الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصاروخ

رستم أوسي

2015 / 2 / 11
الادب والفن


تأوّه الصبي ، لحظة وصول أمه ، بينما يلف المسعف شاشاً طبياً حول ذراعه المصابة. دنت الأم من الممرّض بحدقتين يسكنهما الذعر ، و قالت بنبرة يستوطنها الجزع ((طمنّي دكتور..))
((كلشي تمام. الجرح سطحي و لا شيء يدعو للخوف.. 4 قطَب فقط.)). أجاب الممرض فيما يعاود الانكفاء على الذراع و أصابعه تلصق برفق الشريط اللاصق فوق مرفق سامر. دخل وليد و تسلق سرير الإسعاف ليجلس بمحاذاة شقيقه مدلّياً قدميه. تأملت الأم مليّاً الضماد على ذراع سامر النحيلة ، ثم رفعت بصرها إلى وجهه الشاحب و قد استعادت قلبها من هفوته ، ليدق بانتظام سرعان ما انعكس على نظراتها التي بدت أقل حنواً ، و ما إن اختلت بالصبيين حتى قطّبت جبهتَها نبرة المربية الصارمة. ((إذا بعتناكون تجيبوا شي ما بتعرفوا ترجعوا أنت و ياه؟ صار لكم ساعتين طالعين من البيت!))
كان الوقت قد بلغ الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم الخميس ، و كان يفترض بالصبيين أن يكونا في المدرسة قبل أن يفترض بهما أن يكونا في البيت و معهما الرز الذي أرسلتهما الأم لشرائه. المدرسة ، بات الأطفال يعيشون أفضل بدونها بعد أن أضحت ، إن وجدت في حي مجاور ، هدفاً للطيران الحربي. و أما الرز ، فتلك حكاية أخرى.
((هو قال لي..)) تبادل الصبيان الاتهام.
في طريقهما إلى دكان أبي بكري عطلت جاذبية منظر أولاد الحارة ، مجتمعين ، خطواتهما القصيرة الخفيفة. كانوا صبية يقفون في طرف أحد الأزقة القديمة بين حيي جب القبة و باب الحديد ، و التوجس يعلق أبصارهم على الزقاق ، كأنهم يستعدون للاقتحام في لعبة الهيئة الشرعية و المسيئين. حماسة ضارية داهمتهما و أنستهما الرز لدى إدراكهما أن صاروخاً حقيقياً يوشك أن ينطلق من المحرس المتقدم في آخر الزقاق النافذ ، و الذي تليه مباشرة منطقة التماس الناري مع جنود النظام المحاصرين في قلعة حلب منذ أكثر من عام. ماجت الصواريخ في شرايينهما و هما يراقبان مع الصبية ، بعيون فاغرة ، الصاروخ المحلي الصنع بطول 75 سنتيمتراً تقريباً و قد ركِن على قاعدة معدنية مائلة في أسفلها كتلة مربعة الشكل ، و يحيط بها أربعة مسلحين و مدني بدا أنه من الجوار. يشهر أحد العناصر سلاحه نحو الصبية ، إذ تلسعه جلبة شقاوتهم ، متظاهراً بالتهيؤ للإطلاق و يستجيب الأولاد بالفرار مبدين الخوف ، إلا أنهم سرعان ما يعودون لاختلاس النظر بمجرد انشغال العناصر.
يدلك الصبية الثلج الذي بدأ يسكن أصابعهم في انتظار أن يعطي فني الصواريخ إشارة لرفاقه. يتراجع العناصر و الجار بضع خطوات ليعقبها هرع الفني باتجاههم مع مشارفة الحشوة الدافعة على الاشتعال.
هلهل الأولاد لانطلاق الصاروخ المذنب بالشرر و تقافزوا في شغف لم يحدث أن أسرهم في لعبة قط. راحوا يجهرون بأصواتهم لتلاحق الصفير ، غير آبهة بسخط عناصر الحاجز.
((الله أكبر.. طلع!))
((و ما رميت إذ رميت و لكن الله قد رمى.))
((روح.. سلم لنا عالقلعة))
شخصت الأبصار نحو الأعلى بعدها. ظلت الأفواه منفرجة فيما ذبلت الابتسامات حولها. دهشة مفزعة أطلت من عيونهم لحظة الانفجار.
لم يشأ وليد الإسراع إلى الدار لاستدعاء والديه ، كما أوصاه العاملون في المشفى الميداني ، بل مكث في الحارة حيناً لتتلقف أذناه تعليقات الأهالي الغاضبة و تنبؤات التجار القلقة. مرّ بالزقاق معايناً الضرر الذي أصاب المكان ، ثم استوقفه الحديث قبالة خان أبي رضوان و مضى يفكر بكل ما تطيقه سنونه التسع ؛ إذاً لأن الصاروخ بتنفيسة واحدة... يعني لو أنه بأربعة ثقوب من تحت لما صار الي صار.
اضطرب الصاروخ في السماء ، كمريض يتلوّى من الإمساك ، على غير جهة. تعرج مساره. تموج ، انعطف ، تاه. و ارتدّ إليهم.
((أي الله يجعلو صاروخ ، صاح الولد ، ما دمّر الساتر الترابي حتى. والله فكرتو بالأول رح يشيل القلعة من محلها.))
((الحمدلله طلع هيك. كان أخوك راح فيها!)) قالت الأم في غيظ و كفها تصفق خدها بضربات خفيفة متتابعة. ((أنا بعرف شغلي معكون بالبيت.)). أطرق الطفلان و قد اكفهرّ وجهاهما ، قبل أن يطل الممرض منقذاً إياهما -دون قصد- من غضب أمهما و وعيدها. أبلغ الأم بضرورة تغيير الضماد كل يومين و مراجعة العيادة بعد أسبوع لانتشاط الخيط ، و من ثم سأل سامراً ((في وجع؟))
((أي.)) نبس الطفل بانكسار و هو يلتفت إلى والدته. ((كنت رح أستشهد.))
((لا تخف يا سامر. أنت بخير.)). قال الممرض مربّتاً على كتف الصبي.
ارتطم الصاروخ بأكياس الرمل المتراصفة عند زاوية المحرس ، قبيل أن ينفجر و يتشظّى في كل الاتجاهات. المحتمون وراء الساتر تبعثروا و ارتموا أرضاً ، إلّا واحداً بكّر إلى التنبؤ بالعقاب فوَلج مسرعاً غرفة المحرس. تلاطمت الأسلحة و عظام المقاتلين و الإسفلت العتيق. غطّى العجاج الزقاق.
يركض الأولاد مبتعدين صياحاً هلعاً مستغيثاً. يتعالى الكحّ الجاف من داخل الغيمة كأنما مصدره مسننات صدئة لا حناجر آدمية و ينادي صوت يقطّعه السعال ((أبو محمد. أبو محمد.. وينك؟)). و بينما يستوي الرجال مذهولين يتجمهر من أغراهم الفضول ، من أهل الحارة ، بالوقوف في أول الزقاق.
((همتكون يا شباب. ساعدوا الجرحى.))
((يا لطيف.. قذيفة مدفعية بالظاهر.))
((لازم. لأنّا ما سمعنا صوت طيارة!))
((انتبهوا. يجوز تنزل قذيفة تانية..))
و وسط لغط المتجمعين يزعق طفلٌ في الحادية العشرة تقريباً ، معلناً عن أولى الإصابات الطفيفة.
أفاضت الأم في التشكر و الدعاء و هي تقف مع ولديها في باب العيادة تهيؤاً للمغادرة. كان سامر منهمكاً في إخفاء الخرق في كمّ معطفه بيده ، لكن الكمّ لم تنثني شفتاه المجعدتان عن الادعاء على الصبي ، ما حمله على المسارعة إلى الخروج أمام شقيقه و والدته التي ظلت واقفة في الباب لا تطأ العتبة و لا تعاود الولوج ؛ أخذتها الحيرة و هي تراقب دهشة الممرض حيال جملة وليد الأخيرة. كانت ستؤنبه حين قال ((بس الحمدلله أن الصاروخ رجع لنا.)) ، لولا أن اهتمام الممرض ، و هو يومئ برأسه للصبي متسائلاً ، حال دون ذلك. ((لماذا؟)).
انفعال غريب جعّد جبهة الصغير و جذب حاجبيه و حدقتيه نحوها ، و بهت الممرض بالولد إذ شوّح بيده في غضب مصطنع و هو ينبر ((يا رجل ، لو صايب القلعة لكانوا لعنوا الي نفض الحارة لأسبوع كامل بصواريخ الطيران و قذائف مدفعية القلعة.)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب