الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دولوز والسينما أو الفيلسوف وظلّه

سمير الزغبي
كاتب و ناقد سينمائي

(Samir Zoghbi)

2015 / 1 / 27
الادب والفن


دولوز والسينما
أو
الفيلسوف وظلّه



المقدمة
ليس بديهيا أن ينشأ إتصال جذري بين الفلسفة والسينما، خاصّة إذا ما تمّ النظر إلى المسألة من وجهة إنشائية أو كذلك فلسفية. تتحدّد السينما كإبداع فنّي يعتمد على مقوّمات تقنية ونشاط جماليّ يقوم على بناء "الصور–حركة"، في حين أنّ الفلسفة تتحدّد كخطاب سمته التحليل والإفهام والكشف عن مقاصد ورؤى ومواقف محدّدة وتبرير أطروحات معيّنة. أمّا على المستوى التاريخي فالسينما حديثة العهد، في حين أنّ الفلسفة تاريخها شاهد على نشاط الفكر في أقدم ردهاته. وهكذا فإن العلاقة بين السينما والفلسفة إنطلاقا من هذه الإعتبارات تبدو أمرا غريبا، أو بالأقلّ أنّها ليست بديهيّة.
في مؤلف "السينما والفلسفة" يستحضر دومينيك شاتو Dominique Château بعضا من المواقف الفلسفيّة حول هذه العلاقة مثل موقف برقسون وكذلك مورلوبنتي…، وهي مواقف مازالت تتمسّك بالتباعد ما بين المجالين وتعتبر أنّ هنالك فوارق هامّة بينهما، من مجال تفكير إلى مجال تقني.
هذه العودة إلى أطروحات تؤكّد على الاختلاف الجوهري بين الفلسفة والسينما تبدو كأنّها دعوة مؤكّدة لعدم البحث في العلاقة الممكنة بين المجالين. لكن في واقع الأمر استحضار المواقف الفلسفيّة التي تؤكّد على التباعد بين المجالين، يهدف إلى إبراز أنّ العلاقة ليست بديهية، فمسألة السينما لا تعتبر من المشاغل الفلسفية المعهودة، فقد تعوّدنا في تاريخ الفلسفة على الاهتمام بمشاغل تتّسم بكونها تنتمي إلى المسائل النظرية وذات البعد الأنطولوجي. فالتأسيس هو الهاجس الذي رافق تاريخ الفكر الفلسفي طويلا، وإنّ النظر للفنّ لم يكن من جهة الانشغال بالأثر الفني مباشرة وإنّما لغاية تأسيس قول يضع معايير كونية ومطلقة للتجربة الفنيّة وهو ما نجد استجابة واضحة له فيما أنجزه كانط في مؤلّفه "نقد ملكة الحكم".
إنطلاقا من هذه الإعتبارات يتبيّن أن مبحث العلاقة بين الفلسفة والسينما لا يمثّل مبحثا عاديا في تاريخ الفلسفة. باعتبار ان الانشغال بالآثار الفنية يعتبر امرا مستحدثا في الفلسفة فرضته تحوّلات هامّة في تاريخها ومفاهيمها وذلك استوجبته الأبحاث الانشائية التي كشفت عم التلازم بين العملية الإبداعية في القن عموما وفي السينما خصوصا. الا ان هذا الامر لا يعني بالمرّة أنّ هنالك مباحث في هذا المجال تجلت ضمن الخطاب الفلسفي الا انها قد بقيت ضمنية. فمسألة السينما ظلّت ذلك "المسكوت عنه" خلال التاريخ الفلسفي وذلك لإعتبارات متعدّدة، أهمّها أنّ ظهور السينما كان متأخّرا مقارنة بالفنون الأخرى، لكنّه في مرحلة متقدّمة من تاريخ الفلسفة سيتبيّن بوضوح أنّ الآليات المفاهيمية التي يشتغل بها السينما هي في واقع الأمر مفاهيم لها عمق وتجذّر فلسفي يعود بالتفكير إلى حدّ أمثولة الكهف لأفلاطون الواردة في الكتاب السابع من الجمهورية. حيث تحفل هذه الأمثولة بمشهد هو بمثابة "السيناريو" ذلك أنّ النص يخاطب المخيّلة فهو مفعم بالرموز التي تعبّر عنها كل عناصر الأمثولة، وخاصة إبراز التنوّع في مستوى الرؤية والمنظورات، فالضوء في هذه الأمثولة يحمل معنى محدّدا للمنظورية التي تشكّل الموقع ومدى قابلية الصورة للإنكشاف، وهو ما يحيل إلى البعد السينمائي "لأمثولة الكهف" .
بهذا المعنى تكون الممارسة الفلسفية للسينما عريقة ومتجذّرة، فالفيلسوف لا يحرّر نصوصا ثابتة ذات منحى ستاتيكي، وإنّما النص الفلسفي ديناميكي ومتحرّك في إتّجاهات مختلفة، هو بمثابة المشهد حيث هنالك شخوص وأماكن محدّدة وأضواء وأصوات، وكلّ هذا لا يمكن أن يعبّر إلاّ عن شكل هو بمثابة السيناريو وهو "إخراج" متكامل العناصر، فالتركيب واضح وجلي والمحاورة الأفلاطونية تمزج بين عناصر مختلفة وتحدّد لكلّ عنصر وضعا خاصا به. إنّ شكل الكتابة الذي تنبني عليه المحاورة لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير سيناريو يكون فيه سقراط شخصية محورية تتكفّل بإدارة الحوار الميثولوجي، إنّ المحاورة الأفلاطونية ذاتها بنية فنية، هي تشكّل مسرحي متميّز، إذ أنّ أفلاطون يضع فوق الركح سقراط الرمز ومحاورا آخر وهو ما يكشف عن البناء المسرحي للمحاورة. إضافة إلى ذلك فإنّ أفلاطون لا يصف وقائع عينية ضمن محاورته وإنّما يضع رموزا وأمثولة Allégorie، فالكتابة الأفلاطونية هي كتابة فنيّة تنفتح على أفق جمالي وتتجاوز المعطى الواقعي الصلب، فإستعمال الرمز وتشكيل الأساطير يمثّل إبداعا فنيّا، باعتباره يكشف عن إنفتاح المخيلة، فالفيلسوف سيكون بهذا المعنى فنّانا مسرحيا.
هذه الاعتبارات الفلسفية تستدعي طرح الإشكالية المتعلقة بمسألة العلاقة بين السينما والفلسفة. فبأي معنى تجوز العلاقة ما بين الفلسفة والسينما؟ وكيف تكون ممكنة؟ بلغة أوضح كيف نبرّر حضور الفلسفي بشك عميق داخل الابداع السينمائي وكيف تكون السينما استجابة لمقصد فلسفي؟ هذه الإشكالية، هي أساسية ومبررة من وجهة فلسفية وكذلك انشائية، حيث تجسد التمازج والتزاوج بين الفلسفي والفني في اشكال مختلفة وحاصة ضمن ما يعبر عنه بالمنعرج الاستيتيقي للفلسفة، إذ الفيلسوف يتحول ذاته الى فنان، هنالك ثنائيات في هذا المجال مجسدة في تاريخ الفلسفة والجماليات ، بدءا بالثنائي : نيتشه/فاغنار، إذ لم يخف الفيلسوف انبهاره بموسيقى قاغنار ، حيث انجز تمجيدا للفنان سابقا من نوعه في تقديمه لمؤلفه "مولد التراجيديا". وهذا الثنائي / تجدد في شكل آخر بعلاقة بين فيلسوف وشاعر هما: هايدغر/هولدرلين، الشل الموالي للتناغم بين الفيلسوف والفنان سيبرز ضمن ثنائي آخر لا يقل أهمية وقيمة عما سبق ذكره وهو مارلوبونتي /بول سيزان، حيث يلتقي الفينومنولوجي بالرسام، ويجد صدى منهجه في لوحات الرسام.
هذه الاعتبارات تشكّل افقا، يبرز مثل هذا المبحث، حيث سيتمّ الانشغال هذه المرّة بالعلاقة ما بين الفيلسوف والسينمائي. وهو أمر تشكّل بوضوح ضمن مؤلفي دولوز حول السينما.

1- دولوز: من ابداع المفاهيم الى ابداع الصور

إن الإبداع يوحد ما بين الفلسفة و الفن إذا كان دولوز قد إعتبر الفلسفة إبداعا للمفاهيم، فهو لا يفصل في الواقع بين إبداع المفاهيم وإبداع الصور، وهي المهمّة التي يتكفّل بإنجازها الإبداع السينمائي، لكأنّ عمل الفيلسوف من منظور دولوز منشدّ إلى أبعد الحدود إلى ولكأنّ الفلسفة ضمن هذا الإعتبار تتحوّل برمّتها إلى إبداع سينمائي، خاصّة وأنّ المشهد ليس له من ظهور إلاّ عبر الصورة السينمائيّة، فالمشروع الفلسفي لم يعد منفصلا بأيّ شكل عن الإبداع السينمائي، إذ الصورة هي الجهاز الذي يمثّل منطلقا للتصوّر أي بمعنى أدقّ للتفكير. ففي عصر الشاشة -كما يقول ريجيس دوبري - ما لا يقبل الرؤية لا يتمتع بأي وجود فقد تبخّرت الكائنات اللّفظية، تلك الأشياء التي لا توجد إلا بالقول وتلك الأساطير الخالصة التي عليها تأسّس الواقع القديم.
إنّ العلاقة بين الفلسفة والسينما هكذا ممكنة رغم التباعد الظاهري بين المجالين وهو ما تأكد ضمن نصوص هامةإذ الإنشائية لم تنفك خن التأكيد أن العملية الفنية ليست مجرد عملية تقنية منعزلة و إنّما هي إبداع متصل بالقول الفلسفي، و السينما هي مجال للتفكير الفلسفي و من ناحية ثانية تجد الفلسفة في السينما بما هو إبداع استجابة لأطروحاتها، فالعلاقة تبدو مزدوجة ، و هو أمر لا ينجز البحث فيه من جهة الفلاسفة الذين انشغلوا بمسألة السينما فحسب و غنما كذلك هو أمر يستوجب الحفر فيه ضمن الدراسات الإنشائية أي ضمن أبحاث المنظرين في مجال السينما. فالمشتغلون بمجال السينما هم ينتمون في واقع الأمر إلى جنس المفكّرين، سواء كان ذك بوعي منهم أو بغير ذلك، وهذا الأمر هو الغرض الأساسي لهذه الأطروحة، حيث هنالك تأكيد على التلازم الوثيق بين العملية الإبداعية التقنية في مجال السينما والهمّ الفكري الأصيل للفيلسوف إذ لا وجود لفواصل بين الإبداع الفنّي والتفكير الفلسفي. هذا الطرح يجد أصالته ضمن ما بلغه التفكير في الفلسفة مع جيل دولوز الذي يعتبر من أهم المواقف التي انشغلت بالترابط بين الفلسفي والفني في القطاعات المتنوعة للفن و خاصة السينما، حيث لم يبخل فيلسوف الاختلاف على من يشتغل على العلاقة بين الصورة والمفهوم ضمن الإبداع السينمائي بأن يكشف العديد من الإشكاليات التي تتّصل عضويا بهذه المسألة. فالانشغال بمسألة السينما هكذا يعتبر حديثا لكنّه شهد دسامة وانهماما كبيرا تجلّى بالخصوص في أعمال دولوز من خلال ثنائيته المشهورة. يقول دولوز صراحة في إفتتاحية المؤلف الأوّل المخصّص لمسألة السينما بأنّ منظّري السينما لا تتمّ مناظرتهم بالرسّامين أو المعماريين أو الموسيقيين فحسب وإنّما يتمّ النظر إليهم كمفكّرين، فهم يفكّرون وفقا" للصورة-الحركة" و"الصورة – الزمن" لا وفقا للمفهوم .
إن مثل هذا الإعلان الدولوزي في مفتتح حديثه عن السينما، يفصل الفلسفة عن صورتها القديمة في ما يتصل بعلاقتها بالفن وبالخصوص بالسينما. العلاقة ما بين الفيلسوف والسينمائي أصبحت عضوية وأصبح الفيلسوف لا يتحرّج من تصنيف أفكاره ومفاهيمه ضمن سجلات الإبداع الفني. إن دولوز هكذا إفتتح عصرا جديدا للفلسفة وإن كان نيتشة في ما سبق قد بشّر بأن فيلسوف المستقبل هو فنان، مستكشف العوالم القديمة. إلا أن فيلسوف "الإختلاف والمعاودة " سيدفع بالمشروع إلى أفق هو بمثابة السقف، حيث أن التفلسف أصبح يضمّ قطاعات كان قد تبرّأ منها الفيلسوف في ما سبق أكثر من مرّة. فإحتفال مدونة دولوز بالسينما يجعل الفكر منفتحا وأكثر من ذي قبل على المجالات الحيوية للتجربة الإنسانية، وتصنيف منظري السينما ضمن خانة الفلاسفة يعتبر سبقا فلسفيا دشّنه دولوز. إنّ السينمائيين في نظر دولوز، لا يمكن عزلهم عن صنف المفكرين، لأن التفكير لا ينحصر في الإنشغال بالماهيات بل يكون بواسطة نمط جديد من المفهوم هو" الصورة-الحركة" و"الصورة-الزمن".
إن مشروع دولوز في ما يحص مسألة السينما لا يتوقف في المؤلف الأول أي "السينما-الحركة"، بل إن الفيل يبرز أمن هنالك إتصسوف يعلن منذ البداية عن المؤلف الثاني أي " السينما-الزمن" . هذا الأمريبرز أن هنالك إتصال وثيق بين المؤلفثن فمن الضروري أن يستكمل القول و المشهذ الذي إختفل به الأول من المشروع اهتم بالترتيب، لا بالمعنى الكرونولوجي، وإنّما بمعنى التصنيف، تلك الممارسة الفلسفية الصميمية والحميمية ، فلقد مارسها ارسطو في أكثر من مؤلف ، فيما يتّصل بتصنيفه للعلوم وموضوعاتها. لكن الامر لدى دولوز هاهنا يختلف ، فالتصنيف لا يقوم على غائية أو على تفاضلية انطولوجية، بل أن الامر لدى دولوز يتم خلى واجهة أخرى ، فتصنيف الصور والعلامات يقوم على مهمة تشخيصية ، أركيولوجية، حيث ينفذ الفيلسوف إلى عمق مفهوم الصورة، فيكشف عن عمقه وتجذره الفلسفي.

2-مفاهيم فلسفية أم إتجاهات سينمائية؟

إنّ مسالة السينما تطرح اكثر من اشكال ، ولاسيما ان النظر في الامر حسب فيلسوف الاختلاف لا يكون باي حال نظرا خاليا من السحنة الفلسفية ، خاصة وان السؤال عن السينما يتحرك ضمن سؤال اشمل منه واكثر تجذرا وهو سؤال ما الفلسفة؟ وان هذا الاتصال يجد قراره في مستوى المفاهيم ، فمفاهيم السينما، وإن كانت خاصة بها، فإنها في واقع الامر مفاهيم تتاسس داخل الحقل الفلسفي ، لكن هل يعني هذا الامر ان السينما على المستوى النظري خاضعة خضوعا تاما للرؤية الفلسفية ام ان هذا الاعتبار يكشف عن التكامل والوحدة بين مجالين هما في الواقع ينتميان الى صنفين مختلفين من الابداعات الإنسانية ؟ مثل هكذا مبحث يحرر الفلسفة من كل الأساليب التقليدية في تناول المسائل ، فالفلسفة هي في حاجة الى "اللافلسفي" الذي يحررها ويكسبها حيوية وتجذرا في التجربة الإنسانية ، وبالخصوص التجربة الجمالية ، صحيح ان الفلسفة لم تفارق الفني منذ نصوصها المبكرة الا أنّ هنالك تحول في الوجهة وفي القصد ، وهو الذي استدعى هذا الاحتفال المكثف بالجماليات مع فلسفة الاختلاف.
إن التفكير في السينما في واقع الأمر لا يفصل الفلسفة ولا يبعدها عن أكثر مشاريعها حميمية بل نجد إتصالا ما بين المشروع الفلسفي الأصيل وهذا الإنشغال الأساسي بقطاعات حيوية في الإبداع الفني ومنها بالخصوص السينما ، ذلك أن مبحث السينما يستدعي ضرورة البحث في مفهوم الصورة وهو مفهوم له أهمية فلسفية وكذلك جمالية، فدولوز في ثنائيته المشهورة ، ينطلق في البداية بتفكيك مفهوم " الصورة- الحركة" كما تجلّى ذلك في نص لم ينفك دولوز يقرّ بقيمته في تاريخ الفلسفة وهو نص برقسون وخاصة في مستوى مؤلف التطور الخلاق1907))، وكذلك مؤلف المادة والذاكرة(1896)، في هذا المؤلف ينجز برقسون في نظر دولوز تشخيصا لأزمة علم النفس، فلا يمكن البتّة إنشاء تعارض بين الحركة كواقعة فيزيائية تحدث في العالم الخارجي من جهة والصورة كواقع نفسي تحدث ضمن الوعي إذ يعتبر دولوز أن هذا المؤلف هو الذي دشّن ضمنه برقسون إكتشاف مفهوم "الصورة –الحركة " وهو إكتشاف سابق للنشأة الرسمية للسينما فالمؤلف الأول "الصورةالحركة" Cinéma I l’image –mouvement" يبحث في كيفية مقاربة الصور والعلامات كما تظهر في السينما ودولوز ينطلق من تصنيف الصور والعلامات التي وضعها الأمريكي بيرس ويواجهها بالمفهوم البرقسوني " الصورة – الحركة" أو بصورة أدق "الصورة- الزمن" بما هي تعبير عن الصورة السينماتوغرافية ، فتصنيف الصور والعلامات يشتغل حول التباينات الموجودة بين أكبر الإكتشافات والتأليفات السينمائية التي أبدعها المفكّرون.
إنّ الأمر في المؤلف الأوّل لا يتعلّق بالبحث في تاريخ السينما وإنما هو مبحث ينشغل بترتيب الصور والعلامات كما تظهر في السينما و أوّل نمط للصورة هو "الصورة- الحركة" بتغيراتها الأساسية. ينشغل الفيلسوف بمسألة تنتمي أساسا إلى الإبداع السينماتوغرافي وهي مسألة التركيب، خاصة وأن الفيلسوف يستحضر في هذا المجال المخرج السينمائي والمنظر الروسي آيزنشتاين Eisenstein، والذي يؤكد على حدّ تعبير دولوز أن التركيب هو ماهية الفيلم فهو الفكرة المؤسسة. إن التركيب – المونتاج- ليس شيئا آخر غير العملية التي تتعلق "بالصور – الحركة" لكي تستخرج الكل أي الفكرة بما هي صورة الزمن وهي صورة تكون بالضرورة غير مباشرة بما أنّها مستنتجة من العلاقات التي توجد بين "الصور –الحركة".إن التركيب هو تكوين وترتيب "صور- حركة" بماهي مكوّنة لصورة غير مباشرة للزمن.
إن فهم الزمن انطلاقا من الحركة بحسب التركيبات المختلفة هو ما ادّى الى تأسيس مدارس مختلفة في مجال التركيب السينمائي، وحسب دولوز يمكننا أن نميز بين أربعة توجّهات في هذا المجال :
النزعة العضوية للمدرسة الأمريكية : و تتميز بالتركيب العضوي النشسط، التجريبي للسينما الأمركية يكون فيها التركيب الصور-حركة بمثابة التنظيم العضوي. إذ العضوية هي أولا وحدة داخل المتنوع بمعنى أنها مجموعة من الاعضاء المتمايزة. إن العلاقة بين هذه الأجزاء تكون تركيبا متواترا إذ أن الصور تتواتر وفق لإيقاع متحدّد.
- الإتجاه الديالكتيكي للمدرسة السوفياتية الجدلية حيث يتم التأليف بين الصور على أساس تعارضها ولا يتم الانتقال من صورة على أخرى بحسب تطوّر زمني، وإنّما بحسب جدلية. ويعتبر دولوز أن أيزنشتاين يمكن اعتباره كمؤسس للمذرسة بالنسبة لبودفكين ودوفانشكي لأنه اتخذ من القانون الثالث للجدلية مبدأ وهو متمثل في كون الواحد ينشطر إلى إثنثن ويؤدّي بدوره إلى وحدة جديدة مؤلفة للكل العضو ي.
-الإتجاه الكمّي للمدرسة الفرنسية ماقبل الحرب متميّزة بالتركيب الكمي والنفسي ويعتبر Gqnce المؤسس المعترف به لهذه المدرسة التي قطعت مع مبدأ التركيب العضوي، وإنّ ما يميّز هذه المدرسو هو نوع من الديكارتية ، إنهم المؤلفون الذين يهتمون قبل كل شيء بكمية الحركة والعلاقات المترية التي تسمح بتعريفها، فالمدرسة الفرنسية هكذا تبتعد عن التركيب العضوي وكذلك لم تأخذ بالتركيب الجدلي، لكنها أنجزت تركيبا ميكانيكيا موسعا للصور –حركة.
- الإتجاه التكثيفي للمدرسة التعبيرية الألمانية وهي متميّزة بالتركيب المكثف المثالي.
إن ما يمكن استنتاجه حسب دولوز من خلال هذا التصنيف هو أنه في كل نزعة يمكن للمؤلفين أن يختلفوا اختلافا عميقا رغم وحدة الموضوع والمسائل والاهتمامات. بمعنى أوضح إن الاختلاف لا ينفي الرجوع إلى نفس المفاهيم الأولية أي مفاهيم الصورة والحركة والزمن.
من خلال هذه الاعتبارات، يتبيّن أنه بالنسبة لدولوز، عملية التركيب رغم كونها عملية تندرج ضمن الابداع السينمائي التقني، فإنّها ليست شيئا آخر غير تفكير ، أي أنها تتأسس على المفاهيم الفلسفية ، فالتصنيف ذاته أمر معهود في تاريخ الفلسفة ، وهو ممارسة فلسفية صميمة، من ذلك تتوضح هذه القرابة بين الفلسفة والسينما لدى دولوز على حد التوحد والتجانس في مستوى المفاهيم ، في اعتبار فيلسوف الاختلاف لا يمكن لعملية التركيب Le montage cinématographique أن تنجز خارج الأفق المفاهيمي المحدّد لها، وبذلك وحسب التصنيف الذي خدّده دولوز في المؤلف الأوّل من الثنائية المخصصة للسينما، يبرز العمق الفلسفي لهذه الممارسة الإبداعية التقنية-التركيب.
بالنسبة للمؤلف الثاني " الصورة- الزمن" هنالك مبحث جديد يبرز الإختلاف ما بين الصورة- الحركة و الصورة- الزمن ، فالأولى تشكل الزمن على نحو تجريبي بينما الصورة- الزمن ليست تجريبية بالمرة وهي ليست كذلك ميتاقيزيقية و إنّما " ترنسندنتالية" بالمعنى الكانطي، و هي لا تقصي الحركة و إنما تقلب العلاقة من تبعية الزمن للحركة إلى تبعية الحركة للزمن.
هكذا يتبيّن مع دولوز و ضمن مؤلفيه المشهورين خول السينما أنه في واقع الأمر يدشن مشروعا جذيذا بالنظر إلى مؤلفاته حول الفن، فقد خصص مؤلفات للرسم مع فرانسيس بيكون" منطق الإحساس" الرسم بصورة عامة هو موضوع البحث ، و إنما الأمر يتعلق أكثر بمونوغرافيا منه بنظريات متناسقة. في مؤلفي " سينما 1 و2" يختلف الأمر حيث نجد معالجة شاملة للفن ال سابع منذ جذوره إلى حدود الستينات من القرن العشرين. بهذا المعنى تحوز مسألة السينما منزلة خاصة ضمن مدونة دولوز. الفلسفة تفكر هكذا يكون المشروع جديدا ، أو على الأقل يطرح بصفة خاصة إشكالية تتمثل في مستوى مفاهيم السينما التي لا تنبع من السينما و رغم ذلك هي مفاهيم للسينما. إن مسألة المفاهيم تمثل إشكالا لابد من مواجهته ضمن القول الدولوزي و ضمن المقاربات الأخرى التي إنشغلت بالمسألة. و إن طرح مسألة المفاهيم كإشكال أمر يبرر تناول ميألة العلاقة بين السينما و الفلسفة بإعتبار أن هذه الخيرة تعرف لدى دولوز بكونها فن إبداع المفاهيم، قالسينما رغم أنه لا تنتمي لجنس الاهتمامات التقليدية للفلسفة بإعتبارها مجالا من جنس "، إلاا للافلسفي" إلا أن هذا أألأمر لا ينفي العلاقة بينهما ، فدولوز يعتبر لأن الفلسة هي في حاجة اللاّفلسفي الذي سيفهمها. فمؤلفا "سينما 1و 2" ليسا شيئا آخر – في نظر دولوز- غير مؤلفات فلسفية، فلا وجود إلاّ لمفاهيم، و ليست بالضرورة تلك التي أظهرتها السينما و إنما تنسجم مع ممارسات أخرى، خاصة المفاهيم الفلسفية، و هذا الأمر لا يعني البتة خضوع السينما للفلسفة، لكأن السينما ليست تفكيرا، فالسينما تفكر و فكيرها مجسد حسيا و إنفعاليا. الفلسفة كذلك تفكّر بفضل فعالية وممارسة المفاهيم.
إنّ التحوّل من الصورة-الحركة الى الصورة-الزمن هو بمثابة الازمة في نظر دولوز وبالتحديد ازمة في مستوى مفهوم الصورة-الفعل، وهي أزمة لها العديد من الدوافع ، منها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وكذلك الأخلاقية، وكل التأثيرات الممكنة التي تتدخل العملية السينماتوغرافية، لكن كذلك وبالأخص هذا التحول هو نابع من السينما ذاتها.
هنالك أزمة في مستوى الصورة وبالتحديد أزمة في مستوى الأنماط الجمالية الكلاسيكية للسينما. هنالك تحوّل من "الصورة-الفعل" الى "الصورة-الحدث"، من ذلك يبرز أنّ التحوّل أو ما يمكن التعبير عنه بالمنعرج في مستوى جمالية السينما هو تحول مفاهيمي بالأساس، وبالتحديد تحوّل في مستوى مفهوم الصورة.
هكذا فإنّ المفهوم لم يفارق الصورة خلال تاريخ الفلسفة بل ظلّت العلاقة بينهما هي المحور الأساسي للجدل الفلسفي، فقد شدّت الصورة إزر المفهوم خلال مراحل طويلة من تاريخ الفلسفة، من ذلك فإنّ مدخل المفهوم، لاستكشاف العلاقة بين الفلسفة والسينما يبدو مبرّرا من وجوهه الفلسفية والانشائية.


3-مولد السينما الواقعية الجديدة وأزمة الصورة الفعل

إن التحوّل من"الواقعية" القديمة إلى الواقعية الجديدة جسد منعرجا هاما في تاريخ السينما، دولوز في بداية المؤلف الثاني المخصص لمسألة السينما ، يبرز أنه ضمن الواقعية القديمة وبحسب الصورة –الفعل l image -action، للوسائط حقيقة خاصة بصورة مسبقة، و لكنها حقيقة وظيفية، محددة وفقا لمتطلبات الوضعية أي ما تفترضه عملية المونتاج. لكن مع الواقعية الجديدة تتخذ الأشياء و الوسائط حقيقة مادية مستقلة. الواقعية الإيطالية الجديدة لا يمكن تعريفها في منظور أندري بازان من خلال مضمونها الإجتماعي، إنما مقاربة هذا المنحى الفني الجديد تكون من خلال المعايير الجمالية الصورية. هنالك شكل جديد للواقع الذي لا يتم تمثّله أو إعادة إنتاجه، وإنما أصبح مستهدفا. فعوض أن تمثّل واقعا قد تم تفكيكه، فإن الواقعية الجديدة تتوجه إلى واقع سيتم تفكيكه وهو دوما ملتبس ولذلك فإن المسطح séquence ينزع لتعويض التركيب الناجم عن التمثلات. لقد أكّد بازان في مؤلفه " ماهي السينما " أن الواقعية الجديدة لا تختزل في مضمون تمظهراتها الأولى. فخلافا لأولئك الذين يعرفون الواقعية الإيطالية الجديدة من خلال مضمونها الإجتماعي، يؤكد بازان على ضرورة التمسّك بالمعايير الشكلية الجمالية. هنالك معنى جديدا للواقع، فالواقعي لم يعد مصوّرا كما أو منسوخا، و إنّما "مستهدفا" . فبدلا من تصوير واقع مقروء ومكشوف، تسعى الواقعية الجديدة نحو واقع لكشفه وحلّ رموزه، نحو واقع غامض على الدوام، لهذا نزعت إلى اللّقطة الطويلة أو"اللقطة المرحلة " le plan séquence عوضا عن مونتاج الصور.
لقد إبتكرت الواقعية الجديدة نمطا لصورة جديدة، إقترح بازان تسميتها ب"الصورة – الحدث" . وإعتبر ان الواقعية الجديدة لم تكن محدودة بمضمون تجلياتها الأولى، فالواقعية الجديدة تنتج "واقعا مضافا" صوريا أو ماديا. ويؤكد دولوز أن طرح المشكل بهذه الكيفية أي على مستوى الواقع لايضمن لنا أن نكون فعلا واقعيين إذ ليس من المؤكد أن الذهن أو الفكر لم يتدخل ضمن هذه العملية. إنّ الصور الحركة والإدراكات والإنفعالات هي أفعال سترزح تحت هذا التغير الذي يحدثه الفكر و إن الصور تحمل إلى دلالات جديدة تتجاوز الحركة.
في تصّر دولوز لمّا يعرف زافاتيني الواقعية الجديدة بأنها فن اللقاء و فنّ المصادفة، لقاء بين الناس أو بين الأشياء، لقاء مقطع، وقتي مبتور، غير موفق. إنه يقصد لقاءات "بايزا" لروسيليني، أو"سارق الدراجة" لدي سيكا. فالواقعية الجديدة تجسدت من خلال الوفرة المتزايدة للمواقف البصرية الخالصة وكذلك الصوتية، رغم أن الصوت المتزامن كان ناقصا في بدايات الواقعية الجديدة – التي تتميز عن "الصورة –الفعل" للواقعية القديمة.
تاريخيا المدرسة الواقعية الجديدة نشأت من خلال تأثير السينما السوفياتية، وخاصة "السينما العين " لفارتوف والمدرسة الفرنسية الإنشائية الواقعية لسنوات 1930-1940. هذا التيار السينمائي أصوله تمتدّ إلى الثلاثنيات، إنطلاقا من إرادة بعض السينمائيين الإيطاليين والذين كان طموحهم إنجاز أفلام بدون مركّبات تقنية وبدون سيناريو بحسب الإمكان، لقد إقترحوا حمل الكاميرا في الشوارع. إلا أن جماليات الواقعية الجديدة الإيطالية تختلف عن جماليات المدرسة الواقعية القديمة، أندري بازان في مؤلفه " ما هي السينما؟" يبرز الإختلاف يتمحور بالأساس في مستوى مفهوم الواقع ذاته، و في كيفية معالجته سينمائيا ، فعلى عكس الواقعية السوفيانتية القديمة التي تخضع الواقع على وجهة نظر محدّدة ، و تنظمه وفقا لمونتاج محدد ، فإن الواقعية الجديدة الإيطالية متحررة من كل أساليب المونتاج ، فهي متمسكة بالمحايثة.

الخاتمة: دولوز و إيتيقا الصورة

هنالك مراوحة ضمن هذا النمط التفكيري الجديد الذي أبتدعه دولوز ما بين مسافتين في ما يتصل بالعلاقة بين المفهوم و الصورة، بصورة أدق هنالك تأرجح بين" إبداع المفاهيم" و"إبداع الصور"، ولكن هل من إختلاف بين المجالين في نظردولوز؟إن إنشاء الماهيم بما هو نشاط فلسفي بإمتياز " ما الفلسفة؟".هو في أصله بحث عن وسائط و و يائل جديدة للتعبير، و كأن الطرق القديمة او الجهاز المفهومي القديم أصبح عاجزا عن التعبير عن الأفكار الفلسفية. وفي سياق تركيز فيلسوف "الإختلاف و المعاودة" على ما هو خلاّق في الفلسفة، يجب أن نفهم مشروعه المتمثّل في بلورة " آلات " نصّية لا تستند فحسب إلى الفلسفة بل كذلك و في نفس الوقت إلى الأدب "بروست والعلامات 1970 " وإلى السينما " الصّورة- الحركة 1983"، "الصّورة- الزّمن 1985" وهي آلات قادرة على التّعبير حقّا على إبداعيّة " الآلات الرّاغبة " "الإنسان بما هو رغبة". يصبح جليّا إذن أنّ الفلسفة الجديدة التّي يدعو إليها دولوز هي مدح للرّغبات وإنتباه إلى تحرّكات الجسد المفردة في الفضاء الإجتماعي.
إبداع المفاهيم في الفلسفة لم يعد يمثل تأسيسا لماهيات مفارقة وهو أمر أكّد عليه دولوز في إفتتاحية آخر مؤلفاته" ما الفلسفة"، هذا الأمر قد إستشرفته الفلسفات التي بشّرت بتحويل وقلب القيم، مجسّدة بالخصوص في فلسفة نيتشه، الذي كشف عن بعد جديد للتفكير قد فارق الماهيات، ليصبح مجاله الصورة، فلقد فارقت الفلسفة الإعتبارات التي تفصل ما بين الظاهر والمحسوس، والصورة قد تخلصت من ماهويتها سواء المثلية الأفلاطونية أو الهيلومرفية الأرسطية وأصبحت ماثلة أمامنا فهي منظورية نشاهدها فتتجذر في وعينا وتخلق داخلنا وعيا جديدا ومستحدثا بالعالم. وممّا لا شكّ فيه أن الحضارة المعاصرة هي حضارة الصورة والمرئي وكل الأشكال التعبيرية وخاصة تعبيرية الجسد، التي تظهر في الزمان وضمن فعل حركي.
إنّ المعنى المعاصر للصورة يبرز أنها تعبيرية تكشف عن نمط جديد "للوجود-في-العالم هنالك تعبير عفوي ومباشر يكشف عن واقع أصلي سابق للمفاهيم واللغة، هو واقع الذات الذي ينكشف للجسد، فكلّ شيء نترقّبه على أنّه صورة مجسّدة، ظاهرة في أشكال متنوعة لا يترقّبها الوعي كتمثّل وإنّما تبسط تأثيرها على الإنفعال، فالصورة كحركة هي في واقع الأمر جسد يخاطب جسدا آخر، لا بفعل آلية اللّغة وإنما ضمن لغة تحويها الصورة كحركة، فالأصوات لم تعد هي أداة التواصل، وإنّما الصورة هي التي تحوي زخما لغويا تواصليا، المرئي هو الذي إستحوذ على الإنسان المعاصر. فالصوت لم تعد له أيّة دلالة خارج إطار الصورة، وهو ما يفسّر الإرتباط الوثيق ما بين السينما والموسيقى. لقد توحّد الجهاز المرئي بالجهاز السمعي، الأمر الذي مثّل إنجازا تقنيّا، جماليّا وفلسفيّا بالنسبة للسينما. إنّ الصورة قد سبقت جماليا وتاريخيا الصوت، وإنها اليوم قد تحصّنت بفضل ما بلغته التقنيات المعاصرة، والتي بشّرت بولادة تكنولوجيا الصورة وهندسة الجماليات ، لم يعد هنالك من خيار للفلسفة و للجماليات خصوصا إلاّ أن توجّه خطابها تجاه مساءلة الصورة. فهي أولى القضايا التي مثّلت أساسا لسجال فلسفي أصيل له أصول إغريقية قي خصام أفلاطوني–سفسطائي. فلكأن الخصومة الأفلاطونية – السفسطائية، ستجد حكما فاصلا سيبتّ في الأمر وهو عصر تكنولوجيا الصورة. كان على السفسطائي أن ينتظر عهودا طويلة لينصف في ما آخذته عليه الأفلاطونية بشأن الصورة، فالصورة في الجماليات المعاصرة تبدو أكثر سفسطائية على أن تكون أفلاطونية، حيث لم يعد بالإمكان القول بأن الصورة نسخ للواقع، إنّما بالعكس الصورة هي التي تنشئ الواقع، وهي الصورة الإفتراضية أي الصورة المنشأة وفقا للتكنولوجيا المعلوماتية. ذلك أن الإنتقال من مجال التناظري analogique إلى مجال الرقمي numérique أنشأ قطيعة هامّة في تاريخ الصورة وهي قطيعة بمثابة الثورة كما هو الشأن في مجال العلوم والتقنيات الأخرى. هذه الثورة يمكن التعبير عنها بأنها ثورة رقمية أو معلوماتية، تجلّت بالخصوص في التحوّل الذي شهدته الصورة المعلوماتية التي تخلّصت من كل تعيّن لتتحوّل إلى شيء مجرّد، بمعنى أوضح نقول أنها تحوّلت إلى لوغاريتما وسجل من الأعداد المتحوّلة بإستمرار وبشكل لانهائي طبقا لعملية حسابية، فما تلتقطه العين لم يعد سوى نموذج منطقي رياضي يتم إقراره ظرفيا.
إن هذه الثورة الرقمية بسطت تأثيرها في الآن نفسه على الصورة والصوت والنص. ليتوحّد بذلك المهندس والباحث والكاتب التقني والفنان، ضمن نظام مشترك. وها هو عالم الصورة قد غدا بسيطا ومنفتحا ومعلنا لرمزية كونية. ومجمل الفنون الجميلة تكون قد إتّصلت بالسريان العام للبرمجيات. إنه إنتصار اللغة على الأشياء والعقل على العين. وبهذا يكون تحويل جسد العالم إلى كيان رياضي مثله مثل الأشياء الأخرى بمثابة يوتوبيا "الصورة الجديدة". إنها في كل الأحوال ثورة في مجال البصر، ترفع بذلك اللّعنة التي زاوجت بين الصورة والمحاكاة . فقد ظلّت مشدودة إلى وضعيّتها المرآوية كإنعكاس أو أخدوعة، وفي أحسن الأحوال كبدل وفي أسوئها كحيلة، لكن دائما كوهم. إنها إذن نهاية ألفية محاكمة الظلال وإعادة الإعتبار للبصر في حقل المعرفة الأفلاطونية. فالصورة مع الفوتوغرافيا وبفضل نظام المعلوماتية، لم تعد أبدا نسخة ثانوية لشيء سابق وإنما العكس، إنّ الصورة المعلوماتية بمراوغتها للتعارض بين الوجود والمظهر والشبه والواقعي، لم تعد بحاجة لمحاكاة الواقع الخارجي بما أنّ المنتوج الواقعي هو المطالب بمحاكاتها هي كي يحقق وجوده. هكذا إنقلبت معطيات العلاقة الأنطولوجية التي كانت تحتقر وتضفي طابعا مأساويا على حوارنا مع المظاهر منذ الإغريق ، فالتمثيل غدا عرضا، إلى درجة أصبحت الأشياء تبدو أكثر فأكثر مجرد نسخ باهتة للصور وذلك تبعا لتحوّلات طويلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة