الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة  في المجموعة القصصية  -حِلّ وتِرحال- للدكتور يوسف زيدان

حذام الودغيري

2015 / 2 / 10
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


قراءة في المجموعة القصصية "حِلّ وتِرحال" للدكتور يوسف زيدان


يطلّ علينا يوسف زيدان مع مطلع 2015 بتجربة إبداعية جديدة، وهي القصة القصيرة من خلال مجموعته "حِلّ و تِرحال" التي نشرتها دار سبارك. وقد كان نعت هذه القصص في الغلاف بجمع المؤنث السالم "قصيرات"، ربما للإشادة
بأهمية هذا القِصَر، حيث أنها مُركَّز من الفنّ والإبداع الإدبي. فجاءت "كأنها حِلٌّ وترحال دائمان أو انتقالٌ يتتالى ما بين باطن الوعي وآفاق السماوات البعيدة..." وقد اختار مصمّم الغلاف الحبالَ رمزا لشدّ الرحال.

كتابة القصة القصيرة تتطلب ملَكَة لغوية وقدرة على تركيز الأفكار من أجل خلق الدهشة، والتأثير بالمشاعر القوية على المتلقّي، فضلا عن التمتع بحسّ كبير من السخرية. وقد عرفت ازدهارا منذ القرن التاسع عشر حيث أحبها كبار
الأدباء العالميين وأبدعوا فيها إلى جانب الرواية أو الشعر، بل كتبها أيضا فلاسفة مثل سارتر. تُرجع عادة ريادة القصة القصيرة إلى بديع الزمان الهمذاني من خلال "مقاماته" في القرن العاشر الميلادي، إلا أن الدكتور يوسف زيدان، أستاذ
الفلسفة والتصوف الإسلاميين، نبّه إلى القصص القصير الذي أبدعه ابن سينا والسهروردي وابن طفيل، وقد أعطى نماذج منه في كتابه "حي بن يقظان".

القصة القصيرة مثل القصيدة لا تلخّص. فلا يسعنا إلا أن نعطي انطباعنا عنها أو بعض الأفكار والمقتطفات منها.
تضم هذه المجموعة خمسة عشر أقصوصة، وكأن هذا العدد يرمز إلى رحلة القمر في حلّه و ترحاله. كنا نترقبها بشغف كل أسبوع في جريدة "الوطن" المصرية، إلا أنها بين دفتي هذا الكتاب، بزغت وقد اكتمل رونقها وزاد بهاؤها.
وهي:
موعـــود ـ عُرس العجـوزـ حيرةُ فاهم ـ حكاياتُ الوحيدة ـ صالةُ الوصول ـ مولدُ قصيدة ـ لُعبة ليل ـ مُخَاتَلَةٌ ـ بؤسُ الملكة ـ انتباهٌ لا إرادىّ ـ دورانٌ ـ إجبارى ـ أصلُ السَّنطة ـ سـرُّ الكَحُول ـ كهفٌ بحرى ـ ساكنُ السرداب.

هذه العناوين معبّرة، عما تحكي عنه قصص المجموعة من وعود وأوهام وانتظار وبؤس وعجز وحيرة ومخاتلة وأسرار. وفي نفس الوقت، تجعلنا في حالة ترقب وتحفزنا على تخيل ما سوف يجري... وفي كل مرة، نفاجأ بأن ما
ما تصورنا غير ما قرأنا !
أما الأسلوب الزيداني البديع، المضمّخ بأسرار العارفين، وبعمق الفكر الفلسفي ، فهو يبهرنا بإيقاعه وبجزالة لغته، ويدهشنا بخياله المدوّخ، حتى إننا لا نكاد نمييز أحيانا بين بنات الحقيقة وبنات الخيال، أو بين العالم السفلي والعالم
العلوي. ومن لغة عربيّة فصيحة ، ينتقل في بعض المواقف إلى لغة مصريّة عاميّة ، ليعطي حيوية واقعيّة لبعض الحوارات ، فينبّه المتلقي ويؤثّر فيه أكثر.

من علقت في ذهنه روايتا "عزازيل" و"النبطي" بمناخهما وأحداثهما التاريخية فإنه سيجد في هذه المجموعة، على خطى " ثلاثية " يوسف زيدان التي ظهرت منها "محال" و"جوّنتنامو" وصفا لأحداث من الواقع المعيش، في السنوات
القليلة الماضية، المثقلة بالتغيّرات واللاتغيرات، كما أنه سيجد فيها، مثلما يتوقع من مؤلفها، عددا من عميق التساؤلات وتوقفا عند كثير من المعضلات. إلا أنه بمشرط الجرّاح قرّر، هنا، أن يفتح جسد المجتمع االعربي، الذي اهترأ
وتورّم بسبب نقص حاد في قِيم الإنسان. وبحنكة المحلّل النفسي، أجلس شخصياته المنكسرة على أريكته، ليكشف لنا عن هواجسها وخباياها، فجاءت هذه القصص بديعات، متّقدات، آسرات. كتبها ببراعة ودقة، فتجلّت بذلك الجمال
المؤذي، المربك، الذي يرغمنا، بقسوة، على رؤية أنفسنا في مرايا مرعبة، لا تعرف مجاملتنا، بل تعكس لنا ما وراء مساحيقنا وأثوابنا وأجسادنا...فنصدم، علّنا نفيق ونتعلّم.

تبدأ المجموعة بقصة "موعود" ولعلها ترمز إلى حال أمّة غارقة في أوهامها ، تنتظر مخلّصها وتنتظر النصر، فتتظاهر في الميادين حالمة بتحقيق وعود العيش والحرية والعدالة "المجانية" ... إلا أن الحرية " ليس لها نسائم ولا
أعاصير، إنها لا تصير إلا حين يصير الإنسان إنساناً."
فتبدو لنا شخصيات "حلّ وتِرحال" ترزح تحت ربقة هذا "الوعيد المصيري" : العذاب والجراح والهزيمة والوحدة... بلا بهجة ولا أمل، فحتى ليلة الفرحة الكبرى : "تمهِّدنى (أمّي) للصدمة بأن تقول لى دوماً من غير مناسبة: وماله،
افرح شوية يا بنى قبل ما تفوق من العسل، وبكرة تعرف إن حلاوة الفصّ شهر ونُصّ."

وهكذا، يتنقّل بنا من أعراض الوحدة الكئيبة إلى أوهام الأنوثة، ومن حرمان من الحبيب إلى احتراف مَنح الهوى ، ومن حياة الفقر والسذاجة إلى التفنّن في الحِيل وِفقَ مزاج وشهوات صاحب المصلحة، قصد الحصول على
شهادة جامعية عالية أو عمل براتب مريح أو شقة أو سيارة، أو بعض المال. فتظهر لنا العلاقة بين الرجل والمرأة ـ التي هي أساس المجتمع، وكنه الحياة ـ مضطربة، ماكرة، غير سليمة: فالرجل في معظم حكايا النساء الشاكية "وضيع"
، وهو "اللاعبُ الملعوب به". فيرسم الصورة، أحد أشخاص المجموعة قائلا: "حياة الرجل تتلخَّص فى السعى لاصطياد النساء، والنساءُ حياتهنَّ تمضى فى الإيقاع بالرجال " . يا لبؤس العلاقة!

كما يجعلنا نتتبع أحداثا لمجتمع يعاني من افتقار مزمن إلى النزاهة والكفاءة والصدق، فهذا مقاول ناجح " مهندس" دون إكمال تعليمه، وذاك متخرج من كلية التجارة لم يتعلم منها شيئا مفيدا، وذلك شاعر، غير موهوب، يسعى لتصميم قصيدة، تبعا
لتطلعات القراء...
وتلك "محتشمة فى ملبسها الخارجى وإن كانت نظراتها لا تعرف للاحتشام طريقاً، وأولئك أقارب "أباعد" ينتظرون موتا مريحا يتيح لهم الاستيلاء على موروث مرتقب" ... وكأن المخاتلة والغش يدسّان مع الماء الذي نشربه.

توقف يوسف زيدان في "حل وترحال" عدة مرات للتأمل في الأسماء، فكشف عن حالة مريرة وشائعة من السخط الداخليّ يحملها الأشخاص تجاه أسمائهم ، فنتوقف عندها باحثا عن أسبابها، فهذا "موعود" يقول: " الاسمُ المثيُر
لسخرية مَن يسمعه ، هو أشنع ما جناه علىَّ أبى، وقد جنيته على ابنتي التى لم تشعر بعد بجنايتى الفادحة، لكنها سوف تشعر بها يوماً." ومن هنا نستشف جناية بعض الآباء على الأبناء منذ تسميتهم...
وهذه "دُنيا" التي تعتبر اسمها وصمةً يحول دون تطلعاتها الاجتماعية، بصفته "بلدي آوي"، فتنبذه وتتخذ اسما جديدا لفترة ما، ثم تفكر: "يجب تغيير اسمى من "ديانا" إلى ما هو أنسب للفترة القادمة، فيكون مثلاً "مدام دودو"..."
فيجيء على لسان خبير بصدور النساء : "معظمُ البنات غير راضيات عن الأسماء التى اختارها الأهلُ لهنَّ، لأنهنَّ غير راضياتٍ عن أهلهنَّ، ولذلك تُنادى البنات بعضهنَّ بعضاً بأسماء تدليلٍ لم يختَرْها الأهلُ. ولو كانوا قد اختاروا لهنَّ أسماء التدليل ذاتها أصلاً، لكانت البنات قد تنادين فيما بينهنَّ بأسماءٍ غيرها.." أهي حالة مزمنة من عدم الرضا ذات تداعيات أخرى، أراد أن يسلّط عليها الضوء يوسف زيدان؟!

فماذا عن الحب؟ الشخصيات المحبّة ، في "حل وترحال" تظهر طيبة مخدوعة تتوهم الحب المتبادل كهدية من السماء، فيكاد ظنها يتأكد، ثم تفيق على الخيبة المرّة ، فتركن إلى اليأس والسكوت والوحدة . وكأنه قدر جماعي لكل حالم
بالحب... يتلخص لنا في مشهد بديع : " فى لحظة إشراقٍ مفاجئ عند عبورى الشارع الواسع، أدركتُ على نحوٍ خفىٍّ أننى كُلُّ ما أُريته. ومثلما كنتُ المتكوّمَ بداخل المقهى فوق تلال حُزنه،
كنتُ الثلاثةَ السعداء إلى حين،
الغافلين الجالسين على رصيف المقهى،
وكنتُ المرأةَ العجوز."
ولكن صاحب " فقه الحب" الذي يؤمن بأن: "الحبُّ للحياة شرطٌ لازمٌ ، لو انعدم لانعدمت . فالشجرُ يُورق و يثمرُ بقوة الحب ، و الزهرُ ينفتح على سماواته بفعل الحب ، و القلبُ يشرق عليه الكون فيُبدع حين يحب . . " لا يمكن أن يتركنا نيأس ممّ
يجعل الإنسان إنسانا. ولهذا فإن يوسف زيدان سيرحل بنا إلى عوالم غرائبية ، فيرفعنا إلى أجواء صوفية صافية، نتدبّر فيها المعنى " فندرك أن "الحب يدوم ، لا المحبوب " و" إنك إن لم تر الله فى المحبوب، فهو ليس المحبوب" ... ثم يُطلِعنا بعد رحلة تعرج بنا إلى سماوات الذات العميقة، على سر من مخطوطة "سر الخليقة وصنعة الطبيعة" وهو أن " ما ذكَّرَ المذكَّرَ، هو ما أنَّثَ المؤنَّثَ."
فالعلاقة الأصليّة الأصيلة بين الرجل والمرأة علاقة محبة وتكامل ، ولا يكون أحدهما بدون الآخر، وكما فسّره يوسف زيدان في موقع آخر: " فإذا ما عاد هذا السيف الى غمده يكتمل الحضور الانساني ويصبح الفراغ الذي امتلأ هو الأساس الذي تقوم عليه لحظة الوصل بين عنصري الانسانية."

هكذا فقط تكتمل إنسانية الإنسان ، وحينئذ يصير قادرا على التطلع إلى الحرية وإلى كل القيم ويكون أهلا لنيلها...

تهدينا هذه القصص العذبة "المعذّبة " وقفات تأملية، و لحظات ساخرة، وتأويلات غير مسبوقة، وعبارات مدهشة ، بأسلوب مشوّق، حدّ التلهف على معرفة النهاية وحد التوق لرجوعنا إلى أصلنا النقي... كما أن عاشق
المخطوطات الدكتور يوسف زيدان، قدم مفاجأة ـ هدية للقراء، عبارة عن مخطوطتين نادرتين... (قراءة ممتعة)









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي