الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صباح في استضافة بيتي

روكش محمد

2015 / 1 / 18
سيرة ذاتية


ذاكرتي بحر هائج ,متلاطم الأمواج ,يعلوها زبد أبيض صاف كقلب صغير يحبو
تارةً تثور فتقذف بقوة آلاف الأفكار المجنونة والتنهيدات عالياً نحو السحاب ,وأخرى
تهدأ فتُغرق عميقاً أفكاراً ولحظات ,لتركد بسلام في القاع .لكن في الكثير من الأحيان
تنثر أفكاراً وكماً هائلاً من الذكريات على رمال الشاطئ ,وبين جنبات الصخور.
اليوم وأنا أتمشى على شاطئ ذاكرتي الضحل بالآلام والأنات ,صادفتني فكرة جميلة غافية بين شقوق
صخرة على يمين ذاكرتي نكزتها برفقٍ , حتى استفاقت . فجأة وجدت نفسي واقفة في وسط
زقاقٍ صغيرٍ ,موحلٍ ,تزينه بعض الحصى ,وأكياس القمامة الموزعة قرب الأبواب المنتشرة
على طرفيه ...
أسرعت الخطى نحو باب أسودٍ كبيرٍ ,تظلله شجرة سروٍ كبيرةٍ ,وأمامه رصيف صغير يكاد يكون
موطئ بضعة أقدام . وقفت عليه محتارة مترددة وأنا أمسك بقوة على سلسلة مفاتيح صغيرةٍ في
قبضتي المتعرقة . فتحت أصابعي بروية كمن يسترق النظر إلى شيءٍ عزيزٍ , ويريد الاطمئنان على
سلامته ,فرحت لأنها لا تزال في قبضتي بأمانٍ . يا إلهي هذه مفاتيح بيتي ,الذي فقدته في خضم موجة
النزوح والأوجاع . أدخلت أحد المفاتيح برفقٍ في القفل و أدرته ,وكم كانت فرحتي عظيمة حين انفتح الباب
الأسود الكبير ,إذاً هذا بيتي ومهد أمنياتي . من جديد أمسكت بقوة سلسلة المفاتيح وأخفيتها في راحتي خوفاً
عليها من الضياع كسنوات عمري .
اجتزت عتبة الباب ,ومشيت برويةٍ على الرصيف الاسمنتي , وأنا أتنقل بنظراتي الحائرة بحثاً عن عمرٍ
مضى وذكرياتٍ سُلِبت .
هذه نرجستي ملوية العنق ,لي معها حديث مطول ولعبيرها في فؤادي شوقٌ وحنين , وتلك الشجيرة المكتئبة
ضاع منها طوق الياسمين الذي طالما أحببته بشغف كل المحبين فيما مضى .كثيرة كانت تلك اللحظات التي تأملتها
,ناجيتها , وبثثتها شكواي .ابتلعت ريقي بصعوبة وكان طعمه مالحاً يبدو أنه امتزج بدمعتي ,أكملت بحثي بخطى
متثاقلة ومع كل خطوة ألف دمعة وغصة ,صدمني مشهد شجيرة التين الصغيرة _كم قصدتها في صباحات الصيف
الحارة وعشقت ثمرها الطازج والتمرغ بظلها المقتصد _ إنها اليوم عارية تماماً متعطشة للحياة وقد تراكمت تحتها
أوراق صفراء , في أسفل كل منها قصة عشقٍ وحنين لا تنتهي .
تابعت المسير نحو دالية العنب ,معشوقة حبيبي , مددت عنقي عالياً ونظرت ,آلمني مشهدها الحزين ,حاولت
الإمساك بعنقود ٍ لكني فشلت وعادت أصابعي خائبة ,فقد تكسر قبل أن تحظى به ,وتناثرت حباتها اللؤلؤية على الأرض .
بعد أن اجتزت الحديقة ,وقفت أمام بابٍ متوسط الحجم بلون أوراق النرجس ,أخرجت سلسلة المفاتيح من جديد ,فتحت
الباب وبنفس الحيطة والحذر أعدت السلسلة إلى راحتي المشدودة .لا أدري كم من الوقت وقفت مشدوهة ,مصدومة ,
متيبسة الأطراف ,وكأن الدماء تجمدت في عروقي ,وتحجرت الدمعة في محاجري ..يا إله السموات هذا بيتي الذي
في استضافته أحس بأني في غنىً عن العالم وأحلق عالياً في سماء الحرية والحب .
بادئ الأمر ترددت في الدخول ,لكن ما لبثت الحرارة أن عادت إلى جسدي المنهك ,وتحركت أطرافي بتثاقلٍ لكني
دخلت بعد أن قبَلت عتبة الباب .
على يميني كانت مرآتي الكبيرة لا تزال منتصبة تنتظر قامتي وعلى رفها فرشاة شعرٍ علاها الغبار في شوقٍ إلى
خصلات شعري لتعيد إليها الحياة . باب المطبخ مفتوحٌ ,أسرعت الخطى نحوه ,كان كل شيءٍ مرتباً كما تركته ,غير
أن الغبار أضفى عليه لوناً منفراً .لم أتجرأ على لمس شيءٍ ,تراجعت نحو باب غرفتي ,كان السرير مرتباً ,والخزائن
مغلقة ,أما أشيائي الصغيرة لا تزال على الرف تنتظرني بلهفة وحب .بعض الملابس معلقة على المشجب وفي طرف كل
منها لوعةٌ وذكرى ,لم ولن تنال منها سنوات الضياع والشتات .تأملت أشيائي قطعةً ,قطعة ومع كل نظرةٍ ألف غصةٍ وغصة.
تركت غرفتي دون المساس بطهر وعذرية ذكرياتي ولحظاتي عمري المقدسة .قصدت الغرفة الثانية ,هذه ألعاب صغاري
قصصهم ,حاجياتهم الصغيرة ,وكتبهم التي طوت بين صفحاتها أحلامهم وأمانيهم .تجولت بنظراتي الحزينة مطولاً في
الغرفة ,ثم خرجت منها ,ودخلت الغرفة الثالثة ,أسعدني مشهد المكتبة وزخم الكتب وأفكار (جبران _ غابرييل _عزيز نيسن ....وغيرهم )
التي فتحت الباب على مصراعيه أمامنا ومنحتنا فرصةً للانطلاق نحو الحياة والانتماء للإنسان روحاً طاهرةً ,فكراً نيراً , وقوة لا تقهر .
إنها لا تزال على حالها ,تزينها حبيبيات الغبار المنثور عليها ,حتى أنها بدت لي بادئ الأمر مكتبة عريقة في
التاريخ .مددت يدي لأستعير منها فكرة وحفنة من الحب والحنين .لكن أصابعي المرتعدة خانتني .
تراجعت خطواتٍ إلى الوراء وأكملت نظراتي جولتها في البحث ,لكن هذه المرة عن منسوجاتي اليدوية
الموشاة بدموعي وأحلامي _كانت ولا تزال عزيزةً عليَ, فهي نتاج أناملي أنا وإخوتي _
لا تزال مرتبة مطويةً بعناية فائقة ,تخفي بين طياتها عمراً من الحب والوجد ,مذ تركتها في تلك اللحظة الغادرة .
فجأة أحسست بألم شديد في رأسي ,عبثاً مددت إحدى يدي علَي أخفف من شدته , فالأخرى كانت منقبضة بقوة
على سلسلة المفاتيح.اشتد الألم رويداً ,رويداً يبدو أن بحري قد هاج وأمواجه عادت إلى التلاطم من جديد وكأن
ريحاً قويةٌ عصفت بي وأيقظتني من حلمي السعيد , حينها فقط اكتشفت أني لم أكن أحمل في قبضتي سوى بقايا
أمنياتي وأحلام صغار المحطمة ,وحفنةً صغيرة من حب الحياة ,أخشى أن تزروها الرياح هي الأخرى بعيداً
في الصحارى القاحلة . 18-1-2015








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام: شبان مغاربة محتجزون لدى ميليشيا مسلحة في تايلاند تستغ


.. مفاوضات التهدئة.. أجواء إيجابية ومخاوف من انعطافة إسرائيل أو




.. يديعوت أحرنوت: إجماع من قادة الأجهزة على فقد إسرائيل ميزتين


.. صحيفة يديعوت أحرنوت: الجيش الإسرائيلي يستدعي مروحيات إلى موق




.. حرب غزة.. ماذا يحدث عند معبر كرم أبو سالم؟