الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العين صابتني ورب الكلمة نجاني

مختار سعد شحاته

2015 / 1 / 25
الادب والفن


كاد ر واسع في خلفية المقال في مشهدين:

المشهد الأول:
أعود إلى الطفل صاحب ثمان سنوات، يحكم قبضته في اليد اليسرى لوالده، يتراقص قلبه طربًا وهما يقطعان الطريق في شارع فؤاد عند تقاطعه بالنبي دانيال، فالوالد المهندم كثير الأسفار من قريتهم -التي تغُط في رضاها في جنوب غرب بحيرة البرلس- إلى مقر شركة المصايد الشمالية للصيد ومعداته بشارع فؤاد، وكثيرًا ما يستدعيه العمل السفر إلى بورسعيد ودمياط. "فاطمة" أمه بكت وباتت ليلتها حين قرر أن يحمل زوجته وصغاره إذعانًا لعرض الخواجه "ميشيل" للسفر والعمل معه بهولاندا، وقررت أن تظل تبكي إلى الله أن يرد قلب ولدها عن السفر إلى بلاد "الخواجات الكفرة" حيث الخمر والخنزير مكافأةً المسافرين لردهم عن دينهم الحنيف.

المشهد الآخر:
دلف الطفل ووالده إلى شارع النبي دانيال صعودًا للبحث عن كتاب "ألف ليلة وليلة"؛ ليهديه الوالد للأخ الأكبر -والذي سيتصادف بعد ثلاثين عامًا من يومهما ذاك أن يحصل فيه هذا الأخ على درجة الدكتوراه في فلسفة اللغة العربية عن تأويلات النص، ولا يحصل على الكتاب يومها كهدية نجاحه في صفه السادس. يعودا أدراجهما إلى النبي دانيال ومنه ينزلقان نحو كنيسة القبط، الطفل –ابن الصيادين- منبهر بالشارع وباسم النبي العجيب، ولم يقنعه أن نبيًا اسمه "دانيال"، ولم يسرها في نفسه بل قالها لأبيه، فابتسم بهندام لا يقل عن لباقته وهندام كل أمره، وطفق يحكي للطفل، حتى وجدا أنفسهما أمام باب حديدي عظيم، قال الوالد بإجلال "كنيسة القبط". دخل الكنيسة ووعد والده ألا يخبر "فاطمة وناجدة" أمهما، وصارت الزيارة سرهما الذي يفشيه الآن لأول مرة، بعد مرور ما يزيد عن عقود ثلاثة ونيف على وفاة الرجل المهندم الوسيم، وهو يحث الطفل على الاستمتاع بالشارع والكتب وجمال الكنيسة، وينتهي إلى جملته
- "احفظ يا "مُخ" تلك الأماكن الجميلة، حتى لا تموت ذكراها حين يشوهها الناس بطمعهم وجشعهم.. اكتب عن زيارتنا تلك في دفترك حين نعود، فمن يدري! ربما لا ترى الشارع على حاله وجماله آخرى".

كلوز على الطفل الكبير:
يقف خلال تصوير آخر أفلامه وداخل "تراس" شقة صديقته الرائعة الفنانة "علياء الجريدي" وقبل أن يصيح "أكشن" التي أحبها، يرى الموظف والطفل نفسهما يعبران، لكنهما قلقان حائران، فالشارع كله تبدد وتغيرت معالمه بعد موت الوالد منذ ثلاثين ونيف عامًا، ويدرك سر الهدية لأخيه بالصف السادس، وسر طلب الوالد أن يحفظ الأماكن وحبه لها بالكتابة، ولماذا أصر عليهم قبل وفاته بالخروج من البلدة إلى براح الله الواسع.


إظلام تام.. أكشن:
دعونا الآن ندخل في صلب المقال، دون إغفال للمشهدين السابقين، وسأتذكر معكم أن سلسلة مقالات كتبتها عن ضرورة البحث حول المعاني الانقتاحية للأمر "اقرأ"، وكيف في انغلاق الأمر وانفتاحه الدلالي كثير من التأويلات، ولعل إحداها دافعي إلى الكتابة هنا الآن، وهو "أسر الكتابة"، ونقاوتها للأشخاص، وأن "الكلمة" المكتوبة تختار كاتبها فقط لا قارئها، وهو أمر دقيق ومعقد بعض الشيء، لكنها صارت واحدة من انفتاحات قراءتي للفعل "اقرأ" والتي أتمنى أجمعها كاملة في دراسة شاملة.
كنت بصدد حديث إلى صديقي الشاعر "وليد علاء الدين" فرمى جملة ما ورجوته أن يكتب حول فكرتها وكيف أن لكل كتابة فائدة ما كما قال، واختلفنا وكدنا نُنَظِر حولها، ووعدني بالكتابة عنها، كما وعدته بالكتابة بالتوازي أو التناص مع فكرته، فقلت لأعيد قراءة آخر ما انفتحت به "اقرأ" علىّ.

الانتصار والاستثمار للمكان لا للنفس:
لأعترف في البداية أن شغفي بنجيب محفوظ، ليس مقدار الحكي والسرد وتقنيات الكتابة عنده وفقط، إنما لفتني أول ما لفتني في كل ما كتب، شغفه بتلك الأماكن الجميلة قديمًا بقيمها وحكاياتها، وكيف استثمر ذاته وموهبته لأجل تلك الأماكن التي يحبها الرجل بشكل شخصي، أي أن الرجل انتصر للمكان، وهو انتصار لم يغنِ الأديب الماتع عن تطوير لغته ومفرداته، فلا رواية يمكنك أن تجدها تشبه في لغتها ومفرداتها الأخرى، والأمر في قصصه القصيرة، وإن تراتبت الأماكن وتناصت الأفكار، إلا أنه في نظري كانت لغته ومفرداته المتطورة غير المتوقفة الموقوفة على تلك الأماكن والعيش في أسر مفرداتها وفقط، وإن كانت كلها تنتصر لتك الأماكن وشخوصها. وهي فكرة رائعة بديعة أرى شاعر الإسكندرية "علاء خالد" يتناص مع الفكرة بشكل ما حين يصدر لنا أعداد مجلة "أمكنة" أو حين يحكي عن شغفه بالأماكن، وكيف يطور مفردته ولغته من عمل إلى آخر، والتطوير هنا لا أقصد به حداثة المفردة والنص بقدر ما أقصد الخروج من أسر المفردات وسيطرة سمت واحد ووحيد للغة ما، ربما يظنها البعض –وهو وهم سأذكره- نوعًا من هويتهم وموروثهم، فيعضون عليها بنواجزهم حتى تسقط أسنانهم من العض.

وهم الهوية الملتبس:
أعرف أن اللغة هوية، لكن أدرك أن اللغة بمفهومها العام وليس بلهجاتها ومفرداتها المقعرة المبئرة، فمثلا من يقرأ لغة أمل دنقل الشعرية، ومفرداته اللغوية، وكذلك عفيفي مطر، سيدرك ثمة نوع من الفكاك من أسر هذا الوهم، فقط تتبع خطهم الحياتي وتطور المفردة والنص عندهم ستدرك كيف صاروا كنجيب محفوظ علامة لا يُسمح بإغفالها في الكتابة نثرًا وشعرًا، وأنهما تخلصا من وهم ما يمكن تسميته "الهوية المُقعرة"، والتي تلتبس على بعض المبدعين فتراهم مفرطي الموهبة لكنهم لا يتحركون قيد أنملة بعيدًا عن مفرداتهم المقعرة "المفوكسة" على ذواتهم وخصوصية أماكنهم، وهم كُثر ما بين الرواية والشعر، وربما هي السر وراء كون هؤلاء رغم إنتاجهم الغزير إلا أنه لا يعلق منه شيء ما، وغالبهم ينغلق على مفرداته معتقدًا أن الخروج من باب تلك المفردات وحدها سيكون بمثابة التخلي عن هويتهم، وهو وهم وخلل في الإدراك كما أظن. لنأخذ مثلا ما، شاعر متدفق الإنتاج، لكنه أسير لغة ومفردة واحدة، فأنت يمكنك بكل سهولة أن تتوقع كمًا من المفردات التي سيستخدمها، ومتى أجريت على قاموسه اللغوي رسمًا بيانيا ستدرك هذا الأسر المفرداتي واللغوي الذي استكان فيه وقبل الوقوع في فخه باعتقاده أن في ذلك هويته، وهو ما يجعله واقفًا من حيث بدأ في نفس النقطة وإن غزر إنتاجه وهلل لذلك البعض، ويقينًا سيهلل له من هم على نفس الشاكلة ممن استسلم لإشكاليات أسر مواز.

ترقية لازمة راتبة:
دعونا نرقي الفكرة ونوسع المثال، فالكتابة شديدة المراوغة، تعرف عن نفسها أنها صنعة الإله، ولن تسلم روحها لكاتبها بسهولة، وإنما يمكنها أن تأسر وتأسر، قبل أن تسمح للنادر أن يغلبها ويسوق مفردتها ويقلب قواميسها كيفما شاء، دون أن يمس الأمر هويته، أو يكرر نفسه بنفس طويل أو قصير؛ فيهلل لذلك الأنصاف.
والخدعة التي تمارسها الكتابة هنا من نوع آخر، إذ تقدم نفسها كونها مقروءة، قتغري المرء بالقراءة والقراءة والقراءة حتى يظل المرء أسيرًا لقراءاته، فيزهو بنفسه وبمنطق نظريته القرائية تلك، ويُحلِّق من حوله الأصاغر والأنصاف ويبدأ يمارس عليهم مهنة الأستاذية، دون أن ينتبه أنه "بغبغاء" يكرر ما قرأ دونما نظرة واحدة ناقدة أو مشككة شكًا بنَّاء، ويبقى جلال المقروء باعتباره –في ظنه- قديما يكفي له، وحين يهم بالكتابة، تأتي كتاباته قديمة، بلغة باتت قديمة، وقدمها هنا قدم زماني، قدم يخلو أن يكون له ثقل تاريخي وقدر، فهو أسير وهم القراءة وأسير إدراكه وتنظيره الأعرج، حتى أنه حين يصدر لنا كتاباته عن تلك الأماكن يصدرها لنا باعتبار نسبة الأماكن إليه لا نسبته هو إليها، فينتصر لذاته المريضة بعقدة النقص مستغلا كل امكانيات الأماكن من حوله، وهو ما يوقعه في برثن خديعة الكتابة فيظل أسيرًا لمفرداته هو، والتي لم تتطور بينما الأماكن التي استثمرها لصالحه تطورت وطورت من نظرياتها ومن لغتها دون أن تضيع هويتها، وهذا نقيض ما فعله محفوظ أو يفعله علاء خالد فميزهم. وأذكر نصًا قول صديق وصف أحد هؤلاء:
- "هو شخص يريد أن يستثمر بلدًا كاملة لصالحه، وأن تنسب إليه لا أن ينسب إليها"، وتلك أم الجهالات.

كلمة لوليد علاء الدين:
يقول الشاعر –الصديق- "وليد علاء الدين" بأن لكل كتابة فائدة تُحصّل من ورائها، وأنا أُصر عليه اشتراطات، ولا أدرك معنى كلمته إلا حين أدركت سر طلب أبي العجيب بالرحيل عن البلدة وضرورة الأسفار، وأن أكتب وأكتب عن الأماكن، وأفهم بشكل شخصي من كلمة صديقي "وليد"، أن ربما من فوائد هذا النوع الرتيب المكرور من كتابات هؤلاء هي التنبيه على عظمة هذا الفعل الكتابي، والذي أراه –كما قلت- فعلًا ربانيًا خالصًا يختار من يفهم همه ويدركه لا من ينخدع بضلالات منقوصة المنطق والمعنى عن الهوية، لنعرف بعدها أن كل هؤلاء المتشدقين من أصحاب بذاءات الحكي أو قصائد الصوت الحنجورية كلهم محض أسرى لنوع كتابي للعوام والأنصاف، وأما كتابة الصفوة فهي كتلك التي تستسلم فيها الكلمة لصاحب قلم يعرف كيف تنفتح دلالات الكلمة وواجب تطورها وتخليقها وتصنيعها وتضفيرها ما بين قديم وجديد، وهو هم حقيقي يخلص له أصحابه بحثًا، لا قراءة وفقط، وإلا صار أسير خديعة الكتابة القرائية التي قلتها، فيجلس يحكي للعوام والأنصاف كلام غيره باعتباره المثقف الألمعي دون أن يزيد رؤية لكل ما قرأ، وكان حفظه يكفيه، وهذا له شجن بالتعليم المصري كونه يخرج لنا من هم حُفاظ لا خُلاق مبدعين. ثم تتضح فائدة أخرى أننا بكتابتنا عن الأماكن علينا أن نستثمر للمكان لا للشخوص والذوات، فالمكان أحق بالبقاء.

يا سادة سيكفينا فائدة من الكتابة أنها ستشير بمفردات أصحابها إلى من يستغل لصالحه ومن ينتصر للهوية والمكان ويستثمر فعله الكتابي لتلك الأماكن بوعي وفهم، يعرف أنه لا يمس هويته من قريب أو بعيد، ولا يخشاه إلا الأنصاف فيتمسكون بكونهم أسرى تحت وهم الهوية، وهو وهم زائف. وأجدني هنا أذكر جملة صديقي الصغير سنًا –الرفيق بوبوس- حين انتبه لهذا الأسر، فيقول:
- "فقط يلزمنا عشر سنوات حتى نتخلص من كل هؤلاء الأسرى، ورسفهم الكتابي الممل". إذن فالكلمة تصيب فتأسر، وتنتقي وتختار فتصير طوع المختارين.
بقى أن الطفل بعد ثلاثين ونيف عامًا، كلما مرً بشارع النبي دانيال أغمض عينيه لحظة ثم فتحها على المكان القديم، ومازال يحلم باقتناء نسخة "ألف ليلة وليلة بطبعتها القديمة" صفراء الورق، فيقينًا في عائلته ومحبيه من يستحقها هدية نجاح ما.


مختار سعد شحاته
Bo Mima
روائي
مصر/ الإسكندرية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - اعرف فيلم الأسبوع من إنجي يحيى على منصة واتش آت


.. أسماء جلال تبهرنا بـ أهم قانون لـ المخرج شريف عرفة داخل اللو




.. شاهدوا الإطلالة الأولى للمطرب پيو على المسرح ??


.. أون سيت - فيلم -إكس مراتي- تم الانتهاء من تصوير آخر مشاهده




.. أون سيت - فيلم عصابة الماكس يحقق 18 مليون جنيه | لقاء مع نجو