الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لهيب ما قبل 11/9

صبحي حديدي

2005 / 9 / 13
الادب والفن


في افتتاحيتها الرئيسية ليوم أمس 11/9، ضمن تعليق يستعيد الذكرى الرابعة لهذا اليوم المشهود ولكن بالمقارنة مع يوم آخر مشهود هو 29/8 حين اجتاح إعصار كاترينا البرّ الأمريكي، قالت صحيفة "لوس أنجليس تايمز" إنّ التاريخ الأوّل برهن كم أنّ العالم تغيّر، والتاريخ الثاني برهن كم أنه لم يتغيّر!
والحال أن أفضل، وبالتالي أعمق، التحليلات التي تناولت هزّة 11/9 كانت تلك التي تلتمس للحدث سياقات مقارنة ذات أبعاد أمريكية أعرض من تلك التي تكتفي بالتوصيف السطحي للإرهاب والتأثيم التقليدي للإرهابيين. وما تقوله اليومية الأمريكية الرصينة، وما يقوله أيضاً العشرات من أبرز ضمائر أمريكا، ينتهي إلى هذه الخلاصة التي تأخذ صيغة سؤال بسيط: هل بدأت هزّة 11/9 من فراغ تاريخي أشبه بنقطة الصفر، أم هي استئناف لمسارات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية سابقة، ما تزال نشطة على هذا النحو أو ذاك، حيّة متحركة وكفيلة بإنتاج وإعادة أنتاج مفاعيلها؟
مايك دافيز أحد هؤلاء الذين اختاروا البحث عن جذور ثقافية، أو ربما إبداعية وتخييلية، لما جرى يوم 11/9/2001، فعاد القهقرى إلى تواريخ مشهودة في القرن العشرين (الذي يعتبر العديد من الكتّاب الأمريكيين أنه كان "قرن أمريكا" بامتياز)، بينها سنوات 1908، 1929، 1948. وفي مقالة ممتازة بعنوان "لهيب نيويورك"، نشرتها مجلة New Left Review أواخر العام 2001، بحث دافيز عن ظلال 11/9 المعاصرة عند الروائي البريطاني هـ. ج. ولز (1866 ـ 1946)، أحد أبرز روّاد قصص الخيال العلمي؛ وعند الشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا (1898 ـ 1936)، وتحديداً في مجموعة قصائد "شاعر في نيويورك"؛ وعند سيد قطب (1906 ـ 1966)، الكاتب والناقد والمنظّر الإسلامي المصري.
ففي سنة 1908 نشر ولز روايته "الحرب في الفضاء"، التي تتخيّل نشوب حرب كبري بين قوى وإمبراطوريات غربية وآسيوية، تنطوي كحال معظم روايت ولز، على نبوءات مدهشة حول الكثير من الوقائع والتطوّرات والاختراعات التي ستتجسد في ما سيلي من سنوات وعقود. وفي إحدى هذه الوقائع تصوير مذهل لحريق هائل تشهده مدينة نيويورك، يقضي على منطقة مانهاتن السفلى ويلتهم "وول ستريت" ويخلّف كنيسة "ترينيتي" الشهيرة كتلة من اللهيب والدخان. ما العبرة في لجوء دافيز إلى اقتباس رواية ولز هذه؟ إنها غطرسة النيووركيين، ويقينهم الراسخ أنّ نيويورك حصينة منيعة بمنأى عن كلّ أذى، ومستثناة من كلّ جانب كارثيّ في التاريخ. وهنا الصورة كما يرسمها ولز: "طيلة أجيال لم تلقِ نيويورك بالاً للحرب، ما عدا أنها تحدث في البعيد، وأنها تؤثّر على الأسعار وتزوّد الصحف بعناوين وصُوَر مثيرة. والنيويوركيون شعروا أنّ الحرب في أرضهم مسألة مستحيلة... لقد رأوا الحرب تماماً كما رأوا التاريخ، من خلال غبش قزحي، منقّى الروائح، معطّر بالفعل، وفظائعه الجوهرية قد طُمست كلّها على نحو أنيق. هتفوا للعَلَم من باب العادة والتقليد، واحتقروا الأمم الأخرى...".
وفي 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1929 شهدت نيويورك اليوم الذي سيدخل تاريخها باسم «الخميس الأسود»، حين انهارت بورصة "وول ستريت" لتدشّن الركود الشهير الذي عرفته أمريكا. وفي ذلك اليوم بالذات كان لوركا يذرع شوارع "وول ستريت" ويحملق مندهشاً في مشهد المستثمرين المفلسين وهم يقذفون بأنفسهم من نوافذ الأبنية العالية، فكتب يقول: «سيّارات الإسعاف كانت تجمع المنتحرين ذوي الأيدي المرصعة بالخواتم»؛ وفي غمرة «صمت المال الذي لا يرحم» كان الشاعر الأندلسي قد «أحسّ برعشة الموت الحقيقي، الموت بلا أمل، الموت الذي ليس سوى التعفّن»؛ بات من السهل عليه، عندئذ، أن يتصوّر ويصوّر تدمير مانهاتن السفلى عن طريق «أعاصير الذهب» و«اضطرام النوافذ»؛ وهذا، كما سيعقب دافيز، "حدس غجري، ربما، بالسحابة السوداء التي ابتلعت نيويورك في 11/9".
وذات يوم من عام 1948 كان الشاعر المصري سيّد قطب، الذي أوفدته الحكومة المصرية لدراسة طرائق التعليم في الولايات المتحدة، يتجوّل في نيويورك، وفي الشارع 24 تحديداً. كان آنذاك معجباً بالحداثة الليبرالية، لولا أنّ أمريكا هاري ترومان أثارت في نفسه الإشمئزاز، فانتهى إلى إرسال بطاقة بريد إلى أهله، كتب فيها ما معناه «لو أصبح العالم على مثال أمريكا، فهذه لا ريب كارثة للإنسانية جمعاء». ولقد مرّ الرجل بطَوْر من التحوّل الديني العميق، وعاد إلى القاهرة بعد سنتين وهو عضو متحمّس في تنظيم "الإخوان المسلمين"، وسرعان ما اعتُقل وقضى 11 سنة في السجن، ثمّ أُعدم شنقاً بتهمة ملفقة هي التآمر على قلب نظام عبد الناصر.
ويسأل دافيز عن الأسباب العميقة التي جعلت قطب ينقلب عن الليبرالية، ليصبح معروفاً على نطاق العالم في صورة الفيلسوف الأبرز للإسلام الراديكالي، إذا لم يكن الأب الفكري لأسامة بن لادن؟ ألا يبدو ردّ فعله على المدينة شبيهاً بما أحسّ به لوركا قبل عشرين عاماً، حول المال والذهب والعفونة؟ ألا تشي كتاباته عن تلك المرحلة بنفور شديد من التمميز العنصري السائد في أمريكا تلك الحقبة، خصوصاً عند رجل مصري داكن البشرة قادم من أعالي مصر؟
وبين 1908 و2001، أو ربما بين 11/9 و29/8، تغيّرت أمريكا لا ريب. ولكن ما الذي تغيّر؟ ما الذي لم يتغيّر؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي