الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( الرفيق ديونيسوس )

عبدالكريم الساعدي

2015 / 1 / 30
الادب والفن


( الرفيق ديونيسوس )
بعد إن ارتشف الليلُ أساه من صمت المكان ، تدثّر بملاءة سنواته الموحشة ، كان يفيض وجعاً حدّ الثمالة، حدّق في المكان ، لاشيء سوى جدران متآكلة ، نافذة خشبية يتوارى خلفها أحلام مؤجلة ، فراش تنزّ منه رائحة الموتى ، أشياء رافقت رحلته مذ كان هو ، تعبث بعزلته مع صفير الريح كلّ ليلة ، حتى جفّ خياله من فرط التكرار . نهيق خفيض يسقط من سقف الغرفة ، يطنّ في رأسه ، يقطع صمته ، الصوت يؤرقه بين الحين والآخر، ينبعث من عرض الخرابة الغافية على صدأ غرفته البائسة ، ينتابه النعاس ، يغمض عينيه لعلّه يغفو على حلم جميل يطفىء وجع وحدته . رائحة ضجر وقلق تنساب إلى أعماقه مع حشجرة النهيق ، أصداؤه الخافته تنبعث مع رائحة الروث وعفونة المكان ، ابتلع حيرته : - لعلّه هو ! لا يعجبني منظره ، لقد أصابه العجز . رمق الليل بنظرة شاحبة ، عرّج بمقلتيه في زوايا الغرفة ، ارتشف ما تبقّى من عرق ليلته الممزوج بثلج أوجاعه ، اتّزر بمعطف سكره وبلاهته ، وراح يجرجر خطواته صوب رفيقه الدائم ، أنيسه وحامل مشقته . يجرفه الصوت نحو الخرابة، والظلام يلهث خلفه ، أمسكَ ظلّ الصوت ، رآه على غير عادته ممدداً بين العربة الخشبية وقناني الغاز ، أصابه الذهول لمّا رآه يدور في دوامة الاحتضار ، يكاد يختنق بنهيقة . افترش القشّ ،جلس يحدّق بعينيه، ، كانت عيناه متدثرتين بنصف إغماضة ، يرقد فيهما عتب شديد : - آه يا صاحبي ، أعلم أنّي أهملتك كثيراً ، سامحني ، سأناديك الليلة كما يحلو لمجنون السوق أن يناديك.... *ديونيسوس . وخزته عيناه مرة أخرى بوابل من النظرات كما أشواك الصبير . تذكّر كيف كانت أقدامه تلتهم الطريق ، كان متحمساً ، حذراً ، حتى أنّ مجنون السوق كان يقبل إليه بلهفة ، ويناديه عن بعد : - أهلاً ديونيسوس ، أهلاً بإله الخمر... ثم يتحسّس شعر رقبته . كان حمار بائع الغاز يهزّ رقبته كلّما أقبل عليه المجنون وكأنهما حميمان التقيا بعد فراق طويل، بينما أغلب المارّة كانوا يضحكون بصوتٍ عالٍ للمشهد الذي كاد يتكرر كلّ يوم . - ديونيسوس ، أرجوك لاتمت ، أنك تعلم أنّي لا أعرف غيرك ، وأعلم جيداً أنّ سوطي يتوسد جراحاتك ، ها أنا أكسر سوطي ، هل يعجبك هذا ؟ . انتصبت أذناه الطويلتان ، وكأنه يصيخ السمع له . - ديونيسوس ، أيها الرفيق الدائم ، لقد تحمّلت مرارة رفقتي ، ما باليد حيلة ، أنت تعلم في مكان كهذا ، كنّا جزءاً من لعبة الزمن ، وجزءاً من مشهد لم نختره أنا وأنت ، سنكون قصة منسية . وقبل أن يغطّ في موته ، بعثرته نظرة شاردة تحمل جراح السياط ووجع عتب السنين . انحنى لهباب الجسد المسجّى ، لمسّ عينيه بأنامله المرتعشه ،استوطنته موجة حزن ، يهشّ صمت الليل بحسرات ويمضي وحيداً . في الصباح يندسّ بين أطراف العربة الخشبية يمدّ ذراعيه إلى الخلف ، يمسك بهما ، ينحني للأمام ، يدفع بقدميه الأرض ، ينطلق في غيابة يوم آخر، مختزناً ظلّ حوافرديونيسوس الخافته ،المنبثقة من تحت أقدامه ، يلثم خطواته بدمع وجعه ، يقطع الأزقة لاهثاً : - غاز.... غاز ..غاااااااااااااز ، تطارده حلكة من نهيق .
--------------------------------------------------------------------------
ديونيسوس : إله الخمرة عند اليونانيين ، واقترن الحمار عندهم به .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي