الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مومس .. قط .. وشبح

فارس حميد أمانة

2015 / 2 / 2
الادب والفن


الجوع والسقوط تؤمان لأم واحدة
(1)
المومس المراهقة

" سأنتظرك هذه الليلة فأنا أشعر بالوحدة .. اياك أن تنسى "

كان هذا صوت صديقي سامي الذي اختلط بثرثرة الجنود وضجيج محركات السيارات التي كانت تقلنا الى مركز العاصمة بغداد ونحن آيبين من المعسكرات .. لكنني لم أستطع أن أجيب وأنا أقفز من باب السيارة القديمة اذ ان يد صديقي الآخر امتدت من داخلها ساحبة اياي مرة آخرى الى داخلها لينقذني من السقوط تحت عجلات سيارة مسرعة كادت أن تصدمني أثناء القفز وتهرس عظامي الرقيقة.. غطى لغط الجنود ونكاتهم السمجة وثرثرتهم مع السائق على حادث الدهس الذي كاد أن يحدث توا الا انني سرعان ما نسيت كل شيء فانصهرت مع البقية تدريجيا لأنزل في مكان أبعد بقليل ..

وصلت الفندق الذي أسكن فيه عند الساعة الثالثة بالضبط وعندما دخلت غرفتي صدمتني لأول وهلة رائحتها المقبضة الممزوجة بالدفء الرطب الكريه بعد ان كنت أتنفس هواء الشارع البارد النقي .. أبدلت ملابسي كما كنت أفعل كل يوم .. أرخيت أولا ربطة العنق الزرقاء الغامقة التي كانت تنبيء الناظر اليها بانتمائي لصنف القوة الجوية .. ثم فككت أزرار السترة السميكة التي لبستها هذا الصباح دون أن أعثر على الزر المفقود منها وأنا أفكر ان الحل لعدم تعرضي لعقوبة انضباطية هو فقدان رئس عرفاء الوحدة لعينيه أو أن تدهسه نفس السيارة التي كادت أن تدهسني قبل قليل الا ان القدر كان حليفي حيث نزلت زخات مطر قوية ألغت التجمع والتفتيش الصباحي فأخرجت لساني نكاية بالتعداد الصباحي ..وأخيرا أرخيت شريط الحذاء العسكري الضخم الملوث ببعض بقع الطين .. أبقيت السروال العريض نوعا ما ريثما أرخي عضلاتي المتعبة بالتمدد على فراشي بضع دقائق ..

تطلعت في غرفتي .. مكعب أجوف مصبوغ بدهان أبيض صقيل ذكرني بأجواء المستشفيات .. غرفة ضيقة .. ضيقة جدا .. تلفت حولي محدقا في الأشياء الكثيرة المبعثرة فازداد شعوري بضيقها .. حاولت أن أعد الأشياء المتناثرة في الغرفة بغير انتظام .. قطع معدنية صدئة لا أعرف لمن تعود .. أربعة أسرة معدنية كالحة .. في الوسط تغفو منضدة مسكينة تنوء بحمل العديد من الكتب .. روايات لنيكولاي غوغول وأخرى لتولستوي .. كتب لجان بول سارتر .. دواوين السياب ونازك الملائكة .. قصص أطفال .. علب سجائر رغم ان الجميع لا يدخن .. شفرات حلاقة جديدة وأخرى مستعملة .. نصف برتقالة مع قطعة متبقية من شطيرة باقية منذ بضعة أيام .. قمصان وسراويل مكومة على كل سرير .. بضع أزواج أحذية تطل من أفواهها جوارب مختلفة الألوان .. شراشف غير مرتبة تدلى بعضا معانقا الأرضية المتسخ بلاطها .. سأعد الأشياء جميعا .. واحد .. اثنان .. سبعة .. عشرة .. ثلاثون .. واحد وستون .. توقفت بعد اقتناعي ان الفكرة لا تعدوا كونها سخافة عابرة .. ومملة .

بعد نصف ساعة كان باب الفندق الحديدي يلفضني ككل ظهيرة الى الشارع قافزا عبر بركة طينية فتنفست هواء الشارع البارد بعمق شاعرا ببعض النشاط الممزوج بارتياح خفي ثم عبرت الزقاقين المتعامدين ليتلقفني الشارع العريض الذي أفضى الى تلك الساحة المدورة الكبيرة التي يرقد تحتها نفق التحرير .. دلفت جوف النفق من أحد أفواهه المفتوحة ونزلت عبر السلم المغطى بالمطاط الأسود المتشقق واصلا لقطار المحلات التي نامت في الجوف الدافيء .. التفت الى السلم الأبله وقلت له :
" يبدوا لي انك تحب النوم كثيرا .. ولن تتحرك الى الأبد " ..

التقت عيناي بعيني أحد المارة الذي سألني :

" هل تتحدث الي سيدي ؟ " قالها باندهاش شديد ..

لم أجبه .. عملت وكأنني أتفحص زوج حذاء معروض خلف واجهة زجاجية لأحد المحلات ثم بعدها تحركت سائرا متسلقا السلم الكهربائي الميت مرة أخرى ومارقا بين السيارات الى الجهة الأخرى من الشارع المكتظ .. سرت ببطء هذه المرة باحثا عن تلك الصبية المتسولة فوجدتها تتسول في نفس المكان المعتاد .. سرت وراءها والنشوة الوحشية تملأ خلايا جسدي المتوفز مركزا بصري على تكورات الجسد البدوي الملتز تحت الثوب الأصفر القذر .. خطوة .. خطوتان .. ثلاثة .. امتدت يدي الى قاع جيبي باحثة عن قطع النقود المعدنية وعيناي تأكلان من الجسد المتكسر عند كل خطوة .. تعثرت قدمي ببلاطة ناتئة فتنبهت حينها الى ان القطع المعدنية في يدي الأخرى منذ البدء ..

التفتت الصبية المراهقة وهي تمد يدها لي متصنعة وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة أسقطت قطعة نقدية على راحة يدها وعيناي لا تزالان تسبحان في خضرة عينيها العميقتين .. فجأة استدرت بخطى سريعة صاعدا الرصيف وشعور خفي بالاحباط يتملكني .. انه اليوم الثاني وهاهي القطعة النقدية الرابعة أسقطها في راحة يدها ثم أفر من السقوط في بئر العينين الخضراوين فاشلا في اختزان تفاصيل الشفتين الناضحتين كحبتي كرز والغمازة الموجعة للمهجة .. تناهت الى أذني أصوات بعض الشباب والمراهقين وهم يلاحقونها بكلماتهم الوقحة .. ابتسمت وأنا أتذكر منظر العجوز الوقح ذي الأسنان الساقطة والجلد المنتفخ حول العينين من أثر الكحول الرديء وهو يفتح لها باب السيارة غامزا اياها بعين كليلة سقطت في حفرة عظمية غطاها الجلد المشدود .. ثم تذكرت كيف أدارت له ظهرها اللحيم بحركة مسرحية مبتذلة رافضة عرضه بصعود سيارته وهو يمد لها يده بدينار ورقي أزرق .. تابعت الصبية بعد ذلك تسولها ملاحقة المارة .. كان ذلك موقفا أشعرني البارحة بالانتصار .. ضحكت هذه اللحظة وأنا أتذكر ذلك .. ضحكت بصوت عال .. نظر الي شخص ما بريبة .. تنهدت .. ثم تابعت سيري .

" لن يتردد العجوز الوقح عن مساومتها على فتنة جسدها مرة أخرى ان التقاها رغم الاهانة التي لحقت به في الأمس " . هكذا حدثت نفسي وبثقة كبيرة ..

" ربما كنت أشتهيها أكثر من هذا العجوز الوقح .. لا أعرف كيف.. ربما بطريقة مختلفة آخرى .. لكن ليس بهذه الطريقة بالتأكيد " .

هكذا أضفت محدثا نفسي .. يبدوا اننا قادرون على فلسفة المعطيات بالطريقة التي نرغب بها .. التفت خلفي ناظرا اليها بشغف وحشي .. كانت المراهقة ذات الجسد الشيطاني المثير تطارد أحد المارة الذي أبى أن يجود عليها بفلس واحد رغم الحاحها الشديد عليه .. لم أتفاجأ وأنا أرى سيارة تسير بمحاذاتها ببطء فتوقفت برهة وكأنني أشاهد فصلا مسرحيا سبق وان شاهدته .. كان في السيارة نفس العجوز الوقح ومعه شاب فتح لها باب السيارة ملوحا بقطعة ورقية نقدية حمراء هذه المرة .. نظراتي لا تفارق الجسد الشهي ..
" ستبصق عليهما .. هذا ما ستفعله .. سأصفق لها بدون تردد .. لن أخاف أحدا وأنا أبدي رأيي برد فعلها " هكذا حدثت نفسي .. ترددت المراهقة قليلا .. ترددت لحظة واحدة فقط وعيناها مسمرتان على ورقة الخمسة دنانير .. ثم .. فجأة .. خطفت الورقة النقدية لتدسها بين نهديها المتفجرين صاعدة من الباب الخلفي الذي فتحته .. ماتت ابتسامة بلهاء صفراء على شفتي المتيبستين .. انطلق صفير من أفواه بعض الشباب المتوقفين على الرصيف الآخر مختلطا بكلمات بذيئة .. شعرت برغبة عنيفة بالبكاء وشعور بالتوتر الممزوج بالحزن الدفين وبالاحباط الشديد يتسلق أوردتي صاعدا الى شفتي المرتجفتين وأنا أتخيل العجوز الوقح وهو يزخ أمطار شهوته الحارقة في جوفها الدافيء .. شعرت انني على أعتاب حافة التقيؤ .. فتجالدت .

أسرعت أضرب بقدمي نحو الشارع الموازي .. " الأمر لا يهمني .. لا بد وأن يكون الأمر لا يهمني " قلت ذلك لنفسي .. لكن لماذا سيطرت علي هذه المشاعر المتلاحقة والحادة ؟ .. كان لا مناص لي الا بترك المسرح والهرب نحو ما لا أعرفه .. أطلقت آهة في الفراغ .. ثم تابعت خطوي ببطء .. وبحزن أيضا .

(2)
القط

يتعرج الشارع الطويل بمحاذاة النهر الكبير وعلى الشاطيء تتناثر الأشجار التي لم تزرع الا قبل بضعة أيام بينما تناثرت أشجار آخرى قديمة وهي تشق الفراغ بعنفوان وتسامق .. الشارع لا يفارق النهر فعندما ينعطف أول مرة بعد الجسر نحو اليمين ينحرف الشارع معه محتضنا اياه بكل ود ويظل ملاصقا له عند كل انعطاف قادم .. وصلت أول انحراف فتطلعت نحو النهر الهاديء .. شعرت كأنني أراه لأول مرة .. حتى اني دهشت لمرآه .. توقفت .. رمقت ضفته الرملية ورغبة مجنونة باحتضانه تتملكني .. الا ان تذكري لعدم مقدرتي على السباحة جعلتني أرجع الى وعيي وأتراجع بسرعة ..

كان هناك الكثير من الوجوه التي تمر أمامي ان جالسة أو متحركة .. فهناك طلبة يقرأون فروضهم المدرسية وآخرون يدعون القراءة .. عجائز وشبان يستمتعون بوقت الغروب .. والكثير من الجنود المتسكعين فرادى أو على شكل مجموعات صغيرة وهم يرشقون الفتيات بنظراتهم الشبقة ويسترقون النظر خلسة لمؤخراتهن بحسرة ممزوجة بانتشاء لذيذ .. خمنت ان أغلبهم تسلل من معسكراتهم من فتحات الأسيجة المتهالكة ليستقلوا الشاحنات العابرة من خلال طرق معسكرات الرشيد الخالية أو بعد دفع رشوة لا تتجاوز الدرهم الى الحراس في أبواب النظام .

كان هناك أيضا شبان صغر يمتطون حيواناتهم الحديدية المزركشة بالأشرطة الملونة وأصوات أبواقهم المختلطة بالصفير السمج تسبقهم .. كان أغلبهم يعاكس ويغازل الفتيات الصغيرات اللائي يتصنعن الغضب أو الجد الذي لا يخلوا من غبطة دفينة وقد تلونت وجوه بعضهن بمساحيق الزينة الرخيصة بينما تلونت وجوه الآخريات بألوان يصنعها الحياء الفطري .

لاح لي من بعيد شخص بزيه الكاكي وهو يقاتل من أجل الاقتراب من امرأة تسير بمفردها .. كان الاثنان يسيران باتجاه معاكس لاتجاه خطواتي .. أبطأ من خطواته وعندما أفلح في اللحاق بها ألقى بوجهها كلمة نابية .. ثم هرب بسرعة .. لم يبد على المرأة أي رد فعل .. تابعت خطوها برشاقة .

التقيت بعدها ببعض الزملاء القدامى الذن كنت أرتبط معهم بعلاقات طيبة وسرعان ما دخلنا نقاشا فلسفيا انقلب فجأة الى أحاديث غير مترابطة .. ربما كان تشتت نظراتنا الصقرية للأجساد الفتية التي تستعرض أمامنا بسخاء لذيذ مستفز سبب رئيس في تشتت حديثنا ثم سكوتنا المطبق حيث لم يبق منا ما يدل على الحياة الا حركة الأرجل والنظرات الزائغة في كل اتجاه .

" هذا موقع رائع يا سيدي لصورة رائعة أنت أروع ما فيها " ..

قال لي ذلك أحد المصورين الفوتغرافيين وهو يهرول أمامي بحركة مسرحية محاولا اقناعي بالتقاط صورة أوثق فيها هذه اللحظة من العمر " على حد تعبيره " .

" كم تجيد النفاق أيها المصور الشاب .. لا بد وانك تصلح أكثر لاغواء النساء " ..

قلت له ذلك وأنا أتملص منه ساحبا معي أصدقائي بعيدا عنه .. رجع المصور قرب التمثال الذي كنت أراه كل مساء بلحيته متوسطة الطول ونظراته الزائغة كنظرات الحشاشين وبيده كأس الخمر الممتلئة بزخات مطر البارحة وشهرزاد لا تزال تحكي له وتراوغه .. وهناك على غير مبعدة عشاق يحتلون المقاعد الطويلة وهم يجلسون أزواجا يغازل بعضهم بعضا بدون حرج .. ابتسمت وأنا أتجاوز بخطوي عاشقين يميلان برأسيهما على بعض والشغف ينز من أعينهم .. آه .. تذكرت حبيبتي .. فتنهدت .. تابعت السير مع صحبي وهم يتحدثون بخفوت وكأنهم لا يريدون ايقاظ العاشقين من غفوتهما .

" حسنا .. سأراكم غدا في نفس المكان " ..

قلت ذلك لأصحابي وأنا أرفع يدي ملوحا للجمع المبتعد .. أحسست ببعض التعب فكان لا بد من البحث عن مقعد فارغ .. الجسد الشهواني بالثوب الأصفر القذر يهاجم عقلي ووجداني في تلك اللحظة المجردة .. كانت الفتاة فاتنة جدا .. وماذا بعد ؟ لماذا احتل طيفها زاوية من زوايا عقلي ؟ لم يكن غريبا أن تكون هذه الفتاة المراهقة فاتنة .. لكن ما لا أستطيع استيعابه أن تجمع تلك الفتاة بين الفتنة والسقوط ؟

" الا تجد نفسك مملا ومثيرا للشفقة ؟ " ..

صرخت الفتاة بذلك في وجهي باشمئزاز وبقسوة .. تلفت نحو مصدر الصوت .. لم أجد أحدا .. كان لا بد لي من الرد على تساؤلها المهاجم .. لا بد من ذلك ..
" أريد أن تكوني غير ذلك " .. صحت بها وبقسوة أيضا كما قست علي بصوتها ..

" لا بد وأن تعودي للطريق .. ورغم أنفك أيتها العاهرة الصغيرة " .. أضفت ذلك بصوت أقوى من السابق .. لم يسمع صراخي أحد .. لقد انفجرت الكلمات داخلي فحسب ..

" طريقك أنت ؟ .. أيها الغبي " .. ردت علي بتهكم ..

" سيحطمك العجوز الوقح.. سيعتصرك كليمونة طرية .. وستجدين نفسك يوما مقهورة بشدة " .. أجبتها بصوت مختنق وأنا أكاد أنشج .. ابتسمت المراهقة بخبث .. وابتعدت.

بمواجهة المقعد الذي جلست عليه كان هناك مقعد خال ما لبث ان امتلأ بجلوس ثلاثة أشخاص أخرجو من أكياسهم البلاستيكية شطائر من همبركر " أبو يونان " التي أميزها من رائحتها الخاصة ثم ابتدأ الثلاثة بالأكل والحديث وشرب الجعة من قنان زجاجية ابتاعوها من محل مجاور .. كان أمامي الشارع العامر بالسيارات المارقة .. وخلفي النهر يشخب بهدوء ..

تنفست بعمق .. أحب الهواء البارد ..

بعد بضع دقائق غادر الثلاثة دون أن أتمكن من استجلاء ملامحهم اذ ان الظلام ابتدأ يهيمن على بقايا أنوار الغسق المنسحبة من على أعالي الأشجار والبنايات بهدوء وانسلال أفعى .. أخرجت طعامي من كيس ورقي صغير ثم ابتدأت بأكل الشطيرة باستمتاع .. فجأة تخيلت ان شخصا يتحرك خلفي .. كان الظلام يمنعني من تبيان من يتحرك خلفي .. الا ان حفيف أوراق النباتات الصغيرة واحتكاكها بجسد ما أكدت لي ان شيئا يتحرك خلفي .. تنبهت كل حواسي منتظرة ومتوفزة لكل نأمة .

أصبحت الحركة حقيقية وواضحة فالتفت الى الوراء بسرعة وكأنني أتفادى خطرا .. ظهر من بين النباتات رأس قط كبير .. قط ضخم .. بعينين خضراوين يضيئان كمصباحين .. تذكرت قطتي العجوز مشمشة التي كانت أجمل من هذا القط ذي الرأس الضخم وأصغر منه .. لا بد وان تكون قطتي الأجمل لأنني كنت أحبها كثيرا والأجمل هو من نحبه .. أقعى القط بجانب شجيرة ورد صغيرة ثم رفع رأسه الي ..

ابتسمت للقط .. لم تتغير ملامحه .. كان يريد شيئا آخر غير ابتسامتي .. شيئا لذيذا ذا نكهة طيبة .. ظل القط ينظر الى نصف الشطيرة المتبقي في يدي ومنخراه مفتوحان على سعتهما تتلقفان الرائحة عبر الهواء الداخل اليهما .. أردت أن أناديه لكنني لم أعرف ما الاسم الذي سأطلقه عليه ..
" حسنا أيها القط .. سأسميك هائل .. فهذه التسمية تتناسب مع رأسك الضخم " ..

ناديته : " هائل .. هائل " ..الا انه ابتعد خطوة للوراء ..

" أعرف ان التسمية لا تعجبك وأعرف انها لا تهمك .. ولا تغيضك أيضا .. أنت جائع جدا .. وشطيرتي تستحوذ على كل اهتمامك .. وهي الشيء الوحيد الذي يدور بخلدك هذه اللحظة " ..
مددت له يدي بالمتبقي من الشطيرة فقفزت الى ذاكرتي صورة يدي وهي تمتد بقطعة النقود للمتسولة .. هززت رأسي وكأنني أسقط الصورة من عقلي لتتبقى أمام عيني صورة هائل الذي أبى الاستجابة بل اكتفى برفع ذيله في الهواء مرتين ثم انزله بين قائمتيه الخلفيتين ..

" لقد قبلت المتسولة المراهقة قطعة النقود التي أسقطتها في راحة يدها فلماذا لا تقبل مني بقايا شطيرتي .. هيا أيها القط " .. هكذا حدثته وأنا أمد له يدي مرة آخرى بالشطيرة ..

" هائل .. انني أقدم لك الطعام دون مقابل .. ستتأكد من ذلك " .. هذا ما اضفته محدثا القط .. ألم يألفني بعد ؟ هل هناك علاقة ما بين الجوع والاطمئنان لدى القطط ؟ لماذا لا أشعر بالخوف وأنا أحدق بعيني هائل كما كنت أشعر وأنا أواجه المراهقة ؟
بعد لحظة اقترب القط مني بحذر وهو يتشمم الهواء بمنخريه .. اقترب بفمه من يدي الممتدة اليه بالشطيرة .. تركتها تسقط فأسرع لالتقاطها وهو يهر بصوت من بطنه وكأنه يؤكد لي اطمئنانه ..
" أتعرف انك تشبه تلك المراهقة .. انها تمنح العجوز لحظات نشوة ولذة مقابل الدنانير الخمسة التي اختطفتها منه .. وانت تمنحني الهدوء والاطمئنان مقابل نصف الشطيرة اللذيذ " ..

نظر القط الي بعينيه الخضراوين فقد بدا سعيدا بعد عشائه الدسم .. ازداد الهواء الشباطي برودة مع هيمنة ستار الليل الأسود .. كان ضوء المصابيح الشاحب يحاول جاهدا أن يشق الظلمة وسط الضباب المتصاعد من النهر وأنا أتحرك في مكاني محاولا استجلاب الدفء لجسدي وسعيدا بالصداقة الجديدة بيني وبين هائل الذي ما لبث ان وضع رأسه بين يدي ليؤكد لي رضاه .. لاعبت فروة رأسه فلامست يداي شعر رأسه الناعم فأصدر من بطنه هريرا خافتا .. عندها تسللت الى وجداني مشاعر رائعة أغرقتني في الماضي البعيد .. حيث الطفولة النقية .. والفرح الجارف ..

رفع هائل رأسه الي فقلت له : " أحبك " .. فحك مؤخرة أذنه براحة يدي مرتين فأضفت : " وأحترمك أيضا .. صدقني " ..

دار حول مقعدي .. ثم ابتعد .

(3)
الشبح
سقطت نظراتي على المقعد الذي كان قبل قليل مشغولا بالرجال الثلاثة .. لاح لي شبح شخص يقترب منه خلال الضوء القليل المتبقي والذي كان ينبعث من مصباح كهربائي أضيء للتو من أعلى عمود صديء .. لم يجلس الشخص الشبح على المقعد بل على الأرض المفروشة بالحشيش الندي .. كان ظهره بمواجهتي تماما ولم أعرف ما الذي كان يفعله بالضبط .. شعرت باحتكاك بنطالي بفراء القط الذي عاد للتو فشققت له الكيس الورقي الخالي الا من بقايا قطرات زيت من الشطيرة فأخذ يلعقها ..

نظرت مرة أخرى الى الشبح المقعي قبالتي فرأيته يسرع بالقيام من مكانه ثم اقترب من المقعد الخالي أكثر لكنه لم يجلس عليه بل أقعى ثانية قبالته ويداه تتحركان في الأرض وظهره لا زال بمواجهة عيني التين كانتا تحصيان عليه كل حركة في محاولة لفهم ما يجهد في فعله .. ولاستجلاء تقاطيع وجهه الضائع والمختبيء في الظلمة ..

أيكون الشبح ثملا ؟ أيكون متشردا جائعا ؟

عاد جسد المراهقة البدوي التقاطيع يتسلل الى وجداني مرة آخرى .. تكونت أمامي بابتسامتها البلهاء وبيدها الممتدة الى مقبض سيارة العجوز المتهالك .. وبشفتيها الملتزتين ككرزتين حمراوين .. وبنهديها يفور تحتهما شغف شيطاني مثير للجنون .. أحسست بصوتها الصارخ في أذني كمطارق تهوي على جمجمتي .. شعرت بالاعياء الشديد .. فأسندت رأسي الى ظهر المقعد الخشبي بضع لحظات حتى عاد لجسدي توازن معقول ..

قام الشبح من قعوده بعد فترة وجيزة خيل الي انه يرتعش من البرد اذ ان نسمة هواء مجلدة هبت للتو فشعرت بها فوق جبيني .. تسمرت نظراتي فوق ظهره .. ما الذي سيفعله الآن ؟ ابتعد عن المقعد بخطوات سريعة ثم قفل راجعا باتجاهه مارا بي ومتجاوزا اياي ببضع خطوات .. بدأت أحسب عدد المرات التي اقترب فيها الشبح من المقعد ثم غادره مبتعدا .. كانت ست مرات بالضبط .. ما الذي يريده الشبح ؟

مددت يدي في جيبي باحثا عن قطعة العلكة الصغيرة فوجدتها تستقر في قاعه .. أخرجتها ثم فتحت العلبة مخرجا منها قطعة علكة ملفوفة بورقة خضراء فاستخرجتها من الورقة ودسستها في فمي .. توقفت عن المضغ وعن الحركة دفعة واحدة .. مرت لحظة واحدة ثقيلة .. ثم أخرى مثلها .. خطر في عقلي خاطر جنوني .. وفجأة قمت بسرعة شديدة مهاجما ذلك الغموض القابع أمامي كتلة مستفزة لأكون كتلة سوداء مضادة تطل عليه وهو بارك عند قاعدة المقعد مفاجئا اياه فأجفل من الهجوم المباغت الذي اقتحم عليه خلوته واستغراقه ..

على الحشيش تناثرت ثلاثة أكياس ورقية برز من أحدها نتوء لعلبة لبن بلاستيكية صغيرة وفارغة .. من كيس آخر برزت بقايا الشطائر للأشخاص الثلاثة الذين غادروا قبل قليل .. كانت يده متوقفة عن الحركة عند منتصف الطريق الى علبة اللبن الفارغة في محاولة يائسة لاحتلاب آخر بقاياها .. أما يده الآخرى فقد تسمرت داخل فمه الفاغر والمستعد لابتلاع اللقمة .. وعلى شفتيه القذرتين تناثرت آثار اللبن الأبيض المختلط بقطع صغيرة من الخبز ..

ماتت نظرتي فوق وجهه المتحجر وعينيه البارزتين الى الأمام في جحوظ مخيف .. امتلأت عيناه بنظرة يملؤها الحقد .. والغضب .. واليأس .. توقفت نظراتنا لبعضنا لحظات .. توقف الزمن خلال ذلك .. مددت له يدي المتشنجة بقطعة علكة وقلت بهمس مخنوق : " خذ " .

لم يمد لي يده .. كان كل شيء في وجهه ميتا .. منطفئا .. امتلأ عقلي بصور مجنونة .. متسولة مراهقة تتعرى .. عجوز قميء ينتظر لحظة الشغف الجنوني اللذيذ .. قط ضخم الرأس يلعق بقايا زيت من كيس ورقي .. شبح ميت ينظر الي نظرة متحجرة .. ووجوه آخرى كثيرة .. وجوه لا أعرفها ترفع مطارق تهوي بها على رأسي المنتفخ .. أحسست اللحظة بأني ضعيف .. ضعيف جدا .. وعلى حافة الانهيار .

على حين غرة .. انتفض الشبح عائدا من موته وامتدت يداه بقوة رهيبة وغضب عارم لتدفعاني فهويت الى الخلف متألما ومتفاجئا من السقطة .. أما الرجل الشبح فقد ركض بسرعة عابرا فوق جسدي الساقط على الأرض بعد ان داست احدى رجليه في خاصرتي فأحسست بثقل جسده يسحق أحشائي مسببا ألما لا يطاق .. أقعيت مكاني كحيوان جريح ثم تحاملت فوقفت منتصبا .. انتابتني اللحظة موجة غضب معاكس عارمة .. جارفة ..

" انك كلب من تلك الكلاب التي تسكن هذا المبغى الكبير " ..

صرخت وراءه بعنف .. ثم سقطت متهالكا على المقعد .. ساحقا علبة اللبن الفارغة ..

بغداد .. 1979








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-