الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكوابيس تأتي في حزيران - الفصل السابع

محمد أيوب

2005 / 9 / 9
الادب والفن


أكملت دائرة الأشغال العامة بناء سور مدرسة عبد القادر الإعدادية التي بنيت شرق مستشفى ناصر في خان يونس ، كانت المنطقة منطقة حرشية قبل حوالي عشر سنوات ، كانوا يمرون من هذه الطريق ، وكانوا يخترعون القصص والحكايات عن العفاريت والجن الذين يعترضون طريقهم أثناء ذهابهم إلى المدرسة في الصباح الباكر، كانت أمه تصدق الحكايات التي يقوم بتلفيقها وسردها على أسماعها، تعلق المسكينة قائلة : يلعن أبو المدارس على أبو التعليم اللي هالشكل ، أي والله أيام الكتّاب كانت أحسن ، تتنهد وتقول : ساق الله أيام الكتاتيب ، قعدت سنة في الكتاب وما عرفت الألف من كوز الذرة ، يبتسم أحمد الفايز في سره : لقد صدقتني، مشّيتها عليها ، قديش بتخاف علي ؟ كان والده يبتسم ويهز رأسه ويتظاهر أنه يصدق الحكايات التي يخترعها ، كان يعرف أن خيال ابنه واسع بحيث يستطيع أن يخترع الحكايات الوهمية ويوهم أمه وإخوته أنه قرأها في الكتب أو شاهدها بعينيه ، ولكن الشيء الوحيد الذي لم يصدقه والده هو ما قاله له ذات يوم أثناء عودتهما من العمل من قرية عبسان ، بعد أن ابتعدا عن منطقة الفراحين وأصبحا في المنطقة الموجودة شمال الدقات في الشارع المتجه غربا إلى بني سهيلا، أمسك أحمد الفايز براحة يد والده بحذر وفي قلق ظهرت علاماته على وجهه: يابا هدا الزلمة يهودي .
نهره أبوه : أسكت بلاش يسمعك ونعمل معاه مشكلة.
ـ والله العظيم إنه يهودي .
ـ العظيم ياخدك عنده يا رب ، ولك هدا أستاذ مدرسة مروح من شغله، وبعدين إيش عرفك يا أبو العريف إنه يهودي ؟
ـ أتر كندرته ؟
ـ ولك كنك انجنيت ؟ ماله أتر كندرته ؟
ـ مش زي أتر كنادر العرب !
ـ أنت داير تتطلع على أتر الكنادر، ولك شريتلك الكندرة لما نص الناس كانوا بيمشوا حافيين ، ولا نسيت ؟
ـ والله ما نسيت يابا ، بس نفسي ألبس صندل وما أمشيش حافي .
ـ تنهد والده : اتجدعن في المدرسة وأنا أشتريلك أحسن صندل ، راح أفصل لك اياه من كوشوك السيارات .
ولم يكد والده ينهي كلامه حتى التفت وراءه على صوت صراخ وضجيج ، عاد إلى الشرق ، وجد الناس يتجمهرون حول الرجل، صرخ الناس : يهودي .. يهودي .
أزاح والده الناس قائلا بعد أن سحب ساطورته : خلوني أقطع راسه وأخمد أنفاسه .
قال أحد الناس : والحكومة اللي بعتنا نبلغها .
ـ خليها تقطع راسي .
ـ استهدي بالله يا راجل .
وصلت سيارة شرطة ، اقتادوه إلى مركز خان يونس ، وبدلا من أن يصل الحدود ماشياً أوصلوه راكبا !
ومرة ثانية لم يصدقه والده ، ذهب إلى المدرسة في الصباح الباكر، وتحت شجرة أكاسيا تقع على يسار الطريق المتجهة غرباً رأى بركة دماء طازجة وبعض خصلات شعر طويلة، وعندما عاد إلى البيت أخبر والده الذي لم يصدقه : ولك مش راح تبطل تلافيق ، وبعدين معاك ؟ وإلا أبطلك من المدرسة ؟
ـ بكرة بتسمع .
وفي المساء سمع والده يهمس لأمه باسم فتاة ذبحها أخوها وهرب إلى الأردن لأن آثار الحمل ظهرت عليها .
أصبحت المنطقة مأهولة بالسكان بعد أن كانت الجرائم ترتكب فيها ، وإلى أن تكتشف الجريمة يكون الجاني قد هرب إلى الأردن أو إلى لبنان عن طريق البحر.
بنيت مدرسة عبد القادر الإعدادية ، وإلى الغرب منها كان قد بني مستشفى ناصر، وإلى الغرب منه بنيت مدرسة عكا الإعدادية للبنات ، أما على يسارك وأنت متجه شرقا فقد بني الإستاد الرياضي ، وتحت مدرجاته أنشئت المكتبة الثقافية التي تحتوي على آلاف المراجع والكتب ، كما بنت الوكالة إلى الشمال وإلى الجنوب من هذه المباني بعض البيوت القرميدية لإيواء اللاجئين الذين لم يتسلموا مساكن في السابق ، وإلى الغرب كانت قد بنيت مدرسة خان يونس الإعدادية للاجئين جنوب الأسفلت، ومدرسة مصطفى حافظ الإعدادية شمال الأسفلت ، يذكر أحمد الفايز كيف انشطرت مدرسة مصطفى حافظ عن مدرسة خان يونس الإعدادية، يتذكر أول ناظر لها ، كان رجلا طيبا هادئا، يتكلم بصوت خفيض، بينما كان الناظر السابق رجلا عنيفا يشخط وينطر ، يضرب لأتفه الأسباب ، قررت مجموعة من الطلاب الانتقام منه، كوموا كوما من الحجارة في بناية مهجورة ، وعندما حل المساء تساقطت الحجارة كالمطر على بيته ، دخل هو وضيوفه إلى الغرف وتركوا اللوكس فانكسر .
***
في بداية العام الدراسي الجديد، اشتد مرض والده ، لم يعد يستطيع الحركة بعد أن كان شعلة من النشاط والحركة ، لم يكن أحمد الفايز يمتلك أجرة كشفية الطبيب ، اضطر إلى الاقتراض من زميل له ، أحضر الطبيب إلى البيت، أخبره أن والده يعاني من الشيخوخة ، علق أحمد الفايز على كلام الطبيب : ولكن عمر والدي لم يتجاوز الخامسة والستين، كتب الطبيب الوصفة الطبية ، ناوله أحمد الفايز جنيها وشكره ، خرج الطبيب وتوجه أحمد الفايز إلى أقرب صيدلية ، اشترى الدواء لوالده ، لم يأخذ والده إلى عيادة الوكالة حتى لا يلوم نفسه إن حصل لوالده مكروه لا سمح الله وحتى لا يتهمه الناس بالتقصير في حق والده، كانت عيادة الوكالة تقدم العلاج مجاناً ، وكذلك كان مستشفى ناصر الحكومي يقدم الرعاية الطبية التامة مجاناً ، ولكن أحمد الفايز أصر على أن يحضر الطبيب إلى البيت وأن يقدم لوالده الرعاية التامة في البيت ، هذا الوالد الذي لم يدخر وسعا في سبيل أبنائه، كان مزيجا غريبا من عواطف متناقضة ، تجده حنونا غاية الحنان ، قاسياً أشد القسوة ، لكنه يظل إنسانا في أعماقه، يحب الصحاب ولا يجد نفسه إلا بينهم ، وعندما كان يتعاطى الخمر يكون مرحاً كل المرح كريماً كل الكرم ، ما في يده ملك للآخرين ، كانت أمي تشبهه ببيت القرع الرقابي ، تقول : والدك يا أحمد مثل بيت القرع ، جذوره داخل البيت وفروعه في الخارج ، إذا ظلت يد والدك مبسوطة كل البسط فلن ينصلح لنا حال ، يجب أن يفكر فينا ، الدنيا ليست هي الدنيا ، وأنت تتعلم في المدرسة ، والتعليم يحتاج إلى مصاريف ، فهل تكفي الأجرة المخسوفة التي يأخذها والدك للإنفاق على البيت حتى يبسط يده لكل من هب ودب ، كان من عادة هذا الولد أن يقتسم غذاء يومه مع أول مار في الطريق، وكان بالمقابل لا يتردد عندما يدعى إلى تناول الطعام ، كان يحب أن يشارك الناس وأن يشاركوه ، لا يهنأ بطعامه إذا اضطر إلى الأكل منفرداً ، وها هو الآن طريح الفراش، ما أقسى الزمن .
***
في المدرسة كان عدد الأذنة يزيد عن عشرة، كانوا يختلفون على أتفه الأمور، عدد المقاعد في غرفتي يزيد مقعداً عن فلان، كان أحمد الفايز مضطرا إلى التدخل لحل مشاكلهم ، كان عبد الناصر رحمه الله يحاول توفير فرصة عمل لكل إنسان فلسطيني في القطاع مما أدى إلى بطالة مقنعة ، أناس يقبضون رواتبهم في آخر كل شهر دون أن يقدموا عملا حقيقياً، وهو يذكر ذلك الآذن الذي كان يصلي صلاة الضحى ليتهرب من عمله فيقوم به الآخرون بدلاً منه ، كانت أدوية الصيدلية المدرسية تسرق باستمرار ، لم يستطع الناظر أن يشك في أحمد الفايز بعد أن أمنه على أسئلة الامتحانات بعد أن كشفها أحد المعلمين وسربها إلى بعض أقاربه وأبناء أصدقائه، ناقش الناظر أحمد الفايز في موضوع الأدوية التي تختفي من صيدلية المدرسة ، اقترح عليه أحمد الفايز أن يقوما معا بزيارة مفاجئة للمدرسة ليلا ، لأنه يعتقد أن الأدوية تسرق في الليل ، لم يشأ أحمد الفايز أن يتهم شخصا معينا، لابد من التحري والتأكد قبل أن تمتد أصابع الاتهام نحو أي إنسان، وعندما فتحا بوابة المدرسة ليلا لم يشعر أحد بقدومهما ، وجدا الغرفة التي توجد فيها خزانة الإسعاف والأدوية مفتوحة، ووجدا الآذن الشيخ الذي يصلي الضحى كل يوم وقد ملأ جيوبه بالأدوية ، التفت الشيخ وراءه ، يبدو أنه سمع وقع الخطوات ، اصفر وجهه وتجمد الكلام في فمه، ماذا تفعل يا شيخ عطا الله؟ قال الناظر . تقطعت أوصال الكلمات على شفتيه: أ..أ .. أنا.. أ .. أقصد ، عندي صداع .
ـ سألتك ماذا تفعل يا شيخ ؟
ـ أبحث عن حبة أسبرين .
ـ وما الذي وضعته في جيبك ؟
فوجئ الشيخ ، لم يكن يتصور أن أحداً رآه وهو يضع الأدوية في جيبه ، انعقد لسانه .
ـ أخرج ما في جيبك يا شيخ .
أخرج الشيخ ما في جيبه من الأدوية .
ـ وصلاة الضحى يا شيخ ؟ لقد جعلتني أشك في نفسي يا رجل .. أنت الذي تفعل ذلك !
ـ سامحني أرجوك ، لن أكررها مرة ثانية.
ـ وإن كررتها ؟
ـ بلغ عني ، اتصل بالشرطة، افعل ما تشاء.
أدرك الشيخ عطا الله أن الزيارة المفاجئة كانت من تخطيط أحمد الفايز، أخذ يتتبع تحركات أحمد الفايز لعله يمسك عليه بعض الأخطاء ، قرر ناظر المدرسة أن تكون الصلاة في مواعيدها، ثار الشيخ عطا الله ووجه كل نقمته ضد أحمد الفايز : تريدون منعنا من الصلاة يا كفرة ؟
ابتسم أحمد الفايز ابتسامة ذات مغزى : لم يحاول أحد منعك من الصلاة يا شيخ ، فقط الصلاة في مواعيدها .
ـ أنتم تعرفون الصلاة يا كفرة ، أنتم شيوعيون !
ـ المباحث تعرف أننا لسنا شيوعيين .
شتم الشيخ عطا الله أحمد الفايز شتيمة مقذعة لاستفزازه ، لم يستجب للاستفزاز وإنما طلب من الحاضرين أن يشهدوا على ما سمعوا ، قرر أحمد الفايز أن يكتب شكوى بما حصل للشئون الإدارية في مديرية التربية والتعليم ، تم التحقيق في الشكوى وقررت المديرية فصل الشيخ عطا الله ، فوجئ أحمد الفايز ، لم يكن يرغب في ذلك ، كان يتوقع أن يتم لفت نظر الشيخ أو إنذاره على أكثر تقدير، لكن الفصل شيء آخر ، فقطع الأرزاق في نظره من قطع الأعناق ، لم يسكت أحمد الفايز، توجه إلى المديرية وطالب المسئولين بوقف إجراءات الفصل ، لكنهم أصروا على تنفيذ القرار، رجاهم أن يؤجلوا التنفيذ فترة من الوقت علهم يجدون مخرجا ، هو لا يريد أن يكون سببا في قطع رزق أي إنسان حتى ولو أخطأ في حقه، ولكن ذنب الكلب أعوج ، لم يهدأ بال الشيخ ، قرر أن يفتعل مشكلة مع ناظر المدرسة ، كتب ناظر المدرسة شكوى جديدة، قرار الفصل كان جاهزا ، وكان الشيخ قد أنذر إنذارا نهائيا بالفصل، لم يعد لدى المسئولين قدرة على التحمل، مشكلتان في أقل من شهر، لابد من إجراء رادع ، بدأت رائحة خبر الفصل تنتشر في الأجواء ، وذات يوم بينما كان أحمد الفايز منهمكا في بناء غرفة له في منزله حتى يتمكن من الزواج في غرفة مستقلة ، جاءه الشيخ ومعه آذن آخر، قال الرجل : حضرنا في الصباح ليقدم الشيخ عطا الله اعتذاره لك على ما بدر منه في حقك .
ـ ليس هناك داعٍ للاعتذار ، نحن أخوة .
ـ ولكنك لا ترضى له الضرر.
ـ إن كان هناك أي ضرر فهو السبب ، وعلى كل حال ، إذا سألوني سأقول أنني متنازل عن حقي .
لم يمض وقت طويل حتى وصل قرار الفصل ، تردد الناظر في تسليم القرار للشيخ خوفاً من ردة فعله ، تناول أحمد الفايز الخطاب في يده، استدعى الشيخ إلى مكتب الناظر، سأله أحمد الفايز : هل يكفيك مرتبك يا شيخ ؟
فوجئ الشيخ : لماذا ؟
ـ مجرد سؤال، هل أنت سعيد في عملك ؟
ـ بالتأكيد لأ ، ولكن لماذا كل هذه الأسئلة ؟
ـ هل لديك مهنة وهل يمكنك القيام بعمل آخر ؟
ـ من غير لف ودوران ، هل فصلوني من العمل ؟
ـ أريد أن أعرف ، هل لديك مهنة أخرى ؟
ـ نعم . أنا سائق شاحنة .
ـ وأيهما أفضل : أن تعمل آذنا أم أن تعمل سائقا ؟
ـ مهنة السواقة تعطيني دخلا أفضل . لا تقلق إن كان ما تحمله قرارا بفصلي من العمل .
ناوله أحمد الفايز كتاب الفصل بعد أن اطمأن إلى أن للشيخ مصدر رزق آخر، تناول الشيخ الكتاب لكنه قرر أن يتظلم إلى وزارة الحربية المصرية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي


.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب




.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?