الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حانوت عبد الباقي /مشهد روائي

سمير دربالي

2015 / 1 / 25
الادب والفن


يعبرُ الشّارع شفيفًا كصدى أغنية قديمة ..يسْحب رجليْه تباعًا كالغارق في الوحْل ..تلامسُ محفظته الحائطَ الخَربَ فتنبعثُ خشخشةٌ خافتةٌ وتكتكةُ تكَسُر شيْء صلْب في الدّاخل ..يزيح المحفظة بمرفقه و يضعها على كتفه الآخر ..يُلْقي برأسه داخل حانوت "عبد الباقي" مُسترقا النظرَ .. تتجوّل عيناه باحثةً عن خيال أبيه بين المتحلّقين و قرب أكياس القمح والشعير المكوّمة بلا ترتيب ..يلمحه صاحبُ الدكان فيبادرُه الصبيُّ :

-عمّي عبد الباقي ماجاش بابا ..

يكتفي عبد الباقي بتحريك رأسه يمنة ويسرة ..ويستمرّ في اللّعب :"هشْ كلْبك " ..يدرك الصّبيُّ من خلال إشارة الرأْس أن والده غير موجود ..تتراجع خطواتُه بطيئةً ثقيلة مثل جنديّ مهزوم ..بينما تعاود عيناه تصفح وجوه الحاضرين غير مصدّقة ..ينسحبُ متلفّتا كسيْل ضلّ مجراه ،لعلّه يلمح أباه قادما من فم الغياب ...أملٌ جامح مازال يسكنه ،يرْتق به جروحا ظلت تُدمي أحشاءه،و دوارًا راح يطوّح به ويفقده ثباته وتوازنه ..لقد وعدهُ بالمجيء ،قال له :"سألحق بك" ..هذه العبارة تكفيه لكي يرقبه النهار كلّه ..صوتٌ يهمس في نفسه يعزّيه : أبوك لا يكذب ..لا يمكن أن يتركك دون طعام ..صوتٌ آخر ينافس الأوّل يُربكُه:ولكن من سيعود بك الى الدار ؟ ..كيف لك أن تقاوم شراسة كلاب "عبد الواحد" ،آكلة الحَجَر ،حين تهاجمك في الطريق ..وبم ستدفعها عنك ؟!.. في المرّة الماضية كادت تأكلك لوْلا لمحتك إبنتُه فانْقذتْك ..



يجوب الشّوارع الباهتة المتمرغة في القذارة والرّوث موْجوعا بالبحث عن سرّ غياب أبيه ..يقول بيْنَه وبيْنَه :ثمة أمرٌ ما منَعه من المجيء ..لاشكّ في ذلك .. لعلّه ترك لك مصروفك عند شخص من أقاربك ..يبدأ في تفرّس الوجوه العابرة لعلّه يصطدم بوجه يعرفه يقول له :"هاك لقد ترك لك أبوك هذا المال ..وأوصاك بانتظاره مساء في حانوت عبد الباقي " ..تمرّ الدقائقُ ثوانيَ ..الأمل بدأ يخبو ....يتراجع ..يخْلي مكانه ليأس ذابح ..يقود قدميه ..تقوده ..يجرّها فتجرّه ،يجد نفسه أمام معصرة الزّيت الوحيدة في القرية ..أكياس الزيتون مكوّمة في الساحة ..حركة كثيفة تملأ المكان ..وجلبة ..عربات تجرها أحمرةٌ بلا عدد ظلت تتناهق بما يشبه صوت القطار القادم الى ال"لاقار" .. ..رائحة زكية تنبعث من داخل المعصرة تتناهى الى روحه ..فتزيده وجعا .. تعبر أمامه يدان تمسكان رغيفا يتقاطر زيتا ..يتابع الرّغيفََ وهو يبتعد متمايلا مترنّحا بين يديْ صاحبه المُمسك به وفمه ..الجوع يحفرُ عميقا في أحشائه .. الدّماء في عروقه بدأت تخبُو ..يتّكئ على الحائط المقابل للمعصرة ..خدرٌ يمتدّ من أعلى رأسه إلى أسفل قدميْه ..ودوارٌ ..الأشياء من حوْله صارت خيالات .. بدأت تختفي ..تتلاشى ..السُكونُ ينتشرُ من حوله وفي داخله ...

هاهو يعاودُ المشْيء صوْب مدرسته ،يجرّ رجليْه ومحفظته الثقيلة تعبًا ..لقد قرب موعد الدّخول الى الحصة المسائية ..هو لا يقدر على تحمّل ساعات أخرى بلا طعام والبيتُ بعيدٌ ..يا الله رغيفُ خبز يابس ،عشرون ملّيما فحسْب أسكّن بها هذه الثّعابين التي تتلوّى في الدّاخل ..عبثا كان يحاول ..عيْناه فقدتا القدرة على التّمييز بين الأشياء .. يرفع رأسه إلى الأعلى ..يرى الشمسَ ..تلاحق عيناه خيوطها التي تشد الأرض كالدّمى .. فجأة يلمع ضوءٌ من بعيد ..يتوّجه نحوه متثاقلا ..يقترب منه ..يدقق النظرَ فيه ثم يهْوي عليه غير مصدّق تعاود الدّماء الركض في عروقه من جديد ..تنزاحُ غمامة ٌ..تلوح له معصرةُ الزيْت ..يسرع الخطوَ نحو أقرب دكّان ..يناوله المالَ يطلبُ نصف خبزة ..يركض نحو معْصرة الزّيت :"عمّي حْمدْ يعيْشكْ عبّئ لي هذه بالزيت" ..يتناول الرّجل القطعة من يده ويغمّسها في زيت الزّيتون ..تتابعُ عينا الصّبي الرّغيف وهو يسبح ..يتقلّب ..يغرقُ في الإناء الكبير ..رضًى يجوب النّفس ..تكفّ الأمعاء عن الصّراخ ..فرحٌ يغمر الرّوح ..يناوله الرغيفَ فيبدأ في قضمه .. يمتزج لعابُه بالزّيت يتسرّبان من فجوات أسنانه وشفتيه الى طرفيْ فمه الممتلئ..تعاود حواسّه العمل ..تعودُ الجلبة والضّوضاء الى المكان ..أصواتٌ ممتزجةٌ مختلطة تقتربُ ..يدٌ تحرّكه بلطف ..يفتح عيْنيه يرى كومةً من البشر تتكدس فوقه ..يسمع صوتا في الخلف يقول : يا للمسكين لقد فقد وَعْيَه..









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد