الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية السنوات العشرين

كمال العيادي

2005 / 9 / 14
الادب والفن



أستاذي وصديقي: الشاعر منصف الوهايبي.

كان ينبغي أن أتمم هذه الرسالة منذ يوم الأربعاء 21 ديسمبر 1984…!

وبما أن الأرقام صارمة ولا تقبل التأويل، فإنّي أعتذر لك علنا.

هي عشرون سنة، وهذا زمن، ولكن ذاكرتك المبخرة بعروق الصبار لن تعدم إمكانية للربط.

ثمة أمر آخر. أنني في ذلك اليوم من تلك السنة، حين كنت تلميذا مشوش الذهن والروح، وكنت أنت أستاذا لحصة العربية التي كان علي متابعتها، كان من الصعب علي التخلص من الشعور بأنني معرض لسوء الفهم. ولكنني كنت على كل حال قد بدأت في كتابة الرسالة، وكان الأمر يتعلق بتهنئتك بعيد ميلادك.

عشرون سنة مرت من حياتك، سمعت خلالها بأنك أتممت بناء منزلك، على بعد سبعين ذراعا من مقبرة الجناح الأخضر جنوب القيروان. وأنا فخور بذلك، فمن بنى منزلا بالقيروان، فتحت له كوة في الجنة. وليكتف الزائرون القادمون منك، بأنك تركت لهم كوة تطل على قيروان يبعث أمواتها كل ما نودوا، وهي ثابتة - كخنفس مشدود إلى دبوس - لا تموت أبدا، ولا تحيا أبدا.

بالمناسبة، لقد حدث وأنني زرت بيت - بولغاكوف - مؤلف رواية [المعلم ومرغريتا] و[قلب كلب] بشارع أوستروفسكي بموسكو، كان ذلك سنة 1989. إنه مبنى من طابقين, نزعوا عنه كل الأبواب، وأطر النوافذ وأخذوا منه كل السجاد والأثاث. واختاروا له طلاء أسود. لقد جعلوا منه مغارة سوداء، يتجمع فيها ما تسوقه الريح من فتات الثلج وأوراق - شجر النواقيس.
ولكنهم مقابل ذلك فتحوه للزوار، تاركين لهم الحق في اقتناء أصابع من الطباشير بسعر خيالي لخربشة أسمائهم على الجدران الداكنة.

أنا لم أكتب اسمي على الجدران. ولم أقتن طباشير، اقتناعا مني بأنه لا يجوز لطالب مقيم بموسكو أن يشتري إصبع طباشير بثلاثين روبل. ولكنني يا سيدي أخذت معي كل الجدران و المدرج. وقلعت الخشب دون أن أفسد نقوشه. ولقد أحببت - بولغاكوف - بعدها وأسكنته بيته ثانية بعد أن أعدت طلاءه من جديد.

هي عشرون سنة، مضت الآن، قرأت لك فيها بعض الشذرات من هنا و هناك. ومن حسن حظي أنني قرأتها في حضرة زمن، لم تعد فيه أنت نفس أستاذ حصّة العربية التي كان علي حضورها، كما أنّني لم أعد منبهرا بطلاسم القيروان، وأحاجي الزوايا.

قرأتها في زمن، كنت مضطرا فيه لرسم دائرة بقلم الرصاص لأحد ّد لصديقاتي المفتونات بالشمس، موقع البلاد…بلادي التي يلفها البحر من جهتين والصحراء من جهتين.

قرأت قصائدك بموسكو يا سيدي، وأعدتها بمصر، وحفظتها بألمانيا. واقتنعت بأنّك لم تزرع كل ذلك النخيل إلا من أجل إحراق جذوعه فيما بعد.

لونك بني يا سيدي، وثمارك قطافها الخريف…فهل أخذتني تابعا أشي بك عند الخلفاء والسّلاطين ؟

أشد على يديك…وأنت تصبر عن سذاجة الآلهة الجديدة التي لم ترث عن أجدادها العظام سوى الرغبة في الإيذاء.

أشد على يديك…وأنت تفتح باب التوبة للعبارة المارقة، وتعيدها جارية للجلاس….أشد على يديك…

وأنت تنهض بغضبة الأعراب لزجر السحاب عن مزارع العظام شمال المقبرة القديمة.

وأنت تصر بأسنانك لطرد الفراش الملون الذي يسوقه الضوء إلى أقبية البيوت العتيقة.

عشرون سنة مضت الآن، ولا زلت أنت تقيس المسافة الفاصلة ما بين السور الشرقي وجنوب المقبرة -.

عشرون سنة وأنت منهمك بعزم غريب في مهمتك، لا تقف إلا للحظة عابرة لتعلن بإشارة عميقة، وأنت تهز حاجبيك، بأن للقيروان روحا عنيدة، تتكاثر كل ما قلت، وتتسع كل ما ضاقت.

هل تؤمن حقا بالأرواح العابثة يا سيدي…؟

وهل تؤمن حقا بأن حدود القيروان نبوءة ، وبأن مساحتها أوسع من الجغرافيا الحديثة…؟

عشرون سنة مضت يا سيدي، و إذ كان أنّني لم أهنئك بعيد ميلادك قبل عشرين سنة، فإنّني سأفعل الآن.

لقد جبت العالم خلال تلك الأعوام. شاركت بتشييع جنازة لعجوز لا أعرفه بجنوب إيطاليا. وارتدت مقهى تدخن فيه الصبايا القوقازيات الغليون بموسكو. عرفت حانات لا تبيع الخمر إلا للغرباء. وأخرى تقد م عصير -الساماغون- ممزوجا بالفودكا لتخفف من وطأة الكآبة التي تصاحب ليالي أوكرايينيا عند أواخر شهر الحزن- ديسمبر- شهرك يا سيّدي.

سبحت يا سيدي بملابسي في بحر البلطيق. ورميت بفتات الخبز لطيور النورس ببودابست. نمت بمحطة القطارات ببرلين، وقاسمني الغجر خبزهم بالقوقاز…

وانتهيت يا سيدي إلى غرفة بنافذة واحدة بميونخ. ميونخ الرمادية اللون.

عشرون سنة مضت يا سيدي، لم يحدث خلالها أن يسمعت نباح كلب، ولم تفاجئني عنزة، ولم تخفني بقرة هائمة في غبش الفجر.

العالم ضيق يا سيدي، وربما كان من الأفضل إعادة توزيع المدن بشكل لائق.

عشرون سنة، كنت مشغولا عنك وعن القيروان. جر بت أن أقيس حدود الأرض بخطواتي، ولكنّني لم أخط شبرا واحدا. والذنب ليس ذنبي يا سيدي فالمدن متشابهة. البخار المتصاعد من نهر الفولغا غربا، هو نفسه ضباب نهر مجردة جنوبا. نهود الصبايا المحصورة بمبنى البابوشكا بموسكو هي نفسها خواض الحناء بضريح- سيدي بوفندار-.

إنه نزق التكوين يا سيدي. ألم تر أنّ العبارة تتكور كالصلصال حينا وتلين حينا آخر كالماء…؟

إنه نزق الأسماء يا سيدي. أولم تقل أنت بأن أبانا آدم تعلم أن يسمي الأشياء ولم تستو أسماؤها بعد…؟؟

العالم ثابت منذ البداية، وأصله واحد.

وإذا كان أنني بعد عشرين سنة قادمة، لا أقف عند مدخل القيروان الشرقي لأتابع انشغالك بقيس الأمتار الزائدة، التي امتدت حديثا ما بين سور القيروان الغربي ، وضريح الإمام سحنون المتفق عليه، فلا تنقطع عن واجبك المقدس. سأنتهز فرصة أخرى وأغافل جسدي يوما قبل موعده الموقوت، ثم أعود عشبة تزهو بعروقها الضاربة في رحم القيروان.

سأفشي عندها، للزوار الذين يرتادون الأماكن مر ة واحدة، بأسرار أقبية القيروان، وأحكي لهم عن الودع الموشى بأعواد الخيزران.

سأشير بمكر نحوك ياسيّدي، فيندهش الزوار.

السنوات متشابهات، كما الأماكن يا سيدي.

وليكن أن هذا العام أطول من غيره.

فنحن سنعد أيامه على أصابعنا… وسنغش في العد كل ما سار بعيدا.

فواصل عملك أنت. لا تهتم بنا. إننا مثل طيور الأحاجي يا سيدي…

تطير باتجاه الغرب، لتحل بالشرق من جديد.

عامك سعيد إذن. وكل عام والقيروان بخير.

كمال العيادي - ميونيخ
www.kamal-ayadi.com








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل


.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف




.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس