الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس التي تحتقر السياسة

خالد شوكات

2005 / 9 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


إنني من أشد المعجبين بآداء الحكومة التونسية، خصوصا فيما يتعلق بطريقة التعامل مع المعارضين، ومع القوى الخارجية أيضا، فعندما يتوقع جميع الناس من هذه الحكومة مثلا معالجة ملفات داخلية ملحة ذات صلة بموضوع حقوق الإنسان والحريات العامة، وذلك توفيرا لأجواء مناسبة لانعقاد القمة الدولية لمجتمع المعلومات، فإنها تبادر مسرعة إلى اتيان أفعال مخالفة تماما للتوقعات، تريد من خلالها القول حتما، بأنها حكومة لا تخشى أحدا، لا في الداخل ولا في الخارج، ولا حتى خارج المنظومة الشمسية.
في لقاء جمعني قبل سنوات قليلة بزعيم سياسي تونسي بارز، يقود أحد أحزاب المعارضة المغضوب عليها، وجهت لي نصيحة ما فتئت الحكومة التونسية – والحق يقال- تؤكد بسلوكها وجاهتها، مفادها " أن أنسى قواعد التحليل السياسي التي تعلمتها في التعاطي مع الشأن التونسي، لأن نظام الحكم في بلدي السعيد بكل بساطة، لا يحب الخضوع لمثل هذه القواعد، وهو مولع دائما بتكذيب المحللين السياسيين".
ثمة قصة أيضا يصلح التعلم منها في النظر إلى الشؤون التونسية، فقد قيل أن إمرأة فرنسية عرفت بدقة نبوءاتها في معرفة حالة الطقس، فلما سئلت عن سر ذلك، أجابت بأنها تتابع نشرات الأحوال الجوية في قنوات التلفزيون، ثم لا تفعل شيئا غير قول نقيضها للناس، وكذا الحال في تقدير سلوك الحكومة التونسية، فإذا تحدثت وسائل الإعلام مثلا عن إفراج قريب عن السجناء السياسيين، فإعلم أن ما سيحدث هو خلاف ذلك، وإذا جرت ألسنة النخب والمثقفين بقرب إقدام النظام على تنفيس الأجواء السياسية، فإن الثابت هو أنه سيقع الضرب بشدة على أيدي أولئك الذين يوسوس لهم شيطانهم بأن السياسة مسألة متاحة لكل من هب ودب من الحاقدين والمغرضين، وخصوصا منهم المعارضين.
ولعل الأسابيع الأخيرة مثلت خير دليل على ما ذكر من قاعدة " اللاقاعدة"، فعلى بعد أسابيع قليلة من قمة الأمم المتحدة لمجتمع المعلومات، التي ستحتضنها العاصمة التونسية في الفترة بين 16 و18 نوفمبر القادم، اختارت الحكومة التونسية أسلوب العنف السياسي في التعامل مع ثلاث منظمات غير حكومية، ذات صلة وثيقة جدا بموضوع القمة الدولية، وهي جمعية القضاة التونسيين ونقابة الصحافيين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
وقد أثار هذا الأسلوب العنيف المتمثل في تجريد جمعية القضاة من مقرها – ولهذا المقر قصة طريفة ليس المجال لذكرها-، وفي الامتناع عن الترخيص لنقابة الصحافيين، ومنع الرابطة الحقوقية من عقد مؤتمرها، ردود فعل سلبية واسعة في الأوساط الحقوقية والإعلامية الدولية، وكتبت أهم الصحف الفرنسية – مثل لوموند ولوفيغارو- مشنعة بسلوكيات الحكومة التونسية، لكن هذه الأخيرة – ولله الحمد- لا تعبأ أبدا بردود الأفعال الحاقدة على الإنجازات التونسية، سواء أكانت داخلية أو خارجية، وما على الأمم المتحدة إلا أن تعقد قمتها صاغرة، ووفقا للشروط التونسية!
قبل هذه الأحداث، وخلال أشهر الصيف القائضة، بدد العديد من الناشطين السياسيين التونسيين وقتهم في الحديث عن المصالحة الوطنية، على غرار ما يجري في المنطقة المغاربية والعربية، وتنبأ كثيرون بقرب الاستجابة الرسمية، بل وتطوعوا إلى تعبئة الأنصار للبرهنة على مصداقية المبادرة، لكن خطاب رئيس الدولة التونسية في ذكرى تأسيس الجمهورية الموافق ل25 يوليو من كل سنة، ذكر هؤلاء مجددا بأنه لا أحد في تونس من حقه التنبؤ أو الاعتقاد أو التحليل، فالحكم يعرف مصلحة المواطنين، وهو وحده الذي يقرر ما يجب فعله ومتى، لا كمشة المشتغلين بالسياسة دون إذن رسمي.
من الأمثلة الخاصة – وهي في الواقع أقرب إلى الطرائف المرة- التي تصلح كذلك لإعطاء فكرة عن مفارقات السياسة التونسية، أن أحد معارفي قد قال لي مرة معلقا على حدث آداء الرئيس التونسي فريضة الحج قبل سنوات قليلة: "لقد ذهب الرئيس زين العابدين بن علي إلى العمرة سنة أو سنتين بعد وصوله إلى الحكم سنة 1987، فعاد منها ليضع عشرات الآلاف من أنصار حركة النهضة الإسلامية في السجن، فماذا تراه سيفعل بعد عودته من الحج؟ "، وكان قصد صاحبي – على سبيل النكتة- أن الناس قد فهموا أن العمرة ستجعل قلب الرئيس رقيقا حيال المتدينين، لكنه كذب الأفهام وسلك مسلكا آخر، فماذا عساهم ينتظرون من الحج وهو أعظم شأنا؟..
التحليل السياسي إذا، ليس الفعل الذي يرفع من شأن صاحبه في تونس، أو الموهبة التي يمكن أن يرحب بها، وقد تكون الحقيقة أقرب إلى العكس، فالتحليل السياسي عادة ما يقود ممارسيه إلى خسارة مصالحهم أو مواقعهم أو حتى حريتهم، ولعل أكثر من فهم هذا الدرس الحكومي، وسائل الإعلام التونسية، الرسمية وشبه الرسمية، التي أعفت نفسها من هذه الوظيفة، مكتفية بنشر أخبار وكالة الأنباء الرسمية الموثوقة، والنأي بنفسها عن "اللت والعجن" الفارغ الذي يفسد عقول ونفوس المواطنين.
والحق أن تونس التي تحتقر السياسة، بلد فريد من نوعه في عدم وجود محفزات على ممارسة التحليل السياسي فيه، ناهيك عن الفكر السياسي، فالأحداث السياسية تكاد تكون غير موجودة من الأساس، فلا وزير يمكن أن يستقيل، ولا وزارة يمكن أن تسقط، ولا جدل في البرلمان – بغرفتيه العظيمتين- يمكن أن يثور، أما الثرثرة التي يمارسها المعارضون التونسيون في الخارج، فليس من الوارد إيلاءها أي عناية، باعتبارها صادرة عن أحزاب غير معترف بها، في حين أن الحوار – المنتظر- لا يمكن أن يتم إلا مع الأحزاب المعترف بها قانونيا.
تونس الرسمية أيضا، لا تعبأ بما تقوله الجماعات والأطراف الحاقدة والناكرة للجميل في الخارج، فنواب مجلس المستشارين – الغرفة الجديدة في البرلمان- قد اختاروا بكل فخر إحدى الشخصيات المتهمة في الدولة التي استضافت القمة الدولية الأولى لمجتمع المعلومات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، دون أي خوف من احتجاجات خارجية أو داخلية، أو حتى دون أن يكون القصد توجيه رسالة تحد لمورث العاصمة التونسية قمة الأمم المتحدة، أو للمنظمات الحقوقية و غير الحكومية التي ستشارك في القمة.
الذين يدققون في سيرة أعضاء الحكومة التونسية، وتاريخ رجال النظام البارزين، يعلمون أكثر من غيرهم أن ثمة حساسية إزاء الذين لديهم اهتمام بالفكر السياسي أو التحليل السياسي، فقد كان المطلوب منذ بداية التسعينيات تقريبا، وبالتحديد منذ إقالة السيد الهادي البكوش آخر وزير أول من طينة سياسية، بعد بضعة أشهر من توليه لمهامه، شخصيات ليس من مواصفاتها الإكثار من الحديث في السياسة أو التفكير فيها، إنما غاية طموحها تنفيذ الأوامر بدقة متناهية و التشرف بممارسة الوظيفة السامية.
السياسة في تونس فعل دنيء لا يمارسه غير المغضوب عليهم والضالين، ولهذا فإن الحكومة في تونس قد نأت بنفسها عن السياسة والسياسيين، وإختارت بدلا عنها ممارسة "الإدارة"، والإدارة بحسب التعريف الرسمي التونسي غير السياسة، والوزراء عليهم أن يكونوا إداريين لا سياسيين، والإدارة عمل وتنفيذ لكن السياسة كلام وثرثرة وتسويف، والإداريون موظفون سامون متخصصون مخلصون في ولائهم وتنفيذهم للأوامر، أما سياسيون فمتآمرون وثرثارون وطماعون وشكاكون وخونة وعملاء.
وقد أثبتت التحقيقات التونسية الرسمية باستمرار وبما لايدع مجالا للشك، أن لكل سياسي تونسي ملف مشين لدى وزارة الداخلية، يضم في أحيان كثيرة وثائق مكتوبة ومصورة تثبت تورط صاحبه في جريمة أخلاقية، سرقة أو خيانة أو تعامل مع أطراف خارجية ضد المصالح العليا للبلاد أو شذوذ جنسي أو خيانة زوجية، ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تعمل الأجهزة المختصة في توفير الأمن والأمان، على حماية المواطنين من هذه الشريحة الفاسدة التي لا يخسر الوطن شيئا عندما يقصيها ويهمشها ويكويها.
وإذا ما نسي سياسي – قبع في السجن خمسة عشرة عاما مثلا- نفسه، وأخذ يدلي بتصريحات لوسائل الإعلام الأجنبية، ويتحدث في القضايا الوطنية، فإن الأجهزة المختصة ستقوم بواجبها في التنبيه عليه، وتذكيره بالقواعد الجديدة العظيمة التي طورتها البلاد خلال غيبته الصغرى، حتى وإن كانت هذه التصريحات غاية في الاعتدال والسلمية وإبداء الرغبة في الاندماج فيما هو مسموح ومتاح.
خلاصة القول، أن السياسة في تونس لا تتفق مع هيبة الدولة، التي هي من هيبة نظامها، وأن التحليل السياسي والفكر السياسي والحوار السياسي هي عادات قبيحة تضر بهيبة الدولة، وأن المقصود بالحوار السياسي مع الأحزاب المعترف بها قانونيا، لا يعني نسيان المقامات وحديث الند للند، إنما المعنى المطلوب منه أن لا تسير هذه الأحزاب في ركاب السياسيين البائسة، وأن تعتنق بصدق المفهوم الإداري للحكم الرشيد، وأن تلعن السياسة والسياسيين وتحتقرهم ذلك أن تونس الرسمية لا تخشى أحدا، والذين يخشون بطشها كثر، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.#








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -