الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صور الأب

حسين الموزاني

2015 / 1 / 30
الادب والفن


حسين الموزاني
صور الأب
مشهد قصير من رواية
حين دخلت الدار شعرت بالندم لأنّني نسيت أن أجلب من حانة "كاب دور" بضع زجاجات من البيرة، المصرية المخصصة للتصدير، لأقطّع بها أوصال الليل والذكريات. وبدلاً من ذلك دخّنت سجائر عديدة حتّى فرغ رأسي من الهواء وأصابه الجفاف فأصبح الدم الجديد عاجزاً عن التدفّق... ودون سابق إِنذار انثالت على رأسي تصاوير أبي المندثرة الغائرة في ثنايا الزمن وأخذت تعصف في مخيلتي لدرجة جعلتني أشعر به وكأنّه لم يرحل أبداً، أبي الذي قد أضعتُ ملامحه، وعندما حاولت أن أجمع شتات ذاكرتي لكي أحظى بصورة واحدة اجتمعت فيها تقاطيع وجهه كاملة، فلم أفلح إِلاّ باستحضار عينيه الواسعتين الغائمتين وشفتيه اللتين كان يطبق عليهما الحزن. فهل كان حزنه أكثر قدماً من صورته نفسها؟
لقد غاب عنّي أبي إلى الأبد، ورحل وتفتّت تذكاره مثلما تتفتتُ الريح. فاجتاحني إِحساس عارم باليتم، وتسلل هذا الإِحساس إلى نفسي واستقرّ فيها مثل كائن أليف، على الرغم من أنّني كنت أقاومه أكثر من عشرين عاماً، فدخل هكذا ببساطة مثلما يدخل مبعدٌ منفي إلى دار أهله. كنت أحسب أنّني قد انتهيت من الماضي ودفنته مثلما دفنت أبي، وكنت أحسب أنّني كبرت على الذكرى، ولم أدرك بأنّها كانت تتربّص بي، فهي قد كبرت أيضاً واختارت لها موضعاً دفيناً بين الضلوع. تذكّرت أنّه اشترى لي ذات يوم قنينة حليب: حدث ذلك ظهيرة يوم قائظ، اشتراها من الدكان قبالة المعمل الذي كان يحرسه. دكان كريم، نعم دكان كريم! ولم يزل طعم الحليب عالقاً إلى اليوم بحطام الذاكرة. وتذكرت أنني سمعته ذات مرّة يخوض جدالاً مريراً مع إِخوته وأبناء عمومته، فنجان وشوّاي وريسان وعبد الزهرة ولفتة ومخرّب. فبدا أبي سعيداً بحضورهم، كان يتحدّث منفعلاً وعلى نحو جدّيّ حول موضوعة الوجود والدنيا والآخرة: «فنجان! أنت شمالكْ ما تعتبرْ؟ أگـلكْ بيها، تـگولْ ما بيها! سويتها عليّ مثل خليلاتْ العبدْ!» لكن فنجان كان قد خلع عباءته "الچوبان" المثقوبة والماحلة اللون وفرشها أمام أبي ورفع يديه الطويلتين إلى السماء وهتف كالسائل «إطني؟ أريدْ أعرفْ شنهي فسرها، شنهي فسرها؟» ثمّ التفت إلى أبي وصاح به: «گاطع عليشْ حازبينْ يچوون بينا؟ عليمنْ يا گاطع، شنهو السويناه؟ چا خويةْ متعافين؟ چا يابعدْ روحي حوّافةْ؟ مگطمين؟ علّاسة؟ ونصليكمْ بالنارْ والسعيرْ، عليمن؟ گلي يا گاطع!» فردّ عليه قاطع محتداً «فنجان رحمةْ على أمّكْ وأبوكْ لاتسويها علينا ضغبرةْ، أگلك چوخْ تگول چبنْ، سويتها علينا مثل طلايبْ چعبْ و چنانةْ، يسربتون ليلْ ونهارْ وتاليتها واحد يگل للآخر: خوية تريد الصدگْ يو طريفاتهْ! أهو شنهو الإنسانْ يا فنجان؟ الإنسانْ أبو چخمةْ متكوّدْ منْ الأمعادْ الدقيقةْ، بلا كتْ إِذا ماتْ الإنسانْ أصبحْ زربةْ ابنْ زربةْ. خايب فنيجينْ عثولتها علينا، تاليتها نصير كلّ أحنا مثل چلابْ الحيساويةْ! ترى وداعتك ما تاخذ وياك حتّى هدمكْ الأملح المسرّد...». هذا هو صوت أبي، هذا هو رنينه الصاخب يأتي من أطراف الآخرة، فحاولت أن أخفّف من وقعه الرهيب، وعصرت رأسي لكي أسكت هذا الهاتف الذي تزحزح على صدري مثل صخرة، فهرعت إلى الشرفة المظلمة، ورفعت رأسي إلى السماء وأخذت أهتف أبي، أبي... حتّى توغلت الصورة الغائمة للأب الراحل في خلايا دمي وأصبحت هي نفسها جزءاً عضوياً، بل صارت دماً، فأخذت أتنفّس وأشهق كالمصاب بالربو. لا بد من أن أفعل شيئاً أقاوم به الذكرى التي أوشكت أن تفتك بي، فعليّ أنْ أصرخ في الناس جميعهم، أنْ أوقظ النيام...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس