الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسطين: نحو بطولة العالم في الجريمة؟

ناجح شاهين

2015 / 1 / 24
القضية الفلسطينية





أنا خائف حتى نخاع عظمي. ترتعد فرائصي هلعاً. وحتى عندما كنت في فيلادلفيا في الولايات المتحدة في العام 2007 وأخذت المدينة "بطولة" أمريكا في عدد جرائم القتل نسبة لعدد السكان لم أكن خائفاً هكذا. كان هناك أسباب أكثر وضوحاً لما يحصل. غالباً كان الأمر يتعلق بالمال. مرة هاجمني شاب أسود صغير السن وهو على دراجته وأشهر في وجهي مسدس، وطلب ما معي من مال، فأخرجت ثلاثة دولارات وبعض الفكة وأعطيته إياها، فصرخ في وجهي: "هذا كل ما معك؟" فضحكت وقلت له: "أنظر إلى وجهي، ألا ترى أنني أفتح منك في اللون قليلاً؟ أنا فلسطيني وطالب في الجامعة. من أين بحق الآلهة آتي لك بالمال؟" فضحك وقال: "طيب خذ دولاراتك ولا تمشي في مثل هذا الوقت المتأخر لوحدك. يا الله حل عني، بدي أشوف رزقتي." لاحظوا ليس هناك من عنف على الرغم من أن هذه جريمة واضحة.
في فلسطين ما يجري شيء آخر. لا مكان للدعابة في سياق الجريمة. نحن هنا في عالم فرويد الأسود: القاتل هو نفسه المنتحر. يفقد الإنسان الرغبة في الحياة، ويفقد المغزى من وجوده في سياق الزمان والمكان، وكذلك، وربما الأخطر، ينفصل عن الآخرين، وعن الهم العام.
يصل الإنسان بحسب فرويد إلى وضع لا يعود معه للحياة من قيمة. فيصبح قادراً على تعاطي فكرة انتزاع الحياة، حياته الشخصية أو حياة الآخرين. لكن كيف يصل الإنسان إلى هذا الوضع النفسي؟
الإنسان جزء من الكلية الاجتماعية التي تتمفصل مع الاقتصاد والسياسة. عندما يكون هناك أحلام وأساطير (بالمعنى الإيجابي للكلمة) قومية يصاب الناس بحالة من الانتماء المهووس، ويصبحون أقدر على التمتع بالتضحية والعطاء والتضامن مع الجيران وأبناء الوطن. وعندما يكون هناك أمل في المستقبل يحتشد الأفراد وراء الأهداف الكبرى ولا يحسون بشيء من الفراغ أو العبث.
لكن إذا انتكس الحلم والأمل، وساد خراب كالذي يعيشه وطني حبيبي الوطن الأكبر من المحيط إلى الخليج، وانحسر اليقين بأن النصر والتحرير قادم لا محالة، ثم جاءت البطالة والفقر فطمت الوادي على القرى، عندها ينكفئ كل منا إلى عالمه الخاص: فإن استطاع أن يقلع بوصفه فرداً، وينجح في جمع المال بالسبل المريحة المعروفة، عاش نعيمه دون أن يلتفت إلى غيره. أما إذا ضاقت به السبل، فإنه يبدأ في صب جام غضبه على القيم الإنسانية، والقومية، والمجتمعية. وهكذا ينفتح صندوق بانادورا في أعماقه وتخرج الشرور، ويبدأ في التفكير بالهجرة إلى غير رجعة، أو الانتحار أو السرقة أو قتل جاره أو زوجته.
طبعاً هناك للأسف نمط "تقليدي" من الجريمة يتفاعل مع النمط أعلاه وأحياناً يتداخل معه. وذلك نمط الجريمة من أجل "الشرف" ولا ندري عن أي شرف يدور الكلام. وليس من داع لأن نقول أي شيء عن معادلة الشرف السخيفة المعروفة في بلادنا والتي تمشي –سواء صدقناها أو كذبناها- على قدم واحدة، ولا ترى الشرف إلا في جسد المرأة، أما جسد الرجل فإن تعرضه للفعل نفسه يعني المجد والبطولة لصاحبه وربما لعائلته. مع ذلك يجب أن لا ينطلي علينا "موال" جرائم الشرف: إن كثيراً من الرجال الذين يقتلون قريباتهم في هذا الزمن إنما يفعلون ذلك لأن "مناسبة" قد تهيأت لكي يقتلوا أنفسهم أو يقتلوا أحداً، تنفيساً لحالة الإحباط والذعر الذي يعيشونه في سياق غياب الأمل والحلم والعمل.
يتمطى وحش الجريمة ويتمدد في أرجاء الوطن من الشمال إلى الجنوب، فيشمل السرقات البشعة، ويشمل النزاعات العشائرية، ويشمل الرد على أعمال النصب والاحتيال، ويشمل القتل العابر في سياق "طوشة" بسيطة بسبب نقاش طارئ على بسطة الخضار بين شخص وآخر، أو بين سائق وسائق حول الدور، أو حول سرقته لراكب من ركابه. لكن هذا كله تنفيس للاحتقان الاجتماعي الناجم عن أسباب سياسية اقتصادية في جوهرها.
ليس لدينا للأسف أية طريقة لمعرفة ما يجري على وجه الدقة بغرض مواجهته بشكل علمي. لا نستطيع أن نبحث في المعطيات عن الجريمة وأعدادها وأسبابها وحيثياتها. حتى أن نسرين عواد من راديو نساء اف. ام أخبرتني أن المشافي الخاصة غير ملزمة بإبلاغ الشرطة بحوادث القتل أو الانتحار التي ترد إليها. وهناك بالطبع سيل من الأسباب التي تحول دون أن نناقش ببرودة علمية ما يجري لأن إخفاء الكثير من الجرائم لأسباب تتعلق بالسياسة والمجتمع هو القاعدة. ولست أتحدث فقط عن محاولة "دفن" حيثيات جرائم "الشرف" العتيدة، وإنما الأشكال الأخرى من الجريمة. لكن إذا كان هذا الحال، وهذا السياق سيستمران طويلاً، فلا بد أن علينا أن نتوقع الفوز ببطولة العالم في الجريمة قريباً، ربما قريباً جداً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 6 فلسطينيين في هجوم عسكري إسرائيلي على مدينة جنين بالضف


.. الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية: تابعوا النت




.. بريطانيا: سوناك يقر بهزيمة حزبه ويستقيل من زعامة المحافظين


.. عواصف رملية، جفاف، تصحر.. الوضع حرج في العراق! • فرانس 24 /




.. صورة حقيقية لطائر فلامنجو -بلا رأس- تثير ضجّة بعد الفوز بمسا