الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (73)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2015 / 1 / 31
الادب والفن



سحلوت والنزهة

عرف معجم لاروس النزهة باعتبارها ارتحالا نحو أماكن عدة قصد التمتع والحبور والانشراح. تساءل سحلوت : هل الكرزازيون* يرتحلون من أجل النزهة ؟؟ ظل هذا السؤال يؤرق سحلوت كحل العفطة في نومه ويقظته، سحلوت الآن يبلغ من العمر حوالي تسعين سنة، رجل طاعن في السن، تركته زوجته يعيش وحيدا في منزل متبل بالخراب. يذكر جيدا حينما كان والده يبرحه بالسوط، ويرغمه على الدراس من الصباح حتى المساء في صيف رمضاني قائظ، ومن حين لآخر يستغل اختفاء الوالد وراء الرزم، فيضع القنينة في فمه، ويترك الإله مشدوها. سحلوت لم يعرف الرحمة في حياته، كان يراها بعيدة عنه، في قبل السياح الأجانب الذين كانوا يترددون على وادي النفيفيخ، ذات مرة كان يقود القطيع صوب الحصيدات المتواجدة بالتيرس، فلفته سياح يتعانقون ويهمسون إلى بعضهم البعض، وهم يمتطون قاربا، لقد جاؤوا من فرنسا إلى المغرب لكي يتنزهوا، بينما سحلوت وغيره من أطفال القرى لا يملكون سوى نعال ممزقة، و سراويل مثقوبة، مع وجوه بائسة تطفح بالفقر والدونية، ويتبعون جيشا عرمرما من القطيع، فرنسا رحلت وتركت الكنتينة والسور المجاور لمدرسة بنت عبو حيث كان الفرنسيون يستمتعون بالخمر، لكن ها هي تعود لتذكرنا بمأساتنا وبؤسنا في هذا الوسط القروي المهمش .
تساءل سحلوت : من همشنا ؟؟ همشنا المخزن منذ تاريخ سحيق، كان يجردنا من محاصيلنا، ويدمر قرانا، ويستولي على قطيعنا، وحولنا إلى عبيد يخدمون من أجل متعة السلطان وحاشيته. جاءت فرنسا سنة 1907، فمصت دماءنا وأكلت أجسادنا ومزقت سراويلنا وقتلت كلابنا وباعت شرفنا، ثم رحلت...رأيت المخزن في سلوك الوالد الفاقد لكل رحمة، وتمثلت فرنسا في الإله الذي نتقرب إليه بالنذور والصلوات، فيستمتع ويثمل، بينما نحن نغرق في شقاء كبير .
يضيف سحلوت : كان والدي عبدا للسادة، وسيدا على أبنائه وزوجته، كان يخونها مع نساء أخريات، حتى موته لم تكن طبيعية، لقد تلقى ضربة قاتلة أردته طريح الفراش لسنة كاملة، فأودت بحياته في النهاية .
ذات صيف، تحرر سحلوت من معتقل الرعي، أصبح جنديا يتلقى أجرا، من قبل كان يرعى لكي يأكل، أما الآن فيعمل لكي يحصل على أجر، غير أنه كان يحتفظ بالأجر، ويعمل في منازل أسياده داخل الثكنة، وبالتالي كان يستولي على (الشياطا) البقايا من أجل إشباع نهمه وتعطشه الدفين، في حين نسي زوجته التي تركها خارج الثكنة، فكان لا يترك لها سوى النزر اليسير من المال، فقضت أيامها تأكل الخبز وتشرب الماء، وفي أحيان أخرى تخرج إلى الطبيعة من أجل البحث عن نباتات الحميضة ورني والخبيزة لطبخها وأكلها، أما مصاريف الدراسة فبقيت معلقة كالعقد التي تتدلى من شجرة الرتم. لا شيء، سحلوت رحل منذ خمس سنوات، وترك الأولاد في العراء، لا يعرف سوى كنز الأموال، لم يتمتع في شبابه ولا في طفولته ولا في شيخوخته، الشقاء هو الحبل الذي يربط بين هذه القارات، في طفولته كان السياح يتمتعون ويتنزهون، بينما هو يقود القطيع صوب التيرس تحت شمس حارقة ترسل شظايا البؤس، وفي شبابه كان يكنز المال ويتناول (الشياطا)، في حين رؤساؤه يتنزهون ويخرجون إلى الغابات والبحيرات، بينما هو يمسح الطاولات، أما في شيخوخته، فأصبح يعيش في بيت قذر، فخرجت زوجته من شرنقته، وراحت تستمتع بالحياة.
إن من ولد في عالم شقي لا يمكن إلا أن يكون شقيا، فسحلوت لم ير كرزازيا يخرج رفقة أسرته إلى الغابة من أجل التنزه في جو مفعم بالحنان والحب والتلذذ، فماذا ننتظر من سحلوت ؟؟ ننتظر أن يكون راعيا يملك سروالا ممزقا يضاجع إحدى العنزات، ويستحم بالوادي، ويتغوط قرب الدفلى، وفي المساء يلعب الكارطة قرب الحانوت، لا يخوض في السياسة، ولا يتساءل عن التنمية. همه أن يعيش قنا، أو عبدا أو جنديا، فبقيت القرية تتجرع رداء العراء .
سحلوت رجل انتهازي، لكن انتهازيته خولت له معرفة انتهازية الآخرين، فوالده لم يفكر سوى في نفسه وقضيبه، ومن ثمة يكون سحلوت نتاجا لشهوة عابرة اقتضتها الفرصة والضرورة، ووجوده في بني كرزاز ليس اختيارا، لقد تعلم الدسائس والكذب والحيل والنميمة في مجالس الكرزازيين. كان كل مساء يجلس قرب الحانوت، فيسمع زعقات الشيوخ وهم يتناولون بالنميمة والتهكم والاستهزاء شخصا معينا. كما كان يحضر إلى المسجد، فيعتلي المنبر شخص ملتحي في هيئة الله يبشر الحاضرين بالويل والعذاب، وفي وسط الجموع الحاضرة همسات تبشر بمكيدة معينة كمنع الرعي على بعض الأشخاص. في ظل هذه الأجواء عاش سحلوت ردحا من الزمن، عاش مع الكرزازيين وهم يتخابرون على بعضهم البعض إبان الاستعمار الفرنسي، وعايش تفاهتهم الآن وهم يقاومون التنمية، ففي كل انتخابات يبيعون أصواتهم في سوق الحمير مقابل مئة درهم في ظل جهل مرير يسكن عقولهم المغيبة .
خرج سحلوت من بيته الذي ساده الخراب، رمى الأموال التي قضمتها (الطوبة)، وراح يندب حظه التعيس، فاستقبلته الموت بتجهم وابتلعه التراب، فعلم أن الحياة تركها خلفه لا أمامه، فوجود الإنسان في مبدئيته، في نزهته، في انشراحه وسروره ومقاومته للشقاء والبؤس. وليس نذالته وانتهازيته وكذبه ونفاقه . هكذا مات سحلوت وكأنه لم يمت، فالذي عاش ميتا، مات قبل موته، فالموت تقاس بالحياة، وكل هزيمة للحياة تقاس بانتصارات الحياة، لكن سحلوت عاش كل مراحل حياته قنا، عبدا، جنديا، مصليا، منصتا، رعية، فماذا بقي إذن ؟؟؟ العدم يختزل كل لحظة الحياة، وهذا هو الأخطر .
-----------------

* قرية مغربية تقع في الجنوب الغربي لمدينة بنسليمان التي تتحيز جنوب العاصمة الرباط .

عبد الله عنتار / 28 يناير 2015 / أيت ملول – المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نصير شمة يحتفل باليوبيل الفضي لتأسيس بيت العود العربي في الق


.. فنانة شهيرة تتمنى خروج جنازتها من المسرح القومي




.. بايدن عن أدائه الضعيف بالمناظرة: كنت أشعر بالإرهاق من السفر


.. قضية دفع ترامب أموالا لممثلة أفلام إباحية: تأجيل الحكم حتى 1




.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر