الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قيطان الحذاء المفقود

صباح راهي العبود

2015 / 2 / 4
الادب والفن


يتحدث بعض علماء علم النفس عن موضوع اللذة بمعناه الواسع ويصفونها على إنها الدافع الذي يقود الإنسان لسلوك معين ,فهي المحرك الأساس للسلوك سواء أكان بدافع داخلي أم بحافز خارجي. وهي تعني الشعورالذاتي بالرضا والإسترخاء والسعادة الذي ينجم عن الحالات التي تساعد على ذلك. والإنسان في كل أعماله وتصرفاته يسعى لنيل اللذة وبمختلف الظروف. وعلى العكس من هذا فانه يتجنب كل ما يوقعه من ألم . فاللذة والألم هما اللذان يقرران نوع سلوك الإنسان على وفق ما يتوقعه من نتائج ,وبناءاً على هذا المبدأ فإن العقل الباطن يعمل على كبت الذكريات التي تثير الحزن والألم ما عدا ما أفلت منها ونجى من مصيدة النسيان من خلال عبور متاهات العمر وهو ما تبقى من ذاكرتنا التي أتعبتها السنون ولازالت تخفي بين طياتها صور ضبابية لإشخاص أثروا فينا ولأحداث مثيرة لا يمكن أن تُنسى على الرغم من غيابها الطويل عن ذاكرتنا , فهي باقية ترافقنا حتى الرمق الأخير.
ولعل من أهم ما مر بنا من ذكريات تحتفظ بها الذاكرة المتعبة هي سنوات الدراسة وبالأخص خلال المرحلة الإبتدائية ,فمن منا لا يذكر الإصطفاف الصباحي ومنذ اليوم الأول للدوام الرسمي إذ كنا نبكر بالحضور الى المدرسة لنتمتع بفرصة المرح والفرح قبيل فعالية الإصطفاف التي تعلمنا من خلالها الإنضباط والنظام والإنتظام وإحترام الوقت والموعد وإدامة نظافة الجسد وتقليم الأظافر وقص شعرالرأس ونظافة ما نرتديه من ملابس حتى وإن كانت رثة ,ويرافق كل هذا حملة التفتيش الإسبوعية في يوم السبت. ومن خلال التوجيهات هذه وطقوس رفع العلم يوم الخميس ,وترديد الأناشيد الوطنية والشعر وممارسة الخطابة يتم غرس قيم حب الوطن والإلتصاق بتربته حد التجذر. وكنا ونحن صغاراً نرتع ونلهو ونلعب راكضين في أروقة المدرسة وممراتها وساحتها الواسعة فنقضي فيها وقتاً ممتعاً لاسيما عندما نقف مشجعين مصفقين لفريق الممدرسة الرياضي وهو يمارس لعبة كرة الطائرة وكرة السلة,وكل هذه الممارسات تجعلنا أكثرإلتصاقاً بمدرستنا ونعدها بيتنا الكبير الذي ننتمي إليه جميعاً ,ونقضي فيه جل وقتنا بدوام صباحي (أربعة دروس) يتبعه دوام بعد الظهر(درسان) .
يُعد يوم السبت من أكثر الأيام تميزاً لما يجري فيه من فعاليات ونشاطات في أثناء الإصطفاف من قراءة أناشيد وطنية وقراءة شعر وممارسة الخطابة وتشجيع للمتميزين . ومن أجمل تلك الفعاليات بالنسبة لنا نحن الطلاب هي تلك التي يؤديها زميلنا وصديقنا المحبوب (حمودي الدبل) ,لقب الدبل أطلقناه عليه لضخامة جسمه. وكانت للصدفة دورها في ظهورهذه الفعالية لتصبح لازمة تتكرر كل يوم سبت قبيل الإنتهاء من فترة الإصطفاف , فهو يحكي قصة سرقة قيطان حذاءه البالي(قندرته) الذي أكل الدهر عليه وشرب و تميز بثقل وزنه وبحجمه الكبير الذي يتسع لإحتواء قدميه ويزيد قليلاً مما سبب بعض المعاناة لحمودي في أثناء المشي والتنقل إذ كانت قدماه تفلتان من الحذاء ويخرج نصفها الخلفي منه كلما هم بالحركة ,وكان يحرص على شد القيطان بقوة تلافياً لذلك, ثم يعود ليضرب الأرض بحذائه بعنف باعثة صخباً في المكان. وعادة ما كان ينحني بجذعه الى أمام في أثناء المشي مع لف ذراعيه الى الخلف وشبك أصابع كفيه أسفل الظهر.
إزدادت معاناة حمودي في أثناء المشي بعدم إختفاء القيطان الذي يشد الحذاء عندما تركه في الصف ليتسنى له اللعب في درس الرياضة ,فازدادت فرصة هروب الحذاء من قدمه في كل خطوة يخطوها, وتغيَرالإيقاع المرافق لحركته وغدا أكثر صخباً وإزعاجاً.ولقد ذُهلنا جميعاً عندما وجه حمودي إتهامه لصديقه وزميله المقرب الى قلبه (يحيى) بسرقة القيطان. وعلى الرغم من أن يحيى أقسم له بأغلظ الإيمان بأنه لم يفعل ذلك وإنه بريء من هذه التهمة لكن ذلك لم يغيرمن قناعة حمودي وأصر على موقفه ,ولم يكتفِ عند هذا الحد بل أعلن إتهامه ليحيى أمام الطلاب والمعلمين في أثناء الإصطفاف الصباحي في صبيحة السبت الذي تلا الحادث (الجلل) بعد ما طلب منه الأستاذ حسين التقدم الى وسط ساحة التجمع ليؤدي شعراً ,تقدم حمودي أمام الطابور يجر حذاءه بصعوبة ويضرب بها الأرض بعشوائية وإرتباك ثم وقف منحنياً في منتصف الساحة ورفع يده اليسرى بتحية عسكرية وبطريقة أثارة ضحك الجميع ثم أنشد :-
قندرتي ... قندرتي قيطانها عند يحيى
وكان يشير بيده اليمنى باتجاه يحيى الذي يقف بالطابور مع زملائه. وبعد إنتهاء حمودي من نشيده كرر التحية مع ضرب الأرض بحذائه وعاد أدراجه مزفوفاً بقهقهات المعلين والطلاب. أما يحيى فقد أظهر إمتعاضاً بدا واضحا في تعابير وجهه . وإستجابة لضغط الطلاب وتوسلاتهم وإلحاحهم وافق الأستاذ حسين على تكرارهذه الفعالية في السبت الذي تلا وفي أسابيع أخرى .أما يحيى فقد إضطر للإستسلام بعد أن فشلت مساعيه وتوسلاته لحمودي بترك الموضوع الذي أضحى حديث يتندر به الطلاب ويشعرون بمتعة ترديد النشيد في أوقات اللهو والمرح ,وكان لابد ليحيى المسكين من الإنسجام مع الموقف ليبدو مرحاً مادام الأمر يسعد الطلاب, فأخذ يشارك زملاءه نشيدهم ضاحكاً مسروراً. مراقب الصف إبراهيم الأحمري ( نسبة لوجهه وشعره الأحمرين) إقترح إعادة صياغة النشيد ليصبح كالتالي:-
قندرتي ...قندرتي أضرب بيها يحيى
لم نوافق على إقتراح إبراهيم لما يحمله التغيير من إساءة لزميل عزيز علينا وما يدل على سوء الأدب ولم يجرأ أحد منا بإخبار يحيى بهذا الإقتراح,وهكذا كنا صغاراً بالعمر كبار في إحترام بعضنا البعض. لقد كان مزاحنا يعزز علاقتنا ببعض ويشدنا بوشائج المحبة والإحترام .
في أيام الجمع والعطل الرسمية كانت أم حمودي تصطحب معها ولدها الوحيد مضطرة الى مكان عملها (الحمام العمومي للنساء) وهو الوحيد في المدينة إذ لا تستطيع تركه لوحده في البيت بعد وفاة والده الذي كان يعمل حمالاً (عتالاً),ولآن وجود حمودي داخل حما م نسائي غير منطقي لذا كان يقضي الوقت في سطح الحمام بانتظار إنتهاء أمه من عملها ,وخلال تلك الفترة يقوم بمزاولة هوايته المفضلة إذ يصنع طيارة ورقية يربطها بخيط طويل ويطلقها في الهواء بعد أن يمسك الخيط من طرفه الآخر الطليق فتندفع الى أعلى مما يوفر له متعة ما بعدها متعة . ولم يدم هذا الوضع لحمودي ,ففي أحد الأيام وخلال العطلة الربيعية وفي أثناء ما كان يلهو بطيارته على سطح الحمام إرتطم جسمه الضخم بالزجاج المغبش لأحد شبابيك قبة الحمام التي تعلوه فتحطم الزجاج وهوى حمودي مذبوحاً الى أرضية الحمام الصخرية فتهشم رأسه وأسلم الروح على الفور.......مات حمودي ...
إنتشر الخبر في المدينة فهرع الناس الى الحمام غير مصدقين بما حدث فكانت صدمة قاتلة لمحبيه الكثر. وفي عصر اليوم نفسه تم تشييع جنازة حمودي الى مثواه الأخير وشارك في التشييع كل طلاب المدرسة يتقدمهم مدير المدرسة الحاج راضي ومجموعة المعلمين بدون إستثناء وكان منظر الشموع المتقدة وأغصان الياس والتي يحملها طلاب صفه خلف الجنازة لايمكن أن ينسى .
إصطف طلاب صفنا (الصف الثالث) ليؤدوا طقوس الإصطفاف صباح السبت في اليوم الأول من الفصل الدراسي الثاني وهم في حالة وجوم وصمت تاركين مكان حمودي فارغاً ,و عندما تقدم أستاذ حسين باتجاهنا متعثراً لاحظنا إرتخاء عضلات وجهه ولم يستطع إخفاء دموعه التي سالت على خديه فكان ذلك بمثابة إيعاز لنا جميعاً بالإجهاش بكاءاً . بكينا كثيراً حتى تقطعت نياط قلوبنا الفتية.أما يحيى فقد كنا نسمع نحيبه ونشيجه ينبعث من داخل الصف وهو يحتضن رحلة حمودي......................
إن عقلنا الباطن يستطيع كبت ذكرياتنا المؤلمة ماعدا ذكرى موت حمودي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا


.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ




.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت