الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النكران

حسين الموزاني

2015 / 1 / 22
الادب والفن


حسين الموزاني
النكران
مقطع من رواية

كانت الممرضة تسكب على وجهي كحولاً مركزاً بغية تطهير تجاويف الجمجمة من القيح والدم الفاسد المخلوط بشظايا الزجاج، فلسعني الكحول وقتل في نفسي الرغبة في الحكّ والصراخ. وما هي إِلاّ دقائق حتّى شعرت بارتياح مدهش عميق يشبه إلى حد ما حالة التطهّر والنقاء الروحيين، كما لو أنّني أهرقت دمي من أجل غاية نبيلة ومقدسة. وأنقذني محلول الكحول، ولو للحظات، من حالة الجدب والجفاف اللذان شاعا في نفسي أثناء النوم. وبعد حين وضعت الممرضة منديلاً منقوعاً بالمطهرات على وجهي فاختنقت وأخذت أسعل سعالاً شديداً، فالتفت إلى الحارس أبحلق بعينيّ المنتفختين وكأنّني أبلغه بقرب أجلي وأنّه لم يعد بحاجة إلى رصاصاته الخمس والثلاثين...
وتذكّرت وأنا في سكرة الألم نصيحة الراهب الألماني الذي تحدّثت له ذات يوم في لحظة يأس عن مللي وكرهي للحياة في الشمال وعن حنيني إلى ديار أهلي وحرارة أرواحهم. فقال الراهب: «يا بني إِذا فقدت ثقتك بالله يوماً، فأرجو أن لا تفقد الثقة بالإِنسان أبداً، لأنّ الإِنسان هو الذي سيعيدكَ إلى طريق الحق إن ضاقت بك السبل. ولكن يا بني إِذا ما فقدت الثقة بالله والإِنسان معاً، فآنذاك لا شفاعة لك ولا رحمة إلى أبد الآبدين. ألم تسمع بالحكمة الذي تقول: إِذا ما وضعت ثقتك بالإِنسان فإنّك سوف تضاعف من قوّته عشرين مرّة؟»
لكن من ذا الذي سيضع ثقته بي؟ ومن ذا الذي سيضاعف من قوّتي ويهب روحي شيئاً من البهجة؟ بل من ذا الذي لا يغرس خنجره العربي في ضلعي؟
وكالحالم بدأت أنصت إلى وقع خطى حثيثة في الردهة الخاوية، إنّها لا شكّ خطوات ملاك الموت! لقد دنت الساعة يا حمدان!
لكنّها لم تكن خطوات السيّدين إسرافيل وعزرائيل، إِنّما وقع حذاء القنصل الحرماني الذي جاء شخصياً ليستطلع الأمر، فأصابتني الدهشة حقّاً. ومسحت الممرضة وجهي بالكمادة المنقوعة بالماء المثلّج لكي تنتعش أعصابي قليلاً، غير أنّ الأعصاب ظلّت هامدة. فصافحني القنصل ذو الشعر الباهت والعينين الزرقاوين الصافيتين. وقال إنّهم في الواقع عرفوا السبب الحقيقي للاعتداء وهو أنّني قد وقعت ضحية عملية سرقة وتعرضت للضرب من قبل اللصوص، وليس صحيحاً القول إنّني اعتديت على حرمة امرأة، وإنّ سفارتي ستخرجني بكفالة حالما تتحسّن حالتي الصحيّة.
وحين أنهى القنصل حديثه الدبلوماسي المهذب شعرت باطمئنان يتسلل إلى نفسي وشيء من الشجاعة والثقة بالنفس، فأي سحر هذا الذي تحمله كلمات (أولئك القوم الذين كانوا ذات يوم شرّ غزاة وشرّ عتاة في التاريخ والكون! عجيب وغريب أمر هؤلاء الذين قالت عنهم العرب قبل ألف عام إنّهم أجلاف غلاظ القلب يقتلون الأطفال الرضّع ويرمون جثثهم في البحر، وإنّهم يسلخون الذئاب ويرتدون جلدها وفروها ويلتهمون لحمها، وإنّهم بخلاء ومقترون ولا يطعمون الضيف، ولغتهم لغة القرود ونساؤهم أجمل نساء العالمين).
فمن ذا الذي أدخل الرحمة في قلب الرجل الأصهب ذي العينين الباردتين؟ وهل هي الحكمة الشمالية البليغة، أم أنّها حضارة الثلوج والأعاصير؟ نعم إنّها حضارة الجلود البيضاء التي ليس فيها سوى الضبط والربط وعواء القانون!
«ڨ-;-ـن إِزْ مير إِرگندڨ-;-ـان موكلشْ زاين زولته، زو فيرده إِش دين هونش داينس راينن، تسارتن كوربرز متْ آينم شتومفن شتروهالم أوسشلورفنْ ڨ-;-ـي آينْ هونگرگر بير، فيرشتاندن؟ رشتش فيرشتاندن؟ فيركلش؟»
وحالما غادر الدبلوماسي الردهة ارتفعت حرارتي درجتين ، وأصابني الإِعياء من جديد، وشعرت بالرغبة في التقيؤ، فقذفت سائلاً أخضر لزجاً، لم يمسحه أحد، فمددت يدي متلمساً الطريق إلى وجهي المعبأ بمسحوق الزجاج. وتمكّنت بعد جهد أنّ ألمس عنقي. وفرحت فرحاً داخلياً لأنّني تمكّنت من لمس قطعة الجسد هذه، فتركت يدي تستريح لحظة هناك، وبدأتُ أتأمل...
فحاولت مجتهداً أن أحضر علّتي في سؤال واحد تكون صياغته دقيقة محكمة، لكنّني عجزت، فقمت أركب الكلمات الهجينة ثمّ أفسخها عن بعضها البعض لعلّي أجد منفذاً صحيحاً آمناً إلى حقيقة نفسي. فما هي الحكمة في الرجوع إلى الأصل، وما هي الحكمة في الرحيل؟ وما هو سرّ هذه الذات الشريدة الغائبة والمغيّبة؟ وكيف لي أن أرمّم ذاتي من الداخل؟ فكيف لي أن أفعل ذلك بحق السماوات؟
نعم، إنّني في الواقع مجرد روح اصطدمت بالكراهية والنكران، فجاءت تبحث عن مرحاض لكي تفرغ فيه رعونتها، حتّى لو كان هذا المرحاض وطناً؛ فإِن لم يكن وطني هو الذي يحمل عنّي الوزر والخطيئة، فمن ذا الذي سوف يحملهما؟ آه من هذا القبر الذي أحفره بيدي ساعة بعد ساعة! ويا لهذا الشيء الذي سيبقى مجهولاً غامضاً حتّى لو أسفر عن نفسه ذات يوم! نعم، إنّني أفتش أحياناً عن العدو الرابض في قاع نفسي ويحضر موتي في مختبره العتيق خلسةً مثل متآمر، فيا لهذا العدوّ الذي يرقد في خلايا النفس: إنّه عدوّ في حطام الجسد، وعدوّ في الغربة، إنّهم أبناء الجلدة الأعداء، وهناك أيضاً عدوّ في الحاضر، وعدوّ في الزمن الآتي، وحتّى الماضي البائد صار عدوّاً، فكيف لي أن أهرب من جلدي وجلدتي! فلا مع نفسي مرتاح، ولا مع أبناء جلدتي، ولا مع الجلدة البيضاء مرتاح، ولا مع الأكراد مرتاح ولا مع العرب مرتاح، ولا مع أقوام موسى وعيسى ومحمد مرتاح، فهل أبحث عن قبائل "الكچوا" و"الماساي" و"اليانوماي"؟ فمتّى يتثاءب الوعي، متى يتثاءب الوعي يا آلهة الأرض والسماء، متى تنهض ديكة الوعي، متى أسمع صياحها!
أصبحت روحاً محتضرةً وملقاةً بين القوارير المتربة والأكفان الطحينية والسوائل المطهرة والخنافس الحمراء. وكلّ شيء فيّ قد تماثل للشفاء حتّى قشرتي الخارجية، إِلاّ اليأس الذي صار خامةً صلبة من ضجر. ونظرت إلى وجهي في المرآة فأنكرته، إِذ بدا لي مثل قناع مترب ومثلوم، والرأس كان معصوباً والجبهة المنتفخة كانت ملصوقةً بالأشرطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس