الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجغرافية الممزقة والحاضر المشطوب

محمد بودويك

2015 / 1 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


اُنظرْ إليها جيدا، أمْعِنْ النظر فيها مليا، سَرحْ البصر تسريحا في جوانبها وأطرافها، يرتد إليك البصر حسيرا منكسرا. كيف – إذًا- نلملم شظاياها، كيف نعيد لها وجهها وملامحها وسماتها، كيف نعيدها إلى سيرتها الأولى ومجدها المبعثر المشطوب؟ كيف ننفخ فيها من روح العزم والحزم والعقلانية لتعود إلى الجادة والمحجة البيضاء، إلى ما به تكون ويكون لها قدم راسخة في تراب الكون؟ كيف .. وكيف .. وكيف؟ والحال أليمة، باكية منتحبة ترثي زمانا سادرا في التجهيل والتقتيل، في الوحشية والهمجية، والتشوه المخزي البين الواضح الفاضح أمام أعين الكون؟. انظر إليها ممزقة .. أشلاء مترامية، شظايا وأفلاق مبعثرة، فتيتا من أمجاد ورقية، وماض ممرغ يريدون له أن ينهض من بين الأنقاض والحطام.
أي حطام عام يملأ الروح ويعمرها كربا وكمدا، أي خراب كلي حجب حتى النزر القليل، البصيص الضئيل، ووارى نأمة الأمل، ودبيب الفرح بوعد آت، وغيث قادم !!
فما هي هذه الـ "هي"، ما الضمير الذي يظهر ويختفي، ملوحا بذيل يغشى المشهد، ويدفع إلى الضحكة الباكية، والكشف عن النواجذ والأضراس الخربة المسوسة؟ إنه الضمير المؤنث، الضمير الملوث، الضمير العائد على الجغرافية العربية، على الأرض المقسمة الموزعة والممزعة، والتي تفرق تاريخها، وبُقْيا "أمجاد" محتشمة، وفضلات حضارة مترنحة، بين العشائر والقبائل والبطون والأفخاذ، وبين الحركات الإسلامية الرعناء، والميلشيات البربرية المختلفة، والعصابات المتطرفة التي هي أكداس من شُدَّادِ الآفاق، ومن سفاكي ومصاصي الدماء.
ها نحن نرى والقلب يعتصره الألم، والعقل ذاهل مصدوم، ما يجري من تقطيع وتمزيق لأوصال البلاد العربية التي عاث فيها مقص سَايْكْسْ – بٍيكُو، في فترة سابقة، تفصيلا وتمزيقا. تمزيقٌ مجاني جديد بداعي الاستئثار وتطبيق وجهة نظر مأفونة من قِبَلِ هذا الجانب أو من لدن الجانب الآخر، وبداعي تحقيق هذه الفكرة أو تلك، وبدافع تثبيت الرأي القاطع، وفرضه بالسحل، وقطع الرؤوس، وحز الرقاب، واغتصاب النساء، وتهجير أصحاب الأرض من الأرض بسادية مقرفة لا يستطيعها إلا من كان بلا عقل ولا ضمير ولا وجدان. لكن، هل كان لهؤلاء المأفونون المرضى الذين يذرعون الصحارى والقفار، والجبال، والأودية والأحراش والشعاب، عقل يدركون به ما هم فيه، وما هم عليه، ويتحسسون به طبيعتهم البشرية أو الحيوانية من عدمهما؟.
فَها هو اليمن ورقة يتعابث بها "رعيان" ومسلحون حتى الأسنان، والجوع في ركابهم وعلى سحنات وجوههم كأنهم جذوع نخل خاوية، أو هياكل عظمية تسير فتنشر الرعب في الأرض والآفاق. لم يعد فيه جنوب ولا وسط ، ولا شمال، اختلطت الأوراق كـ "الكوتشينة"، فللاعب الماهر الماكر أن يمزج الأرقام والصور كيفما شاء، ليخرج رقما مَسْخًا، وصورة شوهاء منفرة ومقززة. صار اليمن "السعيد" بعيدا عن الهناءة والأمن المطلوب فما بالك بالسعادة المكذوبة التي صُبِغَ بها خلال أحقاب وعهود لم تكن أبدا دالة على ما به يتسمى، ويحوز التسمية الرفيعة تلك.
وليس حال سوريا بأحسن من اليمن، ونحن نرى أن البشر والحجر والشجر يحترق احتراقا فظيعا كل يوم، فالحضارة السورية صارت، بإجمال، طعْما وهدفا للإبادة والاجتثاث والنيران، كأن في الأمر أمرا مبيتا على رغم دكتاتورية الدكتاتور الصغير الذي يقف اليوم على شواخص البنايات المهدومة، ووسط الخراب الهائل، مصدقا وغير مصدق لما هو فيه كأن الكوابيس السوداء، والأحلام الوردية تتنازعه وتتناهشه، فلم يعد يميز بين هذه وتلك، وهل هو في سوريا العظيمة التي هدم أم في أرجوحة تتهادى به بين الفناء والبقاء، بين العدم والوجود. كأن ما جرى لسوريا : قلب العرب النابض، وما يجري لها منذ أكثر من ثلاث سنوات، هو أمر دَهَا الدكتاتور على حين غرة، ودهانا جميعا حتى بتنا في تَسْآلٍ وحيرة ووجوم : هل ثمة أياد آثمة تلعب وتعيث خرابا ودمارا في العُرْبان والبلدان ونحن لاهون غافلون وذاهلون؟. و بعيدا عن فكرة المؤامرة الخارجية، للمرء أن يَنْدَهِشَ وَيَنْشَدِهَ، ويطير صوابه.
أين الخريطة السورية الآن، أين الجغرافية المعلومة الموسومة، من يدلني عليها؟، ها هي قد أضحت حدودا وسدودا، ومآوي، وسياجات، وفواصل من دخان ونار، ومربعات يتقافز فيها القتلة، و"المجاهدون" البرابرة.
وماذا عن جغرافية ليبيا؟ ماذا عن عشائرها وقبائلها، ومدنها، وبلداتها، وقراها؟ أين المركز؟ وأين الهامش والأطراف؟ وما العاصمة: أهي طرابس أم بنغازي أم ...؟ ومن يتحكم فيها، من يقبض زمام أمرها : الإخوان " أم "العلمانيون" أم عشيرة بذاتها، أم قبيلة بعينها، فكأن روح القذافي المقتول، تطل من قبرها المنسي، المتروك للريح والضياع، والطمس بالفلوات، شامتة، مستعيدة ما حذرت منه في خطبها الأخيرة المرتجفة قبل الموت من أن ليبيا لن تعرف الاستقرار، وأنها ستكون نهْبًا للعصابات والمجرمين القادمين من كل فج وهم يتكالبون ويتداعون على القصعة والكعكة، والذهب الأسود، لينشئوا على أرضها وبدعم من بترولها وغازها، الخلافة الإسلامية المنشودة !
وقل ذلك عن العراق الشامخ الذي رَكَّعَتْهُ الإمبريالية الأمريكية بِسبب الخطايا التي ارتكبها الدكتاتور صدام حسين حيث فتح لهم الباب – لا واعيا- على مصراعيه، ليدخلوا منه آمنين، وقد مكروا بدعوى حيازة صدام على الأسلحة الفتاكة، الأسلحة المدمرة الدمار الشامل. خطأ التمزيق بدأ منه، من حيث لا يدري أو من حيث دَرَى وَدَارَى وتمادى من دون أن يتخيل لحظة أن المنتظم الدولي الذي تقوده أمريكا شَرِس وظاميء يتحين الفرصة المواتية ليأكل الزرع، ويمتص الضرع، ويتيح الإمكان الأكبر لإسرائيل لكي تعربد في الشرق الأوسط آمنة مطمئنة بعد أن خلا لها الجو، وانزاحت العقبات بغياب "البعثيين" و"القوميين" الذين كانت "تنخسهم" نعرة العروبة والوحدة، والأمجاد العربية الماضية للملمة العربان الممزقين، ودعم فلسطين في أفق "دك" إسرائيل، و"رميها" إلى البحر !.
لم تُرْمَ اسرائيل في البحر، ولم يُلْقَ بها فيه، فهي من رَمَتْ بنا، وألقت بالعرب العاربة، والعرب المستعربة في اليم اللجي، والصحراء القفراء القاحلة، ولعبت بذكاء نادر تحسد عليه، دور الضحية وفهمت أن معركتها مع العرب المسلمين معركة حضارية ووجودية، فتهيأت واستعدت، وفرقت ومزقت ونجحت في ذلك إلى أبعد الحدود، وها نحن مزق، وشظايا، أضحوكة الأضاحيك أمام العالم. ندعي أمورا لا نستطيعها، نَتَنَطَّعُ طوال الوقت، ونختفي كل الوقت، ولا نظهر إلا لنختفي، ولا نجالس الأمم كـ "أمة" – ياحسراه- إلا لنختلف، ونظهر أمامها رقعا مرقعة، وأسمالا ممزقة، وجيوبا ملونة، وآبارا تفيض مَنًّا وسلوى، قصدت بترولا و غازا.. ذهبا أسود، وأجسادا ضخمة مكتنزة يغالبها النوم كل وقت وحين، وتُزْرِي بها التأتأة أمام دول تحضر عازمة حازمة، مزنرة بالملفات، ومنورة بالفكر والعقل، والخطط البعيدة، والاستراتيجيات المدروسة المحكمة.
أوروبا متحدة لها عملة واحدة، حدودها طباشيرية أمام مواطنيها، اقتصادها وسياساتها واحدة إذا شكت ألما وحمى، تداعت وسارعت إلى بعضها بعضا بالاقتراح والتداوي والعلاج السريع الناجع. يحدث هذا على رغم اختلاف الألسن واللغات، والقاع الثقافي، والجذر الحضاري.
فماذا عَنّاَ نحن؟ ماذا عنا ونحن أمة "القرآن"، انظروا للمفارقة والغرابة المضحكة المبكية، "أمة" بما يفيد التماسك والتمازج والتناغم والوحدة إذ أن اللغة واحدة عامة، والتاريخ واحد مشترك، والثقافة أيضا. ومع ذلك أخفق قادة الرأي فينا في جمع شملنا، وتحقيق اتحادنا، وتبادل ونشر غنانا وثرائنا فيما بيننا ليعم خيره القاصي والداني، المحيط والخليج، فتدرأ عن شبابنا التسول على أبواب أوروبا وأمريكا، والغرق في عرض المتوسط والمحيط. أخفقنا لأن الأنظمة الباغية أرادت ذلك. لم نستطع توحيد العملة، ولا إحداث سوق عربية موحدة، لم نستطع تحقيق الوحدة المغاربية السياسية والاقتصادية والبشرية، ولا توحيد مجلس بلدان الخليج. فالخلافات والمشاحنات دائما مطروحة على الطاولة، والسفراء يعملون وينامون وأيديهم على حقائبهم استعدادا للرحيل عند أول زكام.
الجغرافيا ممزقة شر ممزق، نعم لأن العقلية العربية ممزقة ومفتتة، ومتشظية. ومن ثَمَّ، فأنا لا أتورع عن القول بأن "الثورات" العربية أخفقت ولن يكون لها ما بعدها، مفندا تكهنات بعض المثقفين العرب الذين يغمسون أقلامهم في محبرة الثورات الأوروبية ليعللوا إخفاق "الربيع العربي" إسوة بثورة 1789 الفرنسية المجيدة التي لم تستقر أفكارها، وتتبلور إلا بعد أن نشف حمام الدم، وتبخرت الفواجع والقطائع التي عاشتها فرنسا وباقي بلدان أوروبا في القرن السابع عشر والثامن عشر، مراهنين على هذا الأفق، والمسار "للثورة" العربية. لا أتفق مع هذا الطرح لسبب وحيد وهو أن الثورة الفرنسية، وقبلها الانجليزية والأمريكية، و صولا إلى ثورة أكتوبر الروسية في العام 1917، وغيرها، استندت إلى فكر وفلسفة، ومشروع مجتمعي على رغم تخطيها التنظيمات الحزبية كما هي حال انتفاضة مايو 1968 بفرنسا أيضا. إذ أن الماوية والتروتسكية والماركسية اللينينية، والوجودية، كانت زيت وَوَقُود الانتفاضة إياها.
فالانتفاض العربي في سنة 2011، كان انتفاضا عفويا، تلقائيا انفجر انفجارا بسبب من الاستبداد الشنيع، والظلم الفظيع، والقمع المريع الذي ساد ورَانَ على العرب ردحا من الزمن أَزْمَنَ وَتَزَمَّنَ حتى قلنا بأن الشعب العربي، وفي الطليعة شبابه، هو شعب لاَهٍ قَنُوعٌ بالقسمة والنصيب، اندمج مع واقعة المأزوم، وتماهى مع البؤس لدرجة بات معها التفكير في قول "لا" للظلم، والانتفاضة في وجه الحاكمين والنظام، ضربا من المستحيل.
لم تكن الانتفاضة العربية، ثورة بالمعنى السوسيولوجي والثقافي للكلمة، ولا أدل على ذلك من سرعة وسهولة احتوائها وتحجيمها مباشرة من لدن حركات شرسة، منظمة تنظيما حديديا كـ "الإخوان المسلمين" الذين انتكسوا – بدورهم- سريعا أمام جبروت "العسكر" في مصر، وأمام أطياف وعناصر الدولة العميقة التي لها دراية وخبرة وتجربة كبيرة في إدارة دواليب الدولة كما هي الحال في تونس. ومن هنا، فإن المطلوب عربيا هو القطع مع الأوهام، والطوباويات، والفقهيات المتحجرة المحنطة، لا الفقهيات المقاصدية المتنورة ونحن نعرفها، والعمل الحثيث – ولا نعدم الوسائل والذرائع، على تغيير عقلياتنا.
فما نحن فيه لن يتغير، وينخرط في سؤال العصر، ويكون طرفا في البناء الحضاري الكوني، إلا بلفظ الماضي، والتخلص من أمجاد كانت، وفكر نَبَضَ في سياق اجتماعي تاريخي معين، قد يفيدنا كقوة دافعة محفزة، ولكنه لن يفيدنا في حل مشاكلنا الآنية والراهنة.
فالثورة إذا طردت نظاما وأتت بنظام جديد يَعُبُّ من نفس المنبع، ويلتقي في الموقف والتصور والأفكار، وينغرس في نفس التربة، ويمتح من البئر عينها، لم تفعل أكثر من إبدال كرسي بكرسي، ومستبد بطاغية، ما يعني أن المطلوب المُلِحَّ، والمفروض المستعجل، هو وضع ذوي المؤهلات والكفاءات والأفكار، ورجال الدولة بالمعنى الإداري والقانوني والتيسيري، الذين لا يتاجرون بالدين، بل يبعدونه تماما عن شواغل الدولة المتوجهة بالأساس إلى السياسة والاجتماع، والاقتصاد والثقافة والبيئة، والحقوق الإنسانية المدنية الفردية والجماعية.
أما الدين، الذي لا مندوحة عنه، فهو زاد روحي، وسند خلقي، ووازع ضميري، ومقوم سلوكي وعلائقي، ودَاعٍ إلى المحبة الإنسانية، والخير البشري، وقبل هذا وذاك، هو شأن فردي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد قضية -طفل شبرا- الصادمة بمصر.. إليكم ما نعرفه عن -الدارك


.. رئيسي: صمود الحراك الجامعي الغربي سيخلق حالة من الردع الفعال




.. بايدن يتهم الهند واليابان برهاب الأجانب.. فما ردهما؟


.. -كمبيوتر عملاق- يتنبأ بموعد انقراض البشرية: الأرض لن تكون صا




.. آلاف الفلسطينيين يغادرون أطراف رفح باتجاه مناطق في وسط غزة