الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في 13 شباط... استذكار شهداء ملجأ العامرية

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 2 / 13
حقوق الانسان


استذكاراً لشهداء ملجأ العامرية


في مهرجان أقيم في مدينة (أمستردام ـ هولندا) لعدد من الفنانين الأجانب، كانت الموضوعات تتمحور حول فعاليات تقليدية من البلد الأم، وكان أحد الأعمال الذي اُختير من بين مجموعة أعمال أخرى، هو استذكار (شهداء ملجأ العامرية).
الفلسفة في العقيدة المندائية هو أن الحياة تبدأ بولادة الشخص، ولا تنتهِ إلا بممارسة طقوس خاصة قبل وبعد الوفاة.
غالباً ما تكون وقبل الوفاة الطبيعية للشخص كبير السن أو من مصاب بمرض وقد وصل لأيامه الأخيرة، أن يعيش الإنسان حالات احتضار وغيبوبة تتطور لتصبح ما يُطلق عليه (سكرات) الموت.
وهذه حالة طبيعية تمر على حالة ما قبل الوفاة، فيها ـ بالعقيدة المندائية ـ تبدأ طقوس خاصة لإعداد من يحتضر (جسدياً) أن يلاقي خالقه في السموات العليا بوضع مناسب ونظيف، لخوض رحلة شاقة في السماء تتطلب المزيد من الجهد في قطع مسافات ومسافات...

من بين ما يتطلبه ذلك وبمساعدة رجال دين أن يرتدي من هو على وشك الوفاة ملبس أبيض خاص، وأن تقرأ آيات من كتابهم المقدس لإعداده لملاقاة خالقه.
وإن حدثت الوفاة قبل تلك الممارسة، فإن ذويه يقومون أيضاً بتكفينه وقراءة الصلواة عليه.

لكن إن حدث بشكل استثنائي ولم تتواجد جثته كمن يُفقد أو يغرق أو يُقتل في حرب، أو لو أن الوفاة حصلت نتيجة حادثة، أي بغفلة في الطريق أو بمستشفى وخضع للتشريح، فلم يتسنَ تكفينه ضمن تلك الطقوس، يجب ـ وهذا ما يتميز به الدين المندائي ـ وبعد مواراته الثرى بملبسه العادي أو برداء المستشفى، أن يقوم أهله بتهيئة ملابس تكفين خاصة، ملابس بيضاء طاهرة، وأن ترسل له هذه الملابس بطقوس خاصة (تسلم لرجال الدين)، لأن المتوفي سيبقى بإنتظارها كي يلاقي ربه، وإلا لم يسدل الستار على حياته وتبقى ثمة أمور (يجب) أن تتم...
× × ×

وكانت هذه الفكرة هي التي اقتنعت بها اللجنة الهولندية المشرفة كونها مستوحاة من طقوس موجودة في الأديان الشرقية، وذلك باستكمال مراسيم الوفاة لمن لم يَحظوا بالإعداد قبل الوفاة أو بالتكفين عند وفاتهم، وهي طقوس تُمارس لكل مندائي فيما لو توفي في ظرف استثنائي ولم يُدفن حسب الأصول، وتلك الملابس تسمى (القماشي) أي الملابس البيضاء الخاصة بمن سيرحل والتي يجب أن يلبسها قبل أو بعد وفاته أو أن ترسل لمن لم يتسنى له لبسها.

كان العرض مُبسط جداً يُجسد فكرة أن دورة الحياة ـ في الاعتقاد المندائي ـ التي تبدأ بالولادة، يجب تنتهي (بتلبيسه) وليس بمجرد التكفين بلفه بورق البردي، وان لم يتحقق ذلك فتجرى طقوس لإرسال الكفن له بعد الوفاة، وهذه الفلسفة (فريدة) لا توجد سوى بالمعتقد المندائي، ولم تتطرق لها أديان أخرى أو معتقدات أو حضارات قديمة.
× × ×

تتم المراسيم (السيرموني) باستقبال الزائر وإطلاعه سريعاً عن مأساة ملجأ العامرية، ودعوته لدخول (معبد المشاعر) بمروره من تحت سعفة نخلة بجانب رمز الطائفة (الدرفش)، ليلتقي بقائمة معلقة على الحائط لأسماء باللغة العربية غير محددة لأطفال ونساء ورجال، كمثال لمن أحترقوا بالملجأ ولم يتسنَ تكفينهم.

ويطّلع الزائر على مجوعة لوحات شفافة رُسمت بمواد طبيعية من ورق الشاي وحبات أو مطحون القهوة ومن ورق الشجر (لعوائل ثكلى أو لصعود الروح لعالم الأنوار او لتجذّر الإنسان بالأرض وضرورة عودة جسده لها).
ويقوم الزائر أولاً بوضع دائرة حول أسم يختاره، ثم يتّبع مسيرة محددة حول منضدة خشبية واسعة (2×5) متر، وذلك باختيار نموذج يمثل أبدانهم المتفحمة وهو عبارة عن أعواد خشب محترقة ليقوم بلفها بورق الشجر الذي يحاكي القصب والبردي بعقيدتنا، وهنا اعتُمدتْ الطبيعة فقط كمصدر للنماذج.
وبعد عملية تكفين النموذج ودفنه في الرمل الأبيض كرمز للنقاء، يقوم المتطوع بمسح الاسم الذي أختاره داخل الدائرة التي رسمها باستخدام قطرة ماء معطرة بعطر شرقي طبيعي من وعاء قريب، للدلالة على انتهاء مراسيم دفن طاهرة وإرسال كفن نظيف له.
يُقَدّم للزائر (التمر) أكراماً للميت (ثواب)، بعد توضيح مدى قدسية النخلة في معتقدنا، كونها تحمل نفساً كمن نحن البشر.
فوجئ الضيوف بطعم التمر بالجوز والسمسم، وأعجبوا به وطلبوا أن يأكلوا المزيد.

لقد فاقت نسبة الحضور توقعات حتى المنظمين، وكان الضيوف من جميع الفئات العمرية... وقد مارس الضيوف وبكل خشوع وجدية تلك الطقوس، وصمم صبياناً على أدائها بإصرار شديد، واستسلم بعضهم للحزن ومنعته دموعه من استكمال هذه الفعالية، ثم عادوا بعد أن استجمعوا قواهم لاستكمال ما بدءوا به، وبعضهم لم يدخل إلا بعد أن حمل زهرة بيده، وكثيراً منهم أستأذن قبل الدخول احتراما لعاداتنا وتقاليدنا.

أن هكذا استذكار، هو لجميع ضحايا العنف حول العالم، مثلاً ضحايا هيروشيما وناكازاكي وضحايا الهولوكوست و11 سبتمبر والبوسنة ونزاعات والعراق وسورية وأفريقيا غيرها... وهي تُجسد محاكاة لأرواحهم البريئة، والتعاطف مع مشاعر أهلهم وأصدقائهم.
كان عدد الذين استطاعوا أن يمارسوا هذه الطقوس 66 متطوع في اليوم الاول، و 72 في اليوم الثاني، أي بمعدل ممارس واحد للفعالية كل خمس دقائق، بينما ظل آخرون خارج (المعبد) ولم تُتح لهم فرصة الدخول، بسبب ضيق الوقت والمكان.

ولفتت نظر الكل رائحة البخور الزكية وماء الورد المعطر، وطريق المقبرة المتعرج ـ على المنضدة ـ ليدل على أن الحياة عبارة عن محطات فيها غنى وفقر، مرض وصحة، سعادة وحزن ...
وتم نثر أشكال لزهور على واجهة المنضدة، صُنعتْ من قشور الفواكه المجففة لتعطي لون ورونق، وضعت على تربة مكونة من ورق الشاي والقهوة، للإشارة لاستخدامهما في مجالس استذكار الموتى، وتم تمثيل الجثامين بأغصان يابسة أو محترقة للدلالة على الاحتراق الكامل أو الجزئي لضحايا ملجأ العامرية.


يشعر المتطوع من خلال ذلك بأنه قد قام بمساعدة أحد ضحايا الحروب، في مكانٍ ما وفي زمانٍ ما، فممكن أن يكون له صديق أو قريب، قضى دون أن يُكفّن، وها قد أوفى له.

طلب زائر يوغسلافي أن يقوم بمراسيم دفن لأخية الذي قضى ببلده دون أن يراه أو أن يتم تكفينه ودفنه، وذهب آخر لتصور ميتهِ هو الشخص الذي رآه يرمي بنفسه من أعلى برج التجارة بنيويورك، وأرادت سيدة أن تَدفن (زوجها) التي غرق أمام عينها في البحر وودعته بسيلٍ من الدموع.
ومن المفارقات الأخرى أن وَضعنا بين نماذج الجثامين، قطع ذهبية اللون وفضيّة كمثال (للذهبة والكسبة) التي تخيط بمربس المتوفي لتعينه ـ حسب الفلسفة المندائية ـ في طريق صعودة لملاقاة خالقه، ولما صعب علينا شرح الفكرة لمجتمع غربي، أعتقد الزائر إنما هي بقايا حُلي وساعات ومقتنيات الضحايا في ملجأ العامرية!
فصمموا أن يرفقوا مع نموذج الجسد المحترق قطعة منها، كما حرصوا أن يتعرفوا من خلال الاسم الذي يختاروه والذي هو باللغة العربية، هل أن الضحية التي تكفلوا بدفنها هي لطفل أم بنت أم ولد، وان كان لأم، بحثوا عن أسماء لأطفالها على فرض أنها اصطحبتهم معها لحمايتهم، وحرصوا على دفنهم بالقرب منها...

إن هذه الفعالية هي لاستذكار ضحايا الحروب والجريمة والحقد الأسود الذي يفتك بالبشر ويحول دون تطور الشعوب ورفاهيتها، وأن المدنيين هم ضحايا العنف، وهم من قتلوا أو أصيبوا أو يتّموا أو ثكلوا، قلق وخوف وحزن وفراق... ثمار سامّة تقطفها الشعوب نتيجة مغامرات الحكام !

قمنا أخيراً بأجراء طقوس تكميلية أمام الهولنديين في مدينة (تيل) على شاطئ نهر الراين، لإطلاق 138 نموذج (للجثامين المسجات بالاكفان) في الماء الجاري.

الحمد لله أننا نجحنا بإيصال الفكرة بقوة، وتبسيط فلسفة مميزة جداً بالدين المندائي ـ ان تُرسل ملابس للميت بعد وفاته ـ وإيصال المشهد خلال دقائق لمتلقي مثقف متذوق في مجتمع متحضر، وأوفينا ولو قليلاً لشهداء ملجأ العامرية.

عماد حياوي المبارك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عمل انساني
فريد جلَو ( 2015 / 2 / 14 - 00:51 )
لاول مره اسمع بعمل من هذا النوع ذو مفاهيم انسانيه وطنيه مأطر بأطر النكه الشرقيه من تقليد فهو اقوى تأثير على المتلقي من مات المقالات والمؤتمرات والعقل العراقي قادر ان يبدع عندما تتاح الفرصه ولا اخفي سرا ان واثناء قراة االمقال شعرت بانتقال مكاني واني احد الحضور وبدأة عيناى تدمعان استذكارا لكل شهداء الوطن ومنهم الشيوعيون اذ ان يوم 14 -2 مخصص لاستذكاره

اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية