الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسيرة الحرية وعاصمة النفاق... أما آن لهذه الإنسانية أن تستيقظ؟

جلال خشيب

2015 / 2 / 9
الارهاب, الحرب والسلام


.

باريس.. كانت دوما قِبلةً للحرية ومدينةً للأنوار.. باريس فولتير، باريس الحرية، باريس الأخوة، باريس المساواة.. باريس الثورة.. ها هي باريس اليوم تنتفض مجدّدا ضدّ البربرية، تُنظم مسيرة حاشدة يشارك فيها قادة دول كثير عبر العالم تنديدا بالإرهاب بلاء العصر، دفاعا عن الحرية ودعوة للسلام.. جميل.. وها أنا أقول لكم بدوري أنّ باريس تتحوّل في نظري اليوم إلى عاصمة للنفاق السياسي الدولي بإمتياز، مدينة الإرهاب السلطوي الرسمي.. هكذا أسميها.. مدينة الإستغباء الفكري والعنصرية الإنسانية المقيتة في أسمى مراحلها والتّي تشهدها للأسف بشرية القرن الحادي والعشرين..
دعونا من خطابات التنديد الساذجة بهكذا أعمال إجرامية، فلا غريزة بشرية سليمة تتقبل هذا، بل وتثور عليه.. تجاوزوا من فضلكم هذا النقاش الصبياني، فلتفتحوا أيّها العقلاء نقاشا جدّيا ذو جوانب أخلاقية.. ذلك النقاش الذّي يُجرّم الفعل الإجرامي في حق البشر دون تمييز بين عرق أو جنس أو لون أو دين ليتحرك ضدّه.. نقاش لا يميّز أيضا بين جرائم إمبراطور غازي يكتسح الأمم وجريمة قرصان متسول يبحث عن قوت يومه بإعتراض طريق المارة في عرض البحار*.. يا لها من إنتقائية مقيتة.. يا لها من فضيحة إنسانية بإمتياز.. إنّه العار بعينه.. متى سنشاهد قادة العالم يشاركون في مظاهرات شعبية حاشدة تُطالب بإنقاذ الفلسطينيين من آلة الغدر الصهوينية؟ تلك التّي لا تتوانى كل يوم عن قضم أراضي الأبرياء وهدم المنازل على رؤوس الصبيان.. متى سيتحرك هؤلاء لأجل السوريين المشردين في عزّ الشتاء، متى ستتحرك ضمائرهم ليفعلوا شيئا إنسانيا ينقذ الآفارقة المقهورين تحت جزم لوردات الحرب وهتك الأوبئة والمجاعات؟ تجف أقلامنا ولن ننتهي من تعداد مآسي البشرية المعذبة على هذه الأرض…
علينا ألاّ نسقط مجدّدا في فخّ الثنائية المانوية المقيتة، إن لم تكن شارلي فأنت إرهابي على طريقة جورج بوش ومن والاه.. تلك التّي لا ترى على الأرض إلاّ نورا وظلاما، إلاّ ملائكة وشياطين.. فالقضية هنا أعمق من مجرد الإصطفاف في هذا الخط أو ذاك.. على الشعوب الغربية إذا أرادت أن تنعم بالحرية والأمن وتتخلص من الإرهاب أن تبدأ أولا بإستئصال النزعة العنصرية الإستعلائية من وعيها الجمعي ثم تناضل ضدّ كل من يؤجج هذه النزعة ويدفع نحوها من قادة السياسة والفكر هناك… عليهم أن يتوقفوا عن النظر لبقية العالم كمجرد بقية، كمجرد مصدر للطاقة والوقود.. على هذه الأرض لا تنسونا رجاءً، فنحن هنا أيضا بشر مثلكم نستحق الحياة..
لن أنهي كلامي هذا قبل أن ألفت النظر لبعض الإستثمارات السياسية التّي من الممكن أن يجنيها هؤلاء من وراء مسيرة كهذه، فلا أراها سوى مسيرة سياسية دولية تختبئ وراء القيم لتعبئة الرأي العام الفرنسي والدولي عموما، لتحضّره فيبصم دون تردّد على أي مغامرة غربية جديدة فيما يسمونه بالشرق الأوسط، وأقصد تصفية الملف السوري بشكل أدق وعلى نحو حاسم، أو للتحرك بحرية في إفريقيا جنوب الصحراء، ومن يدري فقد يكون لشمال الصحراء من هذا نصيب.. بإسم شارلي إيبدو وحماية الحرية في هذا العالم سيطلقون أيديهم مرة أخرى وبدون قيود في عالمنا الإسلامي على وجه الخصوص.. بإسم حماية مستقبل أوروبا والعالم الغربي الليبرالي سيعززون داخليا من القوى السياسية الهادفة لعزل روسيا.. تحت هذه اللافتة سيتقوى الطرف المناوئ لإنضمام تركيا للإتحاد الأوروبي، تلك الدولة التّي بإمكانها أن تتحوّل إلى مدافع شرس عن قضايا المسلمين هناك، في مقابل قضم مساحات جديدة على الأرض الأوربية وجعلها تحت المظلة النووية لحلف الناتو محاصرة لروسيا الصاعدة بخطى متينة.. لن أشبّه ما يحدث اليوم بأحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة ولكنّي سأماثل هنا بين أوروبا اليوم والولايات المتحدة سنة 1991 إثر الفرصة الدولية التّي مُنحت لها مع سقوط الإتحاد السوفياتي وتفجير حرب الخليج الثانية.. بالطبع من السذاجة عقد مقارنة حقيقية بين الحدثتين من حيث حجم التحوّل البنيوي الحاصل على مستوى النظام الدولي ولكن نرى هنا أن الأوروبيون سيحاولون عبر هذا الحدث الخروج إلى الساحة الدولية بقوة -كما فعلت الولايات المتحدة من قبل- بعد حشد تعاطف دولي كهذا بإسم الحرية.. ليمارسوا مزيدا من السياسات التصفوية الإستئصالية لكل ما هو إسلامي -أو لكل ما هو “أجنبي بربري” غير مرغوب فيه هناك- من شأنه أن يهدّد مستقبل الرخاء في أوروبا المسيحية المتمدنة.. إنّهم يأخذون بذلك راية العنصرية من واشنطن ليرفعوها عاليا في باريس.. مرحبا بكم يا سادة في عالم ناعم تُمارس فيه أوروبا مزيدا من العنصرية المقنعة بقناع الحرية..


أستحضر هنا ذلك الحوار الإفتراضي الذّي دار بين الإسكندر المقدوني الغازي وقرصان متشرد في عرض البحر، والذّي جاء في مقدمة كتاب “قراصنة وأباطرة للكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي.. إذ يتسائل القرصان في حضرة الغازي: تُجيّشُ سفنا وجنودا لتكتسحُ أُمما وممالك فتُسمى فاتحا عظيما بينما أعترض سفنا لأقتات فأسمى قرصانا مقيتا؟
* جلال خشيب، باحث مهتم بالدراسات الدولية، الجيوبوليتيك والفلسفة الإسلامية بكلية العلاقات الدولية جامعة الجزائر3 وبمعهد دراسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية جامعة مرمرة، إسطنبول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يستهدفون سفنا جديدة في البحر الأحمر • فرانس 24


.. الشرطة القضائية تستمع إلى نائبة فرنسية بتهمة -تمجيد الإرهاب-




.. نتنياهو: بدأنا عملية إخلاء السكان من رفح تمهيدا لاجتياحها قر


.. استشهاد الصحفي سالم أبو طيور في قصف إسرائيلي على مخيم النصير




.. كتائب القسام تستهدف جرافة إسرائيلية في بيت حانون شمال غزة