الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البنات دول

عائشة خليل

2015 / 1 / 23
ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة


«البنات دول» (2013) فيلم وثائقي للمخرجة تهاني راشد يقتحم فسحة لم تكن متاحة من قبل، فيتناول حياة بنات الشوارع في القاهرة بدون رتوش. حيث يسلط الضوء على افتقاد تلك الفتيات للرعاية الاجتماعية الرسمية (أو غير الرسمية) في غياب تام لمؤسسات الدولة المصرية لرعايتهن فيما عدا بالطبع العنف المؤسساتي عليهن، مما لا يندرج تحت مسمى «الرعاية».

تهرب الفتيات من المؤسسات التي ترعى الأيتام أو من منازل الأهالي، إلى واقع مرير في الشارع. حيث يتعرضن للعنف الذكوري المتمثل في الاختطاف والاغتصاب الجماعي المتكرر الذي قد يصل إلى أيام أو حتى شهور. كما قد يتعرضن للتشويه الجسدي الذي يطال أوجههن. وللوجه مكانة خاصة، فإن أصيبت أحد الفتيات بجرح في وجهها فإنها لا تسطيع « أن تري وجهها للآخرين» كما قالت إحداهن. وهو تعبير رمزي ومادي في آن واحد، فالعلامة الدائمة في الوجه تؤدي إلى هزيمة دائمة للفتاة لأنها دلالة على انهزامها ( وبتعبير أدق اغتصابها ) وبالتالي فهو تعبير دلالي على موت رمزي للفتاة المغتصبة، لأنه يترك علامة على وجه الضحية ( وأشدد هنا على كونها ضحية ) مما يجعلها عرضة للانتهاك المتكرر، فإذا ما انتهكت الفتاة وترك الجلاد علامة على وجهها وبالتالي يترك للمنتهك المحتمل أنه قد تم انتهاكها مسبقًا، فتصيح عرضة أكثر لانتهاك محتمل ومتكرر. وبذا تكون جريمة المنتهك الأصلي مزدوجة ما بين جريمة تمت وجريمة واقعة لا محال.

وما بين الإهمال المجتمعي، والإهمال الحكومي ، تتفاقم مشاكل تلك الفتيات وتتراكم. فالانتهاك المتكرر لتلك الفتيات ينتج عنه لا محالة أطفال يدفعون بدون ذنب جنوه. فيأتي إلى مجتمع بأطفال لا يعترف بهم. وبالرغم من المحاولات اليائسة لتلك الفتيات بإصباغ حياة لائقة ( إلى حد ما ) على الأطفال الرضع إلا أن المجتمع يلفظهم في النهاية لأنهم ، كما قالت إحداهم « لا شهادة لديه » فشهادة الميلاد والنسب هي الشهادة الأهم لإدراج الأطفال في المدارس أي لإضاءة أي شمعة في مستقبلهم.

وتمتهن الفتيات اللواتي سد الطريق إلى الرزق الحلال مهن تؤدي بهن إلى مزيد من الألم. فمن السرقة إلى التجارة في المخدرات إلى النصب والاحتيال، تحاول الفتيات أن تقمن أودهن، وأود أبنائهن وبناتهن. ومن الطبيعي أن تنتهي بعضهن إلى المؤسسات الرسمية للدولة التي تدعي التهذيب ولكنها تفتقر إلى الوسائل المناسبة لذلك. ناهيك عن العنف المؤسساتي للدولة الذي يبغي التخلص من تلك الفتيات بدون تحمل تباعتهن. فيتعرضن للحجز والحبس وحتى السجن لقاء ما اقترقن في حق المجتمع، بدون توجيه السؤال عما اقترفه المجتمع في حقهن.

تتجه الكثير من الفتيات إلى الإدمان من أجل نسيان الواقع المرير الذي يعشنه. فما بين التجاهل الرسمي للدولة ، إلى غض النظر عن وجودهن من قبل المجتمع الذي قد يستطيع ـ ولكنه يفضل التغاضي عن وجودهن ـ مساعدتهن، إلى قهر المجتمع الذكوري الذي أسلفنا الحديث عنه. وبالتالي لا تجد تلك الفتيات أمامهن سوى الإدمان على المواد الرخيصة المتوفرة لهن مثل الكولة والبانجو. وبذا تكتمل الدائرة التي تمكن المجتمع العيش بضمير مستريح، إن تلك الفتيات مدمنات وبالتالي مدانات، وليس علينا أن نتعب أنفسنا في إيجاد مخرج لمأزقهن. ولكن المأزق ليس لتلك الفتيات، فحتى لو تغاضى المجتمع عن المكونات الرئيسية لتلك المأساة فإنها موجودة بكل الطبقات ولكننا نختار ألا نبحث عنها: إنها كوكتيل من العنف المؤسساتي ممزوج بعنف المجتمع الذكوري، وتأثيراته السلبية بالغة الضرر على نفسية نساء المجتمع اللواتي يدمن محاولة النسيان (قد يتخذ الإدمان أشكال مختلفة في الطبقة الوسطى الميسورة، ولكنه إدمان على أي الأحوال، فمثلا قد يتخذ إدمان الشراء والتسوق وإدعاء التفوق على الأخريات، ولكنه في نهاية المطاف إدمان حتى وإن اختلف عن إدمان فتيات الشوارع للمواد المخدرة).

وحين يلتف المجتمع (وبالذات النساء به) إلى العنف الذكوري الممنهج على حياتهن سيكتشفن ساعتئذ أن الفرق بين حياتهن وحياة فتيات الشوارع لا يختلف في النوع وإنما في الكم. فنوع العنف الذكوري الموجه عليهن ليس مختلفا، وإنما كمه (وربما بعض الإمكانيات المادية التي تمكن فتيات الطبقة الوسطى من تحاشي مآل فتيات الشوارع). إذن فهي تحية إلى المخرجة تهاني راشد التي استطاعت أن تكشف ورقة التوت التي يتغطي بها المجتمع الذكوري (بشقيه الذكوري والأنثوي) الذي يرفض أن يواجه نفسه مواجهة صريحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مريام بشير وهي عاملة منزلية مهاجرة من سريلانكا


.. لارا عودة وهي موظفة سابقة بمنطقة الشوف في جبل لبنان




.. الصحفيات أكثر عرضة للانتهاكات والتحرش اللفظي أو الجسدي


.. مريم شمالي وهي ربة منزل من إحدى قرى سعدنايل




.. نعمت شفيق .. المرأة الحديدية تقمع مظاهرات الطلاب الرافضة لإس