الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لغز بِعثة (فرانكلين)

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 2 / 8
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


لـُـغـز بِعثة (فرانكلين)

كان العالـَم القديم يظن أن هناك قارّة قطبية شمالية، أي أرض يابسة تغطيها الثلوج على مدار العام، ولم يصدق أحداً ما قاله مغامراً يونانيّاً أسمه (بيثياس) بأنه لا توجد قارّة قطبية شمالية، بل جبال جليدية تحتها مياه، وأن بإمكانه الإبحار بسفينته ـ فيما لو لم تعترضه ثلوج ـ متجهاً من الجزر البريطانية* باتجاه القطب الشمالي لمدة سبعة أيام دون أن تعترضه يابسة.

لو ننظر نحو الكرة الأرضية بمسقط راسي، أي أن يكون القطب الشمالي بمركزها، ستكون لقطة مثيرة وغريبة علينا وكأنها لكوكب آخر، حيث نرى فيها كل من كرينلاند وشمال كندا وألاسكا من جهة،ويمتد شمال روسيا (سيبيريا) وشبه جزيرة اسكندنافيا من جهة ثانية، وسيبدو لنا واضحاً في شمال أمريكا الشمالية، ممراً بين الجزر الكندية يربط المحيط الأطلسي بالهادئ.

حين تم اكتشاف الأمريكتين وإثبات كروية الأرض في القرون الوسطى، لم يكن بعد المسح الجوي وعمليات الرصد بالأقمار الصناعية، فانصبت الجهود لفتح طـُرق إبحار سهلة وسريعة تربط مشارق الكرة الأرضية بمغاربها حتى بدا ذاك في القرن التاسع عشر محموماً أكثر ـ بدوافع تجارية ـ لإيجاد ممر ملاحي غير مضيق ماجلان الواقع عند جزر النار و(كيب هورن) القابع في ذيل أمريكا الجنوبية والذي يتطلب رحلة إبحار بآلاف الأميال جنوباً في المحيط الأطلسي لعبوره ومن ثم العودة نحو الشمال...
ومع أن تلك الأهمية في أيامنا هذه قد زالت بتحقيق شق قناة (بنما)*، أحد أعجازات العقل البشري بنهاية القرن التاسع عشر، لكن البحث كان ينصبُّ عن إيجاد ممرات بحرية (طبيعية) أي حُرّة تربط جوانب الكرة الأرضية، تربط شمال المحيط الاطلنطي بالمحيط الهادئ، لإختصار الوقت والجهد وبالتالي... التكاليف.

... كان المستكشفون الجغرافيون يعتقدون بأن هناك ثمة ممراً طبيعياً آخراً يقع في أقصى شمال الأمريكتين، يمكن أن يلج نحو الشرق، وكانوا غير متأكدين من وجوده أو هل سينجحوا في الولوج فيه، لكنهم على أية حال نجحوا بإقناع بعض الدول المستفيدة بتجارتها من الممر المنشود ـ ومنهم بريطانيا ـ بأنه الوجهة والبديل الأرخص والأسرع بدلاً ما تتجه سفنهم لمضيق (ماجلان).
أقتنع الأنكليز وأرادوا أن يسبقون العالم ويكشفون ذلك الممر عبر جزر شمال كندا المتجمدة لربط المحيطين، وهو ما سيُعَدّ انتصاراً للبحرية الملكيّة البريطانية أمام التحديات الكندية هناك.
× × ×

(جون فرانكلين) رائد الاستكشافات الانكليزية* وصاحب الخبرة والباع الطويل في استكشاف القطبين، شدّ الرحال لهدف مُحدد سيُدخِله التاريخ، التوجه أولاً من المحيط الأطلنطي إلى جزيرة (الملك وليم) شمال كندا، ثم الولوج إلى المحيط الهادئ.
كان الوداع رسمياً مَهيباً بجزيرة (بيتشي) شمال الأطلنطي، الجميع كان حاضراً ومتفائلاً بالنجاح، على رأسهم ممثل الديوان الملكي البريطاني والليدي فرانكلين (الزوجة الوفية)...
لا أحداً كان يرى فيه... (وداعاً ليس بعدهُ وداع) !

... إنه ربيع عام 1845، الكابتن (فرانكلين) و 130 من البحارة والربابنة الأشداء على متن السفينتين (إيريبوس وتيرور) يتجهون غرباً، لديهم المزيد من الوقت، صيف مُعتدل وخِطة عمل وخرائط تملأ الرفوف، يحملون مؤن وفيرة معززة لأول مرة بمعلبات من كافة ما تشتهي الأنفس، يسوقهم هدف الحصول على مكسب تاريخي يسجل باسمهم ولبلدهم.

بعد أشهر قليلة باغتهم صيف قصير، وسبّبَ الالتفاف الخاطئ نحو الشمال الذي وقعوا به بأن يتأخر مسيرهم أيام ليست بالحسبان، ثم أدى توغلهم في عمق الثلوج نحو جزيرة (الملك وليم) أن تُحتجزهم الثلوج، فتوقعَ البحارة أنها مسألة أيام ويتبدل الطقس السيئ.
لم تأتِ الرياح القطبية بما اشتهت سُفنهم، لتبقى عالقة ولتقطع إمكانية عودتهم أو أي مسعى إتصال لهم بالعالم، حتى داهمهم شتاءً بارداً قاسٍ بليالٍ طويلة مُملة.
ظلت تمر أيام رتيبة دون ثمة أمل بوصول مُغيث، حتى فقدَ البحارة أعصابهم وغَدَوا عدائيين، تستهلك الليالي مؤنهم وصبرهم وجَلدهم والأمل بالنجاة، تتعاقب الأيام والأسابيع والأشهر رتيبة واحدةً تلوَ الأخرى...
كانت عيونهم ترنوا على ثلوج بدل أن تنقشع، كانت تتراكم وتزداد، ولا يبدو في الأفق سوى ضباب وعواصف ثلجية، بياض في بياض في أيام سواد بسواد، حَولين (عامين) باردين (1845 و 1846) أيقنوا خلالهما أن لا حول لهم كلياً ولا قوّة !

كان ثمة أمر آخر قد حدث، فقد أصاب بعضاً من بحارتهم تَسمّمْ قضى على ثلاثاً منهم، لم يدرك أحداً أسبابه، فوضَعهم رفاقهم بملابسهم مجمدين بين الثلج في قبور مُعَلـّمة، على أمل أن يجدهم أحداً يوماً ويَحل لـُغز وفاتهم.
ومع أن الآثار التي وُجدت لاحقاُ، تُشير إلى أن جميع البحارة قد تدبروا حالهم في صيدهم وإقامتهم بين الصقيع، لكن وفاة رجالاتهم الثلاثة كان قد دفعهم لاتخاذ قرار مفاجئ بمغادرة السفينة الراسية بعناد شديد، قرار رحيل...
فقد كتبوا لنا بأنهم وجدوا بأن الآمال بوصول نجدة باتت شبه معدومة، وأنهم قد أيقنوا بأن الهلاك سيحصدهم واحداً فواحداً فيما لو لم يُحركوا ساكناً...
قرروا ترك السفينة والسير مشياً على الأقدام... وكان عليهم إما التوجه نحو (كرين لاند) طلباً للنجدة من سكان الاسكيمو هناك، وستكون ضربة حظ لو وَجدوهم بتجمعاتهم الغير معروفة لديهم، أو جنوباً باتجاه الأراضي الكندية حيث أقرب المدن ـ تقول خرائطهم ـ واقعة على بعد مئات الأميال.

القرار أخيراً كان نحو الجنوب حيث المدن الكندية البعيدة، ومع إن أقدامهم منهكة غلبها البرد والصقيع، لكن كانت تسوقهم إرادة في عدم الفشل والنجاة ولمعرفة لغز رحيل زملائهم الثلاث.
فحاكوا من الأشرعة خياماً، واستخدموا الأواني لنقل الوقود، يَسحبون زلاجات مؤن صنّعوها من مواد كانت على متن السفينة ـ تشكيلة غريبة من الأثاث والكراسي الخشبية شـُـدّت إلى بعضها ـ مُلئتْ بما احتفظوا به من معلبات.
كانوا وكلما يتقدمون مسافة، يضعون أنبوباً بشكل رأسي ويثبتوا إشارة تدل على مَسيرهم، ويتركون بداخله رسالة تحكي لنا مدى معاناتهم وفقدانهم المزيد من الرجال، وعن لغزاً أمسى لا يفارقهم...
× × ×

... بعد عدّة سنوات، سَمحَ الطقس بعملية البحث عنهم، وبجهداً حثيث وخلال خمسة رحلات مكوكية أشرفتْ عليها الزوجة الوفية (مسز فرانكلين)، نجح السير (ملكور) في العام 1854 بإيجاد السفينة تُحاصرها الثلوج، كانت بحالة جيدة لكنها خالية من ربابنتها.
تم اقتفاء أثر مسيرتهم الراجلة بأثر تقدمي من خلال الأنابيب التي تركوها حتى فقدوا خط مسيرهم دون أن يعلمو كيف قضوا ولماذا، أهو البرد أم أفتراس أم أنه التسمم؟

أعيد تشكيل رحلتهم من جديد ليتم إيجاد مدفن رجال (فرانكلين) الثلاث قرب السفينة، الأمر الذي أثار فضول السلطات الإنكليزية.
ببطأ شديد وبدقة متناهية تم فتح القبور الثلاث، ليجدوا الجثث سالمة وقد حفظها الجليد بشكل ممتاز، لتتوصل (لندن) بعد التشريح إلى أن السّر في وفاة البحارة، الطعام المُعلب الذي اصطحبوه في رحلتهم، حيث أنّ (فرانكلين) قد أدخله للمرة الأولى على سفينته، وكان التعليب قد شاعَ حديثاً ببداية الأربعينات من ذلك القرن (التاسع عشر).
كانت شركة تجهيز أغذية لندنية، قد استخدمت عُلب مصنوعة من الرصاص في تموين الرحلة، الرصاص بدورهِ تفاعل خلال سنتين بتأثير الحوامض والقواعد الموجودة بالطعام المعلب، ليتحوّل سموماً.
هذه السموم بالطعام وُجدت في أمعاء البحارة الثلاث، وهو الأمر الذي يُفسر تسمم البقية في لاحق الأيام، حيث لم يكن للبحارة علم بذلك، في وقت ما كان من بُداً في استهلاكه لعدم توفر بدائل !

ربما ـ تقول لندن ـ لو أنهم أدركوا سبب وفاة زملائهم الثلاث، لآثروا الصبر وانتظار انقشاع الثلوج ووصول نجدة، أو أنهم أمـّـنوا مصدر آخر للغذاء في رحلتهم الراجلة عن طريق الصيد مثلاً.
بعد نصف قرن (بداية القرن العشرين) أستطاع أخيراً الكندي (أورينت أمندسن) مَسنوداً بدعم بلده اللوجستي، النجاح بقطع المسافة بين الجُزر والولوج عبر مضيق (بيرنك) الواقع بين (الألاسكا وروسيا) والوصول لمياه المحيط الهادئ الدافئة.
وهو ما يعتبرهُ الكنديون اليوم، ثاني أعظم حدثْ في تاريخ المياه الكندية، بعد غرق (التايتنك).
وأدرك العالم بأن (أمندرسون) كان قد مهد، بل وسلك أفضل طريق وأقصره... فسُمّيَ الممر بأسمهِ.
× × ×

قبل اختراع الطائرة والتصوير الجوي، أي حتى نهاية القرن التاسع عشر، اعتُبرت عمليات البحث تلك، هي الأهم في التاريخ وأكثرها منفعة، لأنها ساعدت وبشكل غير مباشر على رسم خرائط أوضح وأدق وأشمل للجزر الجليدية ولجميع الممرات المحتملة في شمال كندا.
اليوم يعود العالم تدفعه المصالح الاقتصادية والسياسية، لفتح ممر (آمن) ودائمي للملاحة شمال كندا على الأقل في الصيف، تمخر به السفن من أوربا إلى شرق آسيا، دون المرور بقناة (بنما).
لكن وبمجرد ما ابتدأ الكلام عن هكذا ممر، زاد الخلاف حول مُلكيته وعائديته، فحتى اليوم تـُعتبر الجزر المتجمدة لشمال قارة أمريكا الشمالية الممتدة حتى أرض كرينلاند ـ التي تتبع الدانمارك سياسياً ـ هي جزر جليدية كندية، كما هو الحال في خليج (هدسون) الذي هو ـ بلا أدنى شك ـ أراضٍ ومياهٍ كندية مطلقة.

لكن للولايات المتحدة الأمريكية رأياً (فلسفياً) آخر، كون الجزر المتجمدة أقصى الشمال، لو أزيح عنها الثلج، فستكون مجرد مياه، وبالتالي فهي ممرات دولية تتبع المحيطات، وعليه فإن مُلكيتها وكامل خيراتها لا تتبع كندا.

... هذا ما تقوله السياسة الخارجية الأميركية عن دولة جارة وحليفة مثل كندا، بمجرد أنها ستتحكم بإدارة الجزر، فما بالك لو كانت تَبعيتها لدولة مُعادية أو حتى مُعتدلة ؟
ناهيك عما لو وُجد بها مستقبلاً من خيرات، كالذهب مثلاً... أصفراً كان أم أسود !

عماد حياوي المبارك


× في العام (1914)، تم افتتاح قناة (بنما) بعد مخاض ثلاثون عام، لتختزل المسافة البحرية بين (نيويورك وسان فرانسيسكو) من 20 ألف كلم إلى 8 آلاف فقط.


× الجزر البريطانية تشتمل على دولتين، جمهورية أيرلندا وعاصمتها (دبلن)، والمملكة المتحدة التي هي عبارة أربع دول يجمعها إتحاد اُنشأ عام 1800، ولها علم مشترك واحد يجمع أعلامها الأربعة متجمعة.
ودول الإتحاد هي: إنكلترا عاصمتها (لندن) وهي أيضاً عاصمة الإتحاد، واسكتلندا في الشمال عاصمتها (أدنبرة)، ومملكة ويلز في الجنوب الغربي عاصمتها (كارديف)، وهذه الدول الثلاث تجمعهم الجزيرة الأكبر، والدولة الرابعة هي أيرلندا الشمالية ـ ذات النزعة الاستقلالية عن الإتحاد ـ وعاصمتها (بلفاست) وتُشارك جمهورية أيرلندا مساحة الجزيرة الأصغر.

أدميرال البحرية الإنكليزية... (فرانكلين):
ولد في العام 1786 في (لنكولنشاير) بإنكلترا، إلتحقَ بالبحرية البريطانية في سن 17 وأمسى ضابطاً بحرياً ليُشارك برحلة (ماثيو فليندر) حول إستراليا عام 1803.
في العام 1819 إكتشف نهر (كوبرمين) بالقطب الشمالي، وفي العام 1825 حقق أفضل إنجازاته في القطب الشمالي، إكتشف خلالها الممر الشمالي الغربي للقطب.
فُقِدَ في ظروف غامضة في العام 1847 بعد توقف رحلة إستكشاف تاريخية لممر يربط المحيطين الأطلسي بالهادي لدى محاولته النجاة مع ربابنته برحلة سيراً على الأقدام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح