الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السادن

ماجد رشيد العويد

2005 / 9 / 12
الادب والفن


نعم أخشاك
وكيف لا أخشاك ، وأنت أصلي ومبتدئي ، وأنت مهجة روحي ، وما خشيتك إلا لكي أتمكن من إنسانيتي الضائعة وربما الضالة ، فأحيا وسط الركام البشري محترماً بهي الطلعة والطلّة ، وأما الجرأة بغير تعقّل فصفاقة مأفونة .
في الحلم – ولم يكن من الأضغاث – وبعد طول تدرب ، جاءني أنه يجب أن أغسل ما علق بكم من أدران ، أقصد ذلك الغبار الذي تراكم فوقكم ، فوق حجركم .
صحوت من الحلم أو ربما من الضغث لا أدري . ومن فوري وعلى إيقاع العجلة اتجهت إلى الميدان الواسع، المحشو بالناس الصغار والكبـار ، الأصحاء والمـرضى. قلت من هنا أبدأ . لحظات لا أكثر وانفجر الماء قوياً مثيراً الدهشة على الأفواه الفاغرة . قلت للناس :
-يا ناس هذا الميدان مبارك ، فلنتعاون على حمايته وحراسته من ضعاف النفوس .
هذا القول كررته كثيراً . فزت في النهاية بتثبيت نقطة الحراسة ، وأقمت فيها إلى حين حضوري إليكم . لسنين عديدة وطوال هذه الأعوام وأنا أغسل الميدان وحجره ، وأسقي ورده .
دلقت عند جنباته كل شبابي ومبتدأ كهولتي . كنت أرى فيه بقاءنا ولا شيء سوى بقائنا . على أنني وفي غمرة انفعالي بنقطة الحراسة المحدثة ، وفي غمرة التوق إلى إحداث نقاط أخرى ، وفي غمرة توقي إلى حماية الميدان ، ومراقبة الطـرق المنتهية إليه ، رأيت ركناً يمسخ كلباً ضارياً جبّاراً . وفي لماحة نادرة أدركت أني إن تركت له أن يتابع انمساخه سيفتك بي وبغيري من الناس الذاهبة والآيبة ، والثاوية في بيوتها . كان كلباً غير مبال ، طائش النظرة ، أحادي التوجه ، ذا نـزوع كفري ولهجة استفزازية .
كنت مصيباً فيما رحت إليه من حدس بشأن الكلب ، فلقد اتجه إلى قلب الميدان مباعداً ما بين ساقيه ليبول . قلت له :
-يا كلب لا تتبول هنا .
لم يستمع إلي ولم يعرني التفاتة . أيقنت أنه كلب ضال فدفعت إليه ثلاث طلقات ، اخترقت دماغه ، وعظام صدره وخرّ من لحظته صريعاً ، فأي جرم في مقتل كلب ؟
إن لي حاسة لا تخيب في قراءة الأفكار ، وليس من عبث ولدت هذه الحاسة ، فلو لم أقتله لعاش وأنسل وكوّن عصبة مسعورة تهجم في كل اتجاه دونما وازع . وبفضل هذه الممارسة أوتيت مقدرة الكشف عن خيارات هذا الكلب . أقصد ما كان كلباً بعد انمساخ سريع وصار جثة هامدة ، ورأيت أن الرصاصات رحمة للناس من عذاب لا يطاق .
لم يكن الميدان ميداناً عادياً ، ولا الساحة كانت كذلك . كانت تنتهي إليه أربعة شوارع عريضة فارهة بأرصفة محددة بحجارة بيضاء وسوداء وكان محاطاً بأبنية ضخمة وعبر الشوارع هذه يتم الانتقال إلى أرجاء المدينة كافة ، لهذا لم يكن عبثاً أن أطالب بتثبيت نقطة الحراسة .
أسوق إليك ما جرى دونما منّة في سوق هذه الأخبار . لو كنت مكاني لاتخذت إجراء مماثلاً حاشا لله أن أتشبه بك ، ولكني أفترض ، إنه مجرد افتراض .. فلا تغضب يا سيدي وتثار. قبل خدمتي كان الميدان يغطّ في سبات عميق . كان هامداً على نحو ما فاتر الحركة ، متكلّس الروح . مع وفودي إليه ، وحلولي في أرجائه حارساً انقلب الحال .
قرأت تاريخه منذ التأسيس ، أنشأت معه روابط أثمرت ألفة خاصة . دفعت إلى حناياه روحاً طقسية دؤوبة . بدأت أنظفه بهمة عابد متعبد .. أنظفه آناء الليل وأطراف النهار . ولم أكن أنظف المكان من الغبار والأوساخ فحسب ، وإنما أيضاً من السقطات والزّلات اللسانية والعقلية . كنت في هذا لبيباً وعلى السجية . لو انتهيت إلى غير هذا لبسط ذراعيه ، وإذ يبسط ذراعيه ندلف على غير إرادة منا إلى تلك الظلمة السحيقة . كانت الرصاصات وأداً لولادة مشبوهة .. ولادة مشوّهة ، ورفضاً لتنويم عميق وطويل في مهاد الظلمات . نعم سيدي ، لقد أردت الدلوف إلى عمق العصر معانقاً الزمان في تفاصيله الدقيقة والرهيفة .
اخترت درباً شاقة وعرة ، وقلت : إني في محنة وعلي اجتيازها . لقد لامست بعض التصور لتلك المهاد البعيدة ، كنت كأني أدخل إلى قاعها ، وإلى عمقها ، مرهف النفس ، ممزق الوشائج . وقدماي … نعم قدماي أبتا إلا ذلك التلبث الوجل ، فتسمّرت في مكاني أستجمع قوتي وأصرخ بأعلى صوتي قف يا كلب لا تتبول . كان لابد من خيط نور أشرخ به الظلمة المحيطة عندها انطلقت الرصاصات مخترقة رعبي وصمتي الطويل ، ومحلّقة كالراية على أعمدة إرادتي الوليدة في اختراق ذلك السكون وتلك الظلمة التي ملأت الدروب ، وغلّفت العقول .
هأنتذا تحب أن تعرف عني تفاصيل أخرى غير عملي . لا بأس ، فأنا شيخ هرم أسعل من تواصل الأيام ، وألجّ من استمراري في كنفها شيخاً وتّره الدبيب العجول لكائنات ربمـا بلهاء .
وبرغم همّتي الوقّادة ، وانسَ أني شيخ ، برغم همّتي هذه ، بدأت أنسحب من الحياة مكتفياً بما توفر لي من البقاء حياً في ربوع ميداننا المقدس ، أقرأ تاريخه وأدرس حالاته فأكتسب منه وقادة الحس والشعور ، فمنه وعبر مناجاتي لروحه ازددت تجدداً
فأحسست في لحظات أني شاب في مقتبل العمر وفي أول عطائه ، أطير قاطعاً سبع سماوات ، وإن شئت داخلاً إلى سبع مفاوز . كنت على شفا امتلاك القدرة على تحليل ما لانبساط ذراعيه من معنى .
كان الطريق الذي سرت فيه معتماً إلى حدّ يجعلك تطفح بالأسى ، كان كالكهف في ظلمته والتوائه ووحشته . وكانت الغرفة التي انتهيت إليها ضيقة جداً ، عطنة الرائحة وجدرانها نزفت البقية الباقية من رمق يتهتك وسط ما يشبه كهفاً عتيقاً ، أناجي ببقية ضئيلة من شهيق ينفد تلك الرسوم التي تراءت لي والأوراق التي خيل إلي أني أراها . قلت له للمحقق : لابد من هذا الانعطاف ليستعيد ميداننا بهاءه . قال لي : أزهقت روحاً .
فقدت في مواجهته كل قدرة على الاختيار . قال إني من السافلين ، وإن مثواي جهنم وبئس المهاد ، وقال لي ستعيش ميتاً في جحيمين ، ثم أضاف جحيماً ثالثاً . لمّا أردت أن استفسر علمت أن جحيماً ساقه إلي بنفسه ، وان الآخر في الأعالي وبينهما سيكون جحيم القبر وأردف : سأقبرك سريعاً أسرع مما تتصور وستتضور في الجحيم فإلى أن تنتشر الصيحة نحتاج إلى عدد هائل من السنين سيكون جحيمك الأوسط ترعى خلاله الديدان جسدك . وسيكون القبر مثوى لاهباً تضج خلاله نفسك أو ما بقي منها . ولا أخفيكم أنه ارتعدت فرائصي ، وجن حلمي من الصورة التي رسمها المحقق دونما جرم يذكر سوى أن كلباً ضالاً تبول ، ربما سهواً وافترضتها عن قصد ، فدفعت إليه ثلاث طلقات هشّمت عظامه ونخاعه . وتساءلت عن مصيري في ملاقاة جهنم الثلاثية الأمكنة ، وتذكرت عذاب القبر وحكايات الجدات ، وقلت ربما سأعانق النيران لأنني سهوت عن الكلب فبال ، وقلت ربما لأنني قتلته ، وأضعت نفساً بريئة بغير ذنب يرتكب . ثم توقفت كالمستدرك ، وقلت متسائلاً أيبول ولا يكون مذنباً ؟
هيئة المحلّفين نقضت حججي حجة بحجة ، ولما كانت هذه الهيئة تصاب بعسر في الاجتهاد ، يتوالى الطرق على المنصة فأصمت بدوري مدركاً خطأ حجتي وبطلانها ، ومدركاً كذلك فداحة ذنبي .
قلت لهم :
-لقد بال ، ولو لم يفعل لما قتلته !
قال لي المحامي :
-ولكنك زهقت بغير ذنب نفساً بريئة .
-ولكنه كلب ضال ، ثم إنه بال .
وردّ القاضي :
-ليس التبول جرماً كافياً لإطلاق الرصاص !
قلت في نفسي ،والإرهاق باد علي : لم لمْ أدعه يبول ويرحل وماذا كان يضيرني لو تبول ؟ وكأسرع من البرق غاص السؤال في أعماقي ، وعملت بالسرعة ذاتها على نسيانه ، ذلك أن مجرّد التساؤل يعني اعترافاً بجريمة منسوبة إلي . بعد انبثاق السؤال على شكل رغبة زلّت ، فعلتها في سروالي !! اللحظة ساخنة كأنها النار ، والشياطين الثاوية قامت من أعماق القماقم تحيي وعلى طريقتها رقصة الموت التي دفعتني إلى حلقاتها مسحوباً من نواصيّ جميعاً . بعد ذلك استقررت في تابوت ، وكنت داخل التابوت جثة تسبح في الماء ، وكان هذا المشهد أقرب ما يكون إلى الحلم .
عبر الحوار المبتسر اكتشفت جريمتي ، أعني عرفت سبباً من الأسباب التي أفضت بي إلى هنا ، حيث التحقيق والتكفير ، ثم توالت الأسباب التي دلّتني على إقدامي غير الممنون على خرق ستر الظلمات ، وقتل الكلب المبارك . آنذاك وبعد شبه اقتناع بأنني مارق كافر ، قررت أن أطلب العفو والرحمة . قرأت في السر والعلن الفاتحة وآية الكرسي ، وقرأت كل المعوذات . كنت في لحظة من لحظات التجلي والصفاء طائراً على بساط من الكشف لا يكون إلا لنبي ، مدركاً حجم ما هو منسوب إلي ، ومؤمناً بحجم عقوبتي فلا أقل من الاستغفار وطلب التوبة والرحمة بالإكثار من الركوع والسجود . وفجأة تساءلت كيف أدع الكلب يسهو ؟
قلت لا بد أنني سهوت عنه فسها ثم بال ، ثم أطلقت الرصاص فأزهقت نفساً زكية . غفوت غفواً لائذاً ، وتساءلت بصمت عميق كيف هي نفس زكية في لبوس كلب ضال ؟ إن فعلَ بال لوحده كاف لنثر الموت . وأكثرت من الأسئلة والأجوبة حتى شعرت بدوار يحطم رأسي .
قال لي محامي الكلب :
-أنت تترك الناس حتى ساعة متأخرة من الليل ، فينام أكثرهم في الميدان ، وفيهم لصوص يقطفون ورده ، وبعضهم يكتب عبارات لا تليق بالذوق ، وبعضهم يتشاجر ، كل هذا وأنت غافل عنهم حتى جاء الكلب ، وأطلقت عليه رصاصاتك الثلاث .
وقال لي القاضي :
-حطّم الناس إنارة الساحة دون أن تفعل شيئاً . فما معنى أن تقف عند كلب ضال ؟
للوهلة الأولى صُعقت ، فمن الغريب أن يقارن الناس بمسخ هذا للوهلة الأولى وفي الثانية تلاشت الصاعقة ، وأدركت بما يساعد على قطع الشك باليقين أنني مذنب وغارق في ذنبي حتى النخاع . عند حدود هذا الإدراك وبعد أن ملأني اليقين همـد خوفي ، وقلت لا بأس بها من رحلة في مهاد النار ، وقلت لا مفر من التدرب على استساغة المهل ، وعلى التنفس وسط كتل الغساق .
تأجج شعوري بالذنب . غرقت في نوع من التبتل ، ورأيت أن التوبة لا تصح بغير عقاب . سألني المحامي سؤاله الأخير :
-ما الذي دفعك إلى زهق روحه ؟
-اعتقدت أنه من الكلاب الضالة ، وأيضاً لونه كريه ، وهو مخيف وشرس ثم إنه تبوّل .
توجه إلى القاضي يطلب إليه إعدامي لزهقي روح الكلب . انفرجت أساريري وأنا أرى السعادة تغمر صاحـب الكلب ومحاميه . غمرني فيض لم أدرك كنهه وأنا ألمس تحقق الناموس الكوني العين بالعين . لقد ارتفع شأن الكلاب الضالة . حاولت أن أُمسخ كلباً ودعوت لأصبح كذلك . عوى صوتي - وأنا أنفق- في الصحارى الشاسعات مخبولاً تائهاً تردد الرمال صداه وتُطرش الأزمنة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة