كل منا يلتفت الي الآخر منذهلا من رأيه وحكمه المختصر علي الرجل. وازداد رسوخ اعتقادي رغم السنوات التي بدأت تقودني لازقة الثلاثين وقتها . بأنني كنت علي حق وبأن الرجل غيلان من أسياد القيروان السبع، وأنه لم يخجل من لعبته المكشوفة ومحاولاته العنيدة في ايهام الجميع بأنه بشر مثلنا، لا يحتاج معطفا قاتما آخر. كونه لا يغير معطفه الازرق. وللمزيد من التمويه ، فانه كان يردد بطريقة مسرحية بأنه يحتاج محفظة جلدية جديدة لأوزار كتبه الضخمة , ذلك أن المحفظة التي اهداها له سليم دولة منذ عشرين سنة شاخت.

وكان ككل الغيلان, لا يخجل من الاستمرار في ادعائه, حتي وهو يري بريق الفهم في عين مخاطبة.

أنا لم أدّع يوما بأنني أعرف أبا زيان السعدي، ذلك أن الغيلان لا تعرف , ولكن تستشعر من بعيد.

ولكنني اعتقد بانه ساكن هناك فيّ , عند النصف الايسر من كبدي ، تماما تحت الرئة وفوق الطحال , بمعطفه الازرق القاتم وقبعته المثلثة التي ارتضاها اخيرا للمزيد من التمويه. بل انني وأنا المقاد عنوة لرصيف الاربعين, سأظل محافظا ما استطعت علي ايهامه بدوري , بأنني مقتنع مثلهم جميعا أنه بشرمثلنا, يتألم لسقوط العراق وللدم المراق. وتكاثر النسل بالصين و بما تبقي من ثمن فلسطين .

أعرفه جيدا. وأعرف بأنه سيموت كما الغيلان : واقفا ووحيدا, وهو ينتظر الضوء الاخضر للعبور الي الجهة الأخري, حيث مقهي تونس , مقهاه القديم.

أعرفه جيدا , بعد سنوات موسكو الرائعة ونصف عمري الذي قايضته ثمنا لتأشيرة البقاء بالمانيا. ولن يخدعني باحتفائه بوجهي النحيل، ولكن . …
طيب. اسمك ثلاثي كما قال العظيم , المرحوم صلاح الدين ساسي، ولننس حكايات الجدة الخرقاء، اسمك أبوزيان السعدي, لا أكثر ولا أقل.

كمال العيادي - ميونيخ
www.kamal-ayadi.com










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد