الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية و مجلس الأمن

عبدالرؤوف نوين حميدى

2015 / 1 / 19
دراسات وابحاث قانونية


العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية و مجلس الأمن
مسألة إنشاء محكمة جنائية دولية من أهم المسائل التي كانت مطروحة على أجندة الأمم المتحدة منذ إنشائها عام 1945 ، وحتى اعتماد النظام الأساسي لهذه المحكمة في مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضية في روما عام 1998 ..
والواقع أن أمر إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كان أحد أهم المقاصد الرئيسية للأمم المتحدة وهو المبدأ الأول الذي قضى بأنه : (( أي شخص يرتكب أية جريمة حسب القانون الدولي يكون مسؤولاً عن ذلك ، ويعرضه للعقاب )) ..
ولهذا فمن العدالة ألاَّ يفلت الجناة من العقاب على ما يرتكبونه من جرائم خطيرة تلحق ضررها بالإنسانية جمعاء ، كجرائم الحرب ، والجرائم ضد السلام ، والجرائم ضد الإنسانية، وهو ما قد لا يتحقق في بعض الأحوال إلا بإنشاء هيئة قضائية جنائية دولية تختص بالنظر في تلك الجرائم.
المبحث الأول
دور الأمم المتحدة في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية
في خطوة مهمة نحو إنشاء محكمة جنائية دولية دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 لجنة القانون الدولي إلى إمكانية إعداد مشروع مدوّنة للجرائم المخلة بالسلم والأمن الدوليين .
وفي خطوة أخرى دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة لجنة القانون الدولي عام 1948 إلى إمكانية بحث إنشاء جهاز قضائي دولي لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية وغيرها من الجرائم الدولية الأخرى
وفي عام 1952 ، أعدت لجنة القانون الدولي مشروعاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ، إلاَّ أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قررت عام 1953 تأجيل البث في تأسيس المحكمة الجنائية الدولية الدائمة إلى حين الاتفاق على وضع تعريف لجريمة العدوان .. والاتفاق على مشروع قانون الجرائم ضد أمن وسلامة البشرية .. وتوالت التأجيلات لأسباب أخرى عديدة حتى عام 1965 ، حيث بدأت جهود الأمم المتحدة تتواصل من أجل تأسيس هذه المحكمة .
وعلى إثر المعاناة الإنسانية الناتجة عن الحروب الدولية وأعمال التطهير العرقي ، وجرائم الإبادة والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية التي شهدتها البشرية في عدة مناطق من العالم وتحت تأثير كل هذه الأحداث استكملت لجنة القانون الدولي صياغة مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ، وقدمته عام 1994 إلى الجمعية العامة ، التي قررت في دورتها الثانية والخمسين عقد المؤتمر الدبلوماسي للأمم المتحدة.
المبحث الثاني
مدى تبعية المحكمة الجنائية الدولية للأمم المتحدة
في مناقشات إعداد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ، أُثير جدل طويل وعميق بشأن تحديد طبيعة علاقة المحكمة بالأمم المتحدة حيث انقسم الرأي في لجنة القانون الدولي واللجنة التحضيرية التي شكّلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة لدراسة مشروع النظام الأساسي ، وإعداد التقرير النهائي بشأن أحكامه إلى اتجاهين
الاتجاه الأول : يطالب بضرورة أن تكون المحكمة من أجهزة الأمم المتحدة .
الاتجاه الثاني : ذهب إلى ضرورة استقلال المحكمة المزمع إنشاؤها بشخصية دولية على أن ترتبط بالأمم المتحدة برابطة وصل تعاونية .
لم يقدر لأي من الاتجاهين أن يسود بسبب عدم حصوله على الأغلبية اللازمة لإقراره .. ومع ذلك فإن المناقشات أوضحت أن هناك توجهاً عاماً بشأن إقامة علاقة وثيقة بين المحكمة والأمم المتحدة ، بشرط ألاَّ تنتهي هذه العلاقة إلى المساس باستقلال المحكمة وحيادها بأي حال من الأحوال.
تنص المادة ( الثانية ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن: ((تنظم العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة بموجب اتفاق تعتمده جمعية الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي ، ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابةً عنها )) .
وتطبيقاً لهذا النص كلفت اللجنة التحضيرية التي أعدت النظام الأساسي بإعداد مشروع هذه الاتفاقية على أن تعتمد اللجنة في تحديد العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة على ذات المعايير المعتمدة في تحديد علاقة الأمم المتحدة بالهيئات الأخرى التي تكون لها أهداف قريبة من الأمم المتحدة .
أشرفت الأمم المتحدة على صياغة مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ، وأشرفت على جميع مراحل إعداده ، وهي التي دعت أعضائها إلى عقد المؤتمر الدولي لاعتماده .. ونصّت المادة ( 125 ) من النظام الأساسي على أن يكون مقر في مقر وزارة الخارجية الإيطالية في روما مكاناً تُودع فيه وثائق التصديق أو القبول أو الموافقة وبروتوكولات الانضمام لدى الأمين العام للأمم المتحدة ..
وإذ تمثل المحكمة الجنائية الدولية هيئة قضائية دائمة، أنشئت بإرادة الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، لتجسيد رغبة المجتمع الدولي في تحقيق عدالة جنائية دولية مبنية على ركائز متينة تراعى فيها حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وكذا استقلال الدول وسيادتها، غير أن مواد النظام الأساسي للمحكمة جاءت بالعديد من الأحكام التي أشارت إلى وجود علاقة بينها وبين مجلس الأمن، على اعتبار أن النظام الأساسي يمنح المجلس سلطات واختصاصات في مواجهة المحكمة، ويضع بالمقابل بعض الالتزامات.
لتأطير وتأكيد هذه العلاقة، سوف نتعرض إلى الأساس القانوني الذي يحكم هذه العلاقة، بالإضافة إلى الحق المعترف به للمجلس في إخطار المحكمة الجنائية الدولية، ودوره في تفعيل تعاون الدول مع المحكمة .

المبحث الثالث
الأساس القانوني والممارسة المؤدية إلى ظهور هذه العلاقة
سنقوم في هذا المبحث بدراسة علاقة المجلس بالمحكمة من خلال الوثائق الدولية ومنها الميثاق والنظام الأساسي للمحكمة، والذي يشير إلى أن المجلس عليه ممارسة اختصاصاته في مواجهة المحكمة وفق الميثاق وبخاصة الفصل السابع منه، وكذلك وفق النظام الأساسي للمحكمة، آما أن ظهور هذه العلاقة كانت وراءها مبادرات عدة قام بها المجلس في مجال حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وفي قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني.
1- العلاقة من خلال الوثائق الدولية:
يعد ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مصدري سلطات والتزامات مجلس الأمن، فميثاق الأمم المتحدة عبارة عن معاهدة، وبهذه الكيفية يجب على مجلس الأمن احترام الاختصاصات والحدود المقررة في الميثاق.
نظرا لطبيعة المهام الملقاة على عاتق مجلس الأمن بموجب الميثاق، والذي حدد له بصفة نهائية صلاحياته واختصاصاته، فانه يمكن القول أن النظام الأساسي للمحكمة لم يأت ليمنح المجلس سلطات خاصة ويلغي أخرى كان قد حددها الميثاق، وإنما جاء ليمنح المجلس بعض السلطات في مواجهة المحكمة ويضع بالمقابل على عاتقه التزامات يتعين عليه التقيد بها في ممارسته لاختصاصاته المحددة في الميثاق.
أ- ميثاق الأمم المتحدة
أشارت العديد من نصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى أن مجلس الأمن يمارس صلاحياته في مواجهة المحكمة طبقا لميثاق الأمم المتحدة وبخاصة الفصل السابع منه، متى تعلق الأمر بأي فعل يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، وكان في ذات الوقت يشكل جريمة من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة، وسند وجود هذه العلاقة هو تمكين مجلس الأمن من تسوية المسائل المطروحة أمامه، ويكون اللجوء إلى المحكمة هو الحل الأخير وليس الأول وخاصة أن الفصل في المسائل السياسية يختلف عن الفصل في المسائل القانونية.
ويستند المجلس إلى الأساس القانوني في ممارسة اختصاصاته مع المحكمة الجنائية الدولية، والمتمثل في نصوص الميثاق، أو من السوابق التي أرساها المجلس فشكلت بذلك عرفا دوليا، حيث أن المجلس يصدر القرارات في إطار ممارسة اختصاصه، وهي قرارات يجب أن تستند على أساس صحيح لترتب آثارا قانونية في مواجهة المخاطبين بها، خاصة المحكمة الجنائية الدولية، سواء فيما تعلق بالقواعد الإجرائية والشكلية، أو ما تعلق بطرق التصويت على هذا القرار، إذ أنه من خلال تحديد عناصر هذه العلاقة وجدنا أن مواد النظام الأساسي ذات الصلة تشير إلى مواد الميثاق، فمثلا في موضوع إحالة المجلس حالة ما إلى المحكمة يرى أنها تشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة متصرفا في ذلك بموجب الفصل السابع من الميثاق والمعنون (بالإجراءات التي تتخذ في حالة تهديد السلم أو الإخلال به أو وقوع عمل من أعمال العدوان) ، نجد أن المجلس في إحالته لهذه الحالة ملزم بالنظام الأساسي والميثاق، فما تعلق بالنظام الأساسي سنحاول تحليله في الفرع الثاني من هذا المطلب، أما ما تعلق بالميثاق فهو ما يقع تحت طائلة الأفعال التي تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، حيث أن الميثاق لم يعرف ماهية الأعمال التي تنطوي على تهديد للسلم والأمن، ولم يضع ضابطا يتعين النزول عنده في تكييف ما يعرض عليه من وقائع.
وعليه فإن ما يقرره المجلس بكل حرية لا يكون محلا للطعن فيه، ومن هذه المواد المادة 24 منه، والتي تحدد اختصاصات المجلس، فهي بمثابة المحور الذي لا يجب أن يحيد عنه المجلس في ممارسة اختصاصاته باعتباره وآيلا عن الدول ونائبا عنها، على أن ذلك يبقى مرهونا بطبيعة المسائل التي تعرض على المجلس والظروف التي يكون فيها، وآيفية تعامله مع الحدث فهنا نلاحظ أن المشرع الدولي قد قصد من المادة 24 منح المجلس مهمة حفظ السلم والأمن الدوليين بشكل واسع وفقا لما أورده الميثاق في ديباجته.
هنا قد يثور الشك عن مدى تقيد المجلس بالميثاق إزاء ممارسة اختصاصاته في مواجهة المحكمة رغم ما يمكن إن يمثله إعطاء المجلس مثل هذه السلطة من مساهمة في حفظ السلم والأمن الدوليين إلا أنه قد يشكل توسعا قي السلطات الممنوحة له بموجب الميثاق، وتأتي بعدها المادة 25 من الميثاق لتعطي لقرارات المجلس الحجية التامة بأن تفرض على الدول التزاما بتنفيذ هذه القرارات وفق ما تنص عليه ، وهذه المادة قد يكون لها جانب إيجابي، إذ يمكن أن تدفع بالفعل الدول إلى التعاون مع المحكمة لتنفيذ قراراتها وأحكامها إذا طلب المجلس ذلك، غير أن ذلك قد لا يمكن تصوره في جميع الحالات وبنفس الصورة.كما أنه على المحكمة أن تتأكد من أن قرار المجلس بالإحالة مثلا قد استكمل إجراءات صدوره وفق ميثاق الأمم المتحدة، إذ أن القرارات في المسائل الإجرائية تصدر بموافقة 9 من بين 15 عضو في المجلس، في حين تصدر في المسائل الموضوعية بموافقة 9 من 15 عضو يكون من بينها لزاما أصوات الدول الدائمة العضوية.
غير أن الميثاق لم يضع معيارا واضحا للتمييز بينها وباعتبار أن قرار الإحالة من المسائل الموضوعية، فإن تغيب دولة دائمة العضوية عن التصويت أو امتناعها قد يؤثر في تكوين القناعة لدى المحكمة بإمكانية ممارسة اختصاصها وفق المادة 13 / ب من النظام الأساسي، على أساس أن اشتراك العضو الدائم في التصويت توجبه من جهة مسؤوليته في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين ومن جهة أخرى يمنح القرار شرعية ومصداقية.
وعليه فلا يكفي أن تكون إجراءات التصويت صحيحة في قرار المجلس لممارسة المحكمة لاختصاصها بل لابد أن يشير المجلس في قرار الإحالة إلى الفصل السابع من الميثاق وهنا ينبغي الفصل بين ما هو سياسي وبين ما هو قانوني، وبين اختصاصات المجلس واختصاصات المحكمة، وهنا يطرح التساؤل عن إمكانية إنتهاكك المجلس لحدود الاختصاص الممنوح له، ومنه فما هي الآلية التي ابتدعها النظام الأساسي لمنع انتهاك المجلس لاختصاص هذه المحكمة، والحقيقة أن النظام الأساسي لم يدرج مادة تمنع تكرار ما حدث في قضية لوكاربي من وجود فكرة تنازع الاختصاص بين المجلس ومحكمة العدل الدولية حيث أن ليبيا والمؤيدين لها يرون أن الأمر يتعلق بمسألة قانونية، وهي نزاع قانوني يتعلق بتسليم المجرمين ويحل هذا النزاع أمام القضاء الدولي، في حين ترى الدول الغربية أن النزاع سياسي خاص بالإرهاب الدولي وأن المجلس هو صاحب الاختصاص الأصيل به فالفصل بين عمل المحكمة والمجلس إذا افتراضنا وجوده فان عمل المجلس يبدأه باتخاذ قرار وفق المادة 39 من الميثاق في حالة تهدد السلم لإحالتها على المحكمة ومنه يكون للمحكمة أساس يسمح بمراجعة هذا القرار.
أما المادة 39 من الميثاق وهي المتعلقة باختصاصاته في حالة تهديد السلم والأمن الدوليين والتي تنص (يقرر مجلس الأمن ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملا من أعمال العدوان، ويقدم في ذلك توصياته أو يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير طبقا لأحكام المادتين 41و 42 لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه)، فهذا النص يخوله السلطة المطلقة في تحديد ما يعد تهديدا أو عدوانا فهو يتمتع بسلطة واسعة في تكييف ما يعرض عليه من وقائع كما سبق الذكر.
فإذا قام بتكييف الفعل بأنه يهدد السلم والأمن الدوليين، وكان الفعل يشكل جريمة من الجرائم الواردة في النظام الأساسي للمحكمة فهنا تتحقق الصلة بين هذين الجهازين، على أنه إذا كيّف المجلس التصرف بأنه مهدد للسلم والأمن الدوليين فإنه يقوم باتخاذ مجموعة من التدابير غير العسكرية الواردة في المادة 41 من الميثاق والتي تنص (لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء "الأمم المتحدة" تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئيا أو آليا وقطع العلاقات الدبلوماسية، أو التدابير ذات الطابع العسكري الواردة في المادة 42 منه) والتي تنص كذلك (إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أوثبت أنها لم تف به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لإعادته إلى نصابه، ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة)، كل هذا في مواجهة الدول، وله أن يحيل الأفراد المتهمين في ذلك إلى المحكمة الجنائية الدولية.
أشار واضعو النظام الأساسي للمحكمة إلى أنه على المجلس التقيد بالشروط الموضوعية والشكلية لإصدار القرار، ومن هذه الشروط الموضوعية ضرورة اتفاق هذه القرارات ونصوص الميثاق وأن تكون في إطار الاختصاصات المخولة له، وأن يرمي القرار إلى تحقيق أهداف المجلس، أما فيما يتعلق بالشروط الشكلية فالتقيد بها لازم لممارسة الاختصاص، ومنها التصويت في المسائل التي تعرض عليه، ففي علاقته بالمحكمة الجنائية الدولية فإن صدور قرار معين باعتباره لا يندرج في المسائل الإجرائية المحددة حصرا في الميثاق إنما يعتبر من المسائل الموضوعية.
ب- النظام الأساسي للمحكمة
تم تحديد العديد من المجالات في علاقة المجلس بالمحكمة في مواد النظام الأساسي، والتي يحق للمجلس التدخل فيها، وهي بمثابة الدليل الذي يسترشد به المجلس في تفعيل هذه العلاقة، وهذه المواد تشكل خيوط الربط بينها وبين المجلس باعتبارها أظهرت التطور الحاصل في اختصاصات المجلس، فقد خص المجلس بصلاحيات واسعة في نظام روما الأساسي بحيث يمكنه إحالة حالة إلى المحكمة إذا رأى أنها تشكل جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، وفق نص المادة 13 من النظام الأساسي للمحكمة وهذه المادة قد حددت طبيعة العلاقة بين المجلس والمحكمة في موضوع الإحالة، فصلاحية الإحالة يستمدها من الفصل السابع من الميثاق، غير أنّ التخوف يبقى في أنه قد يحيد المجلس عن تطبيق هذا الإجراء بصورة مشروعة وبمساوة تامة، خاصة إذا كان هذا الحكم قد أملته اعتبارات سياسية، وهذا ما يطرح التساؤل عن إمكانية أن يكون المجلس مرشحا مستقبلا لوضع قيود على سلطات المحكمة، وعليه فإن هذا الانشغال يبقى قائما رغم الالتزامات التي تم بها محاولة كبح جماح المجلس.
أما فيما بدور المجلس في إيقاف التحقيق والمتابعة، فإن المادة 16 من النظام الأساسي نصت على سلطة خطيرة تتضمن شل نشاط المحكمة، وتعليق دورها في التحقيق والمحاكمة لمدة 12 شهرا قابلة للتجديد بناء على طلب المجلس، إذا استعمل هذا الدور تعسفيا، أو لأغراض سياسية فإنه قد يلغي المحكمة في حد ذاتها، فلمجلس الأمن أن يمنع البدء في التحقيق أو يوقف الاستمرار فيه، أو يمنع البدء في المحاكمة، أو يوقف الاستمرار فيها لمدة سنة كاملة قابلة للتجديد إلى ما لا نهاية إذا كان حفظ السلم والأمن يستدعي ذلك.
وعليه نلاحظ أن واضعي النظام الأساسي عندما أدرجوا دورا للمجلس في عمل المحكمة، دون الابتعاد بذلك عما رسم له منذ عام 1945 لنستشف المكانة التي مازال يحتفظ بها المجلس رغم مرور أكثر من 60 عاما على إنشاء الأمم المتحدة والذي قد يحتاج إلى إعادة هيكلة سواء ما تعلق بإجراءات التصويت أو زيادة الأعضاء فيه.
2- ظهور علاقة المجلس بالمحكمة
لم تظهر العلاقة بين المجلس والمحكمة طفرة واحدة، وإنما جاءت عبر مراحل وأشواط عديدة قطعها المجلس في سبيل تفعيل العدالة الجنائية الدولية قبل نشأة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، وذلك بظهور دور له سواء في مجال حماية حقوق الإنسان وتأكيد الحماية الدولية لها، إلا أن الطريق الذي أدى مباشرة إلى ظهور هذه العلاقة، هو دوره في قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني، من خلال إنشائه للجان مختلفة لرصد هذه الانتهاكات ، وبناء على ذلك سوف نركز على أبرز المجالات التي ظهرت فيها تلك العلاقة بين المجلس والمحكمة.

أ- دور المجلس في حماية حقوق الإنسان
يعد مجلس الأمن الأداة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة، وهو المسئول الأول عن حفظ السلم والأمن الدوليين، وقمع أعمال العدوان، وإنزال العقوبات بالأعضاء المخالفين، واهتمام مجلس الأمن بحقوق الإنسان وحمايتها ينطلق من مسألة تأثير أنتهاكها على السلم والأمن الدوليين، فالمجلس يتدخل في حالات انتهاك حقوق الإنسان التي يعتبر أنها تهدد السلم والأمن الدوليين، ويتخذ تدابير قمعية أو قسرية ضد المسئولين عنها ولكن توصيفه لها لا يعتمد على معايير قانونية، بل على تقديرات سياسية، نظم المجلس اجتماع قمة لأعضائه انتهى بإصدار وثيقة عالجت موضوع حقوق الإنسان في 31/1/1992 باعتباره جزء من السلم والأمن الدوليين.
استطاع المجلس إصدار العديد من القرارات المتعلقة بالحماية الدولية لحقوق الإنسان وإرسال بعثات لتقصي الحقائق عن مدى احترام هذه الحقوق في العديد من الدول، كما أشار المجلس إلى انتهاكات حقوق الإنسان حتى في ظل التوترات والإضطربات الداخلية بصورة واسعة، على اعتبار أن مصدر إعلان توركو المتضمن القواعد الإنسانية الدنيا، ومن أن أحكامه مستلهمة في المقام الأول من الصكوك التي تحمي حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وأن هذا الإعلان يشير إلى ميثاق الأمم المتحدة وبخاصة إلى الأهداف و المباديء التي جاء بها الميثاق والتي يسعى المجلس إلى تحقيقها وحمايتها ومنها حقوق الإنسان.
أضاف المجلس بعد ذلك في مجال العمل على احترام حقوق الإنسان بأن طلب من الأمين العام للأمم المتحدة ضرورة التعاون مع كافة المنظمات الإقليمية من أجل تقديم المساعدة الإنسانية لضحايا النزاعات المسلحة، هذه المنظمات الإقليمية العاملة في هذا المجال وفق المادتين 52 و 53 من الميثاق، وهذه المواد حددت إطار عمل هذه المنظمات، والتي تعمل على أن تكون نشاطاتها متلائمة مع مقاصد وأهداف الأمم المتحدة، والتي جاءت في ديباجة ميثاقها حماية الحقوق الأساسية للإنسان وكذا كرامته، وأيضا في المادة 3/1 منه والتي تنص على تعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وقد استمر المجلس في تأييد الدور الإقليمي لهذه المنظمات، وذلك في قراره 1078 في نوفمبر 1996والذي أكد من خلاله على أهمية تقديم المساعدات الإنسانية للاجئين الروانديين التي تقدمها منظمة الوحدة الإفريقية.
ومنه فقد شعر أعضاء المجتمع الدولي بضرورة احترام حقوق الإنسان ومراعاتها، وتوفير الضمانات لممارستها، وذلك ليتمكن الأفراد من اللجوء إلى المحاكم الوطنية في حال كونهم ضحايا لانتهاكات حقوق الإنسان أو أن يسألوا أمام محاكمهم الوطنية، أو أمام محاكم مؤقتة أنشأها المجلس لذلك الغرض، كما فعل المجلس في كل من يوغسلافيا ورواندا على اعتبار أن هذه المحاكم هي أجهزة دولية تتولى معاقبة الأشخاص الذين يرتكبون انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من خلال ما قام به المجلس إزاء احترام حقوق الإنسان، فقد منح للمجلس أمام المحكمة الجنائية الدولية سلطة إحالة حالة إلى المحكمة الجنائية الدولية في إطار جرائم محددة منها جريمة الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وذلك لأن هاتين الجريمتين تعتبران داخلة في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان أكثر من القانون الدولي الإنساني، إذا ثبت لديه أن مثل هذه الجرائم تهدد السلم والأمن الدوليين، إلا أن التخوف من أن تطغى المصالح السياسية على العدالة الجنائية الدولية، على أن هذه الجهود التي بذلها المجلس أبرزت توجها نحو تفعيل دور المجلس في تدويل المسؤولية الجنائية الفردية عن خرق حقوق الإنسان، حتى بلغ ذلك إلى حد منحه سلطات أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
ب - في مجال قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني
المقصود بالانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني مجموع الأفعال التي تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني، والتي تصيب المقاتلين والأسرى والمدنيين على حد سواء، في أرواحهم وأجسادهم وممتلكاتهم، أوهي المخالفات التي تقع ضد القوانين والأعراف التي تحكم سلوك الدول المتحاربة والأفراد في حالة الحرب، والتي ترتكب بناءا على أمر أو لمصلحة البلد الذي ينتمي إليه المجرم ويعد الخروج عن هذه القوانين جرائم تستحق العقاب ويرى بعض الفقهاء بأنه يجب احترام قواعد قانون النزاعات المسلحة ومراعاتها بكل صرامة في جميع الظروف والأحوال خلال الحرب، ويعد الخروج عليها جريمة من جرائم القانون الدولي يستحق عليها وقد نصت على ذلك المادة 85 من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1977.
إلا أننا لو استرجعنا الأصول المختلفة لقوانين الحرب، فإن أهم مسالة أثارها الفقهاء هي جدوى وجود قواعد قانونية تحكم خوض الحرب، إلا أن الإجابة على هذا التساؤل لا تنطلق من وجوب إيجاد هذه القواعد أوعدم وجودها ؟، وإنما آيف يتم التقيد بها ومعاقبة منتهكيها؟، من هذا الطرح يظهر الدور الذي قام به المجلس في قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني وقد بدا ذلك واضحا من إصداره لمجموعة من القرارات التي تتضمن حظرا اقتصاديا على بعض الدول لأنتهاكها للقانون الدولي الإنساني، ومنها العراق السودان وهايتي، رغم ما أثير حول أثر هذه العقوبات على المدنيين.
لقد لجأ المجلس إضافة إلى ذلك إلى إنشاء لجان تحقيق أو محاكم خاصة لقمع هذه الانتهاكات، فعقب محاكمات نورنبرغ وطوآيو والتي جاءت للمعاقبة على جرائم معروفة ومقررة بموجب العرف الدولي ولم تنشأ محاكم جنائية دولية لمحاكمة المتهمين عن جرائم دولية بالرغم من وقوع العديد منها آجرائم العدوان على مصر 1956 وحرب 1967 التي شنتها إسرائيل على مصر وسوريا والأردن، وحرب فيتنام وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي كثيرا ما تكررت دون أن تشكل لها محاكم لمتابعة مقترفيها.
انتظر العالم الأحداث الأليمة التي وقعت في يوغسلافيا السابقة منذ 1991 في قلب أوروبا ليتحرك ويطالب بمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية التي ارتكبها الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك، وذلك بمحاكمتهم أمام محكمة دولية أنشأت لذلك الغرض سنة 1993 ، إذ قام المجلس في أول خرجة له ردا على هذه الانتهاكات بإنشاء لجنة الخبراء المنشأة بموجب القرار 780 عام 1993 للتحقيق في الجرائم المرتكبة في إقليم يوغسلافيا، وجمع الأدلة عن الانتهاكات الخطيرة لاتفاقيات جنيف والانتهاكات الأخرى للقانون الدولي للإنساني، وتحديد الأشخاص المسئولين عن ارتكابها، وقد قامت هذه اللجنة المنشأة من طرف المجلس بالعديد من الزيارات الميدانية واستخراج الجثث، وبناء على تقارير هذه اللجان قامت فرنسا بطرح مبادرة داخل مجلس الأمن، انتهت بإصدار المجلس للقرار رقم1993 /808 لإنشاء محكمة دولية جنائية لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني في إقليم يوغسلافيا منذ 1991 تبعه بعد ذلك القرار الصادر من المجلس رقم 827 /1993 الذي وضع النظام الأساسي. للمحكمة في 34 مادة.
كما فرضت الأحداث الدامية في الأزمة الرواندية على مجلس الأمن أن يتصرف بطريقة مشابهة لما حدث في يوغسلافيا السابقة حتى لا يتهم بعدم الاكتراث بقضايا القارة الإفريقية. وبالفعل دارت مناقشات داخل المجلس حول إمكانية إنشاء محكمة دولية جديدة أو الاكتفاء بمد اختصاص محكمة يوغسلافيا السابقة ليشمل أيضا تلك الجرائم. وانتهت المناقشات إلى الاتفاق على إنشاء محكمة جديدة تسمى بالمحكمة الجنائية الدولية لرواندا. وأصدر مجلس الأمن قراره رقم 955 بإنشاء المحكمة وبإقرار نظامها الأساسي وحدد اختصاصها بالجرائم التي ارتكبت في رواندا.
إن دور مجلس الأمن هذا في إنشاء هذه المحاكم جعل وفود الدول في مؤتمر روما يقتنعون أن دوره في الماضي قد ساهم في محاكمة مرتكبي الجرائم الخطيرة وساهم أيضا في حفظ السلم والأمن وتحقيق العدالة الجنائية الدولية على نحو صحيح، ودليل ذلك أن المجتمع الدولي أصبح يرفض التغاضي عن الأعمال الوحشية كل ذلك جعل منحه سلطات أمام المحكمة الجنائية الدولية السبيل الأمثل لربط علاقة بين جهاز سياسي مكلف بمسألة حفظ السلم والأمن الدوليين وجهاز قضائي مكلف بتحقيق العدالة الجنائية الدولية في آن واحد، وتحت مفهوم أن الجرائم الخطيرة التي تهدد لسلم والأمن الدوليين والتي أنشأ المجلس لها محاكم خاصة هي الآن من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وأن استبدال المحاكم الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، يمكن اعتباره أيضا استبدالا لدور المجلس في الإنشاء بدور المجلس في الإحالة إلى المحكمة، مع الاحتفاظ رغم كل ذلك بمبدأ استقلالية المحكمة وحقها في تقدير تصرف مجلس الأمن في إخطارها.
وقبل الشروع في تحليل ما تقدم بشيء من الإيجاز تجدر الإشارة ابتداء إلى أن موضوع العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن لم تكن محل اتفاق بين وفود الدول التي شاركت في مؤتمر روما الدبلوماسي للمفوضين بشأن إنشاء المحكمة الجنائية(روما 1998 ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: المرسوم 54.. تهديد لحرية التعبير ومعاقبة الصحافيين بطر


.. الجزائر وليبيا تطالبان المحكمة الجنائية الدولية باعتقال قادة




.. إعلام محلي: اعتقال مسلح أطلق النار على رئيس وزراء سلوفاكيا


.. تحقيق لـ-إندبندنت- البريطانية: بايدن متورط في المجاعة في غزة




.. مستوطنون إسرائيليون يضرمون النار في مقر وكالة الأونروا بالقد