الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ

شريف رزق

2015 / 2 / 13
الادب والفن







لِلغُرفةِ في قَصِيدَةِ النَّثرِ الجديدَةِ حضورٌ خاصٌّ ؛ فهيَ المأوى وَالرَّحِمُ وَالخلاصُ ، فيْهَا يتحقَّقُ للذَّاتِ الإنسَانيَّةِ المعاصِرَةِ ، العَادِيَّةِ ، البسِيطَةِ ، حضُورُهَا الإنسَانيُّ الحمِيمُ ، ويتبدَّى سائرُ مَا تحتويه الغُرفَةُ في علاقاتٍ شديدَةِ الحمِيميَّةِ ، معَ الذَّاتِ المسْتوحِدَةِ ، وَرُبَّمَا تكونُ هذه العِلاقاتُ بديلاً عن حالةِ الغُربةِ وَقِلَّةِ التَّواصُلِ معَ الآخرينَ ؛ فالأشياءُ هيَ أكثرُ منْ أشياءَ هُنَا ، وَالذَّاتُ هيَ ذاتٌ شَخصانيَّةٌ ؛ تتكشَّفُ لذاتِهَا ، وَلعالمِهَا الخاصِّ ، والموحِشِ ، مُتجرِّدةً منْ شتَّى المسوحِ والأقنعةِ ، مُتحرِّرةً منْ شتَّى آليَّاتِ القمعِ الخارجيَّةِ المضروبةِ حَوْلها ، وَمُلتحِمَةً بأصْواتِهَا الدَّاخليَّةِ الحمِيمَةِ ، وَكَمَا تبدو الغُرفَةُ وَطنًا ، تبدو - كذلكَ – مَنْفَي ، وتبدو أكثرَ منْ جُدرانٍ ، وَنَوَافذَ ، وَسَقْفٍ ، وَأثاثٍ ، وَقَدْ تبدو أشْياؤهَا كائناتٍ ، تحيَا ، وَتعِي ، وَتشْعُرُ ، وَتُقاسِمُ صَاحبَهَا الهوَاءِ وَالفَضَاءَ .
في فَرَاغِ الغُرفةِ تخلو الذَّاتُ بذاتِهَا ، بمعزلٍ عنْ كلِّ غريبٍ عنْهَا ، وَعَنْ كلِّ قيْدٍ ؛ لتكونَ كَمَا عبَّر والت وايتمان ، في نصِّهِ : في الدّروبِ المقفرَةِ :
" هُنَا ، وَحْدِي ، بعِيدًا عنْ ضَوْضَاءِ العَالمِ ،
مُصْغيًا ، وَمُتحدِّثًا إليَّ ، هُنَا بألسِنَةٍ عَطِرَةٍ
لم أعُدْ أشْعُرُ بالحيَاءِ ؛
لأنَّني في هَذا المكَانِ المنعَزِلِ
أسْتطيعُ أنْ أسْلُكَ كَمَا لا أجرؤُ على السّلوكِ
في مَكَانٍ آخر ."(1)
وَمِنْ أبرزِ التَّجاربِ الإنسَانيَّةِ ظهورًا في شِعريَّةِ الغُرفَةِ ، تجربَةُ العُزلةِ ؛ بأبعادِهَا الصُّوفيَّةِ وَالاجتِمَاعيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ ؛ حيثُ تبدو الذَّاتُ الشَّاعرَةُ ، مُنفصِلةً عنْ الجمَاعَةِ ، مُلتحِمَةً بتفاصِيلِهَا الخاصَّةِ ، وَرُؤاهَا الشَّخصِيَّةِ ، مُقاومَةً وَطْأةَ العَالمِ الخارجِيِّ ، بالولوجِ إلى عَوَالمِ الغِيَابِ ، وَصُنْعِ عَالمٍ بديلٍ خاصٍّ ؛ تَسْكُنُهُ ، وَتَتَوَحَّدُ به ، أو تملأ فَرَاغَ الواقعِ بالمتخيَّلِ ؛ فيتداخَلَ الواقعيُّ بالشَّطحِيُّ ، وَالمتعَيَّنُ بالمتخيَّلِ ، في جديلةٍ شِعريَّةٍ تُؤكِّدُ الذَّاتُ الشَّاعرةُ على مُعايشتِهَا وَاقعيًّا ، كَمَا في قَوْلِ فريد أبي سِعْدَة (1946- ) :
" هَذَا مَا حَدَثَ
( وَلْيَمْسَخْنِي اللهُ حَجَرًا
إنْ كُنْتُ أكْذِبُ )
كَانَتْ الغُرْفَةُ طافيَةً في بُخَارٍ طريٍّ
وَكَانَ أبي قاعِدًا يُرتِّقُ سروالَهُ
وَينظُر إليَّ
وَمِنْ حِيْنٍ إلى آخَرٍ
يبتسِمُ .
عِنْدَمَا خَرَجَ منْ الصُّورَةِ العائليَّةِ شَخْصٌ مَا وَاصْطَحَبَ أبي
إلى صُورَةٍ أخْرَى !! "(2)
إنَّ العَجَائبيَّ وَالشَّخصِيَّ يُقدَّمُ ، في تأكِيْدٍ على وَاقعيَّتِهِ ؛ وَيَتَضَمَّنُ فِعْلُ التَّأكِيدِ ، هُنَا ، وَعيًا كَامِلاً بِتَجَاوزِ المسْرُودِ العُرْفَ الوَاقِعيَّ ، وَغَرَائبيَّتَهُ ؛ باعْتِبَارِهِ حَدَثًا فوْقَ وَاقِعيٍّ ؛ فثمَّةَ شَخْصٌ يخرُجُ منْ الصُّورَةِ العَائليَّةِ ، وَيَصْطَحِبُ الأبَ ، منْ المشْهَدِ الحياتيِّ المعِيشِ ، إلى صُوْرَةٍ أخْرَى ، وَهَذا الأبُ – في مَوْضِعٍ آخَرٍ – يقومُ بمعكوسِ الحدَثِ ؛ فيُغَادِرُ الصُّورَةَ ، وَيَتَحَرَّكُ في الصَّالةِ ، وَيَتَنَقَّلُ بينَ الغُرَفِ ؛ ليُؤدِيَ مَا دَأبَ على أدَائِهِ ، في حَيَاتِهِ المعِيشَةِ ، على هَذَا النَّحوِ :
" تَرَكَ الصُّورَةَ وَمَضَى
تَوَقَّفَ في الصَّالةِ قليلاً
ثمَّ ذَهَبَ .. تَأَكَّدَ بنفْسِهِ
مِنْ غَلْقِ صَنَابيرِ الماءِ وَالغَازِ
دَلَفَ إلى حُجْرَةِ النَّومِ وَقَبَّلَ زَوْجَتَهُ
ثُمَّ أحْكَمَ الغِطَاءَ على الأوْلادِ
دَائِمًا الوَلدُ يَرْفُسُ الغِطَاءَ
دَائِمًا البنْتُ تَنْسَى الموسِيقَى
كُلُّ شَيءٍ في مَكَانِهِ
ابتَسَمَ
وَذَهَبَ هُوَ الآخَرُ
إلى مَكَانِهِ
في الصُّورَةِ العَائِليَّةِ ؟ "(3)
وَتُتيحُ أجْوَاءُ العُزلةِ لِلذَّاتِ المسْتوحِشَةِ أنْ تقترِبَ أكْثَرَ مِنْ أشْيائِهَا المحيطَةِ بها ، في الغُرْفَةِ ؛ فتكْتَشِف عَوَالِمَهَا ، وَتكْتَشِف فيْهَا عَوَامِلَ التَّشابُهِ مَعَهَا ، ككائنٍ يُشَاركُهَا الحيَاةَ ، في الفَضَاءِ ذَاتِهِ ، على النَّحوِ الَّذي يُمْكِنُ مُلاحَظتُهُ في قَوْلِ عليَّة عبد السَّلام (1968- ) :
" فُسْتَانٌ جميلٌ وَرْدِيٌّ
مُطَرَّزٌ بزهورِ دَانيلا بيضَاءَ
قديمٌ وَمُتهالِكٌ
فوقَهُ مِنْ التُّرَابِ وَخيوطِ العَنْكَبُوتِ
مَا يمنحُهُ القَدَاسَةَ
مِثْلُهُ أنَا مَرْكُونةٌ في ذَاكِرَةِ اللهِ
عَلَّهُ يومًا يَتَذَكَّرني ."(4)
ثمَّةَ حالةٌ منْ التَّواصُلِ بيْنَ الكائِنيْنِ المنْسِيَّينِ ، في غُرفةٍ مُوحِشَةٍ ، كقبرٍ ، بعيْدٍ ، عنْ الذَّاكرَةِ ! .
وَفي الغُرَفِ المغْلَقَةِ ، تُهيمِنُ شِعريَّةُ الصَّمتِ ، وَالغِيَابِ ، وَالإصْغاَءِ للأشْيَاءِ ، وَالتَّلاشِي في التَّفاصِيلِ المعِيشَةِ ؛ لِتَشْغَلَ فَرَاغَ الغُرْفَةِ ، وَللأشْيَاءِ ، في الغُرَفِ ، تجلِّيَانِ ؛ فهيَ حِينًا تبدو مُسْتقلَّةً ، عنْ الجسَدِ الإنسَانيِّ ، وَحِينًا تبدو " تجلِّيًا خَارجيًّا ، لِلـْ " أنَا " ، ويبدو اسْتقلالُهَا عنْهَا نِسْبيًّا ، لا مُطلقًا ؛ فهيَ – في ذلكَ – بعضُ أعْضَاءِ " الأنَا " المشدودَةِ إليْهَا ، بحبلٍ سُرِّيٍّ ، غيرِ مَرْئيٍّ ، بحيثُ تبدو مَشْرُوطةً وَشَارطَةً – في نَفْسِ الوَقْتِ – لإيقَاعَاتِ " الأنَا " ، هيَ امْتِدادٌ مَا لِلْجَسَدِ الإنسَانيِّ ، وَانْفِصَالٌ عنْهُ في آنٍ ، يُشَاركُ هذَا الجسَدَ توتُّراتِهِ وَتقلُّصَاتِهِ وَانفجَارِهِ بِالشَّهَوَاتِ المحرَّمَةِ "(5) ، وَتَتَّخذُ عِلاقَةُ الذَّاتِ بالأشْيَاءِ إطارينِ أسَاسِيَّينِ ، يقِعَانِ على المحوريْنِ الآتيينِ :
محور التَّشيُّؤِ .
محور الأنْسَنَةِ .
على المحورِ الأوَّلِ ؛ محورِ التَّشيُّؤِ ، تَتَحوَّلُ الذَّاتُ إلى أشْيَاءَ ، تخرجُ بها عنْ طبيعَتِهَا البَشَريَّةِ ؛ لِتُصْبِحَ شَيْئًا منْ الأشْيَاءِ ، وَيَلْعَبُ المخْيَالُ الشِّعريُّ دَوْرًا مَرْكزيًّا في إنتَاجِ صورٍ مُدْهِشَةٍ وَحُرَّةٍ ؛ تقومُ على تقنيَةِ (الصُّورَة السَّرديَّة) ، وَمِنْ ذَلكَ قوْلُ ميلاد زكريا (1971- ) :
" عِنْدَمَا وُلدْتُ
لمْ يَكُنْ هُنَاكَ أحَدٌ في انْتِظَاري
نَظَرَتْ أمِّي إليَّ بدونِ اسْتِغْرَابٍ
وَحَمَلَتْنِي بِبَسَاطَةٍ شَدِيدَةٍ
إلى الرَّفِّ المجاوِرِ لِصُورَةِ المسَيْحِ
ذَلكَ الرَّجُلِ الَّذي كَانَ يأتي إليَّ عِنْدَمَا ينامونَ جمِيعًا
وَيَتَحَدَّثُ معِي في أمورٍ كثيرَةٍ
كانَ عَيْبُهُ الوحِيْدُ أنَّهُ لمْ يَكُنْ يَشْعُرُ بمدَى تَعَاسَتِي
وَأنَا أحْيَا بدُونِ جَسَدٍ .
وَلمْ يَكُنْ هُنَاكَ أحَدُ آخَر
يُبْدِي تعجُّبَهُ منْ هَيْئَتِي الغَريبَةِ
كُنْتُ أحْسِدُ الجمِيعَ على امْتِلاكِهِمْ أجْسَادًا
بَيْنَمَا أنَا مجرَّدُ رَأسٍ مَقْطُوعٍ على رَفٍّ قديمٍ
وَفي الوَقْتِ نَفْسِهِ كَانُوا يُبْدُونَ إعْجَابَهُمْ بألوَانِ عَيْنِي فَقَطْ ..!! "(6)
وَغَالبًا مَا يحدُثُ التَّشيُّؤُ لِلْبُسَطاءِ وَالمهَمَّشِيْنَ ؛ الَّذينَ لا يَشْعرونَ بوجودِهِمْ مِنْ فَرْطِ عَدَمِ شُعورِ الآخَريْنَ بِهِمْ ، وَمِنْ ذَلكَ قَوْلُ عماد أبي صَالح ، في تشيُّؤِ أحَدِ أطْفَالِ الشَّوارِعِ :
" القَمَرُ يحسُدُهُ
وَالكِلابُ تبولُ قُرْبَ فَمِهِ

حَاوَلَ
، في الصَّبَاحِ
أنْ يَنْهَضَ
قَبْلَ أنْ يوقِظَهُ عَامِلُ الحدِيقَةِ
بخرطومِ الميَاهِ
لكنَّ العُشْبَ كَانَ قَدْ نَبَتْ
في جَسَدِهِ كُلِّهِ
فَرِحَ
لأنَّهُ لنْ يَشْعُرَ بحرَارَةِ الشَّمسِ
وَلأنَّهُ سَيَنَامُ على رَاحَتِهِ
دُونَ أنْ يَنْهَرَهُ أحَدٌ .

مَر يَوْمٌ
يَوْمَانِ
أيَّامٌ كَثِيرَةٌ
وَهُوَ لمْ يَعُدْ يَرْغَبُ في النّهوضِ
وَشَيْئًا فَشَيْئًا
تحلَّلَ جَسَدُهُ تمامًا .

لمْ يَعُدْ مِنْهُ سِوَى
ابْتِسَامَةٍ خَفيفَةٍ
، تُحَرِّكُ النَّسِيْمَ
، حِيْنَ يُنَادِي بائعُ البَالونَاتِ ؟"(7)
وَعلى المحورِ الثَّاني ؛ محورِ الأنْسَنَةِ ؛ تتحوَّلُ الأشيَاءُ إلى ذَوَاتٍ ، تُشَاركُ الأنَا المسْتَوْحِشَةَ الحضُورَ ، وَتَتَفَاعَلُ مَعَهَا ، أوْ تَتَبَدَّى في حَيَوَاتٍ بَشَريَّةٍ ، وَمِنْ ذَلكَ قَوْلُ محمَّد السَّيد إسماعيل (1962- ) ، في نَصِّ : " تحوُّلات المكتبِ القَدِيم " :
" لمْ تفعَلْ بِهِ كُلُّ هَذِهِ السَّنَوَاتِ شَيئًا
رَغْمَ طولهَا الَّذي يَبْلُغُ خمسَةً وَثلاثينَ عَامًا
كُلُّ مَا حَدَثَ
أنَّني قَدْ لاحَظْتُ في الفَتْرَةِ الأخِيْرَةِ
رُطوبَةً خَفِيفَةً في القَائِمِ الأيمنِ
وَغَبْرَةً قليْلَةً في مَوْضَعِ الكتابَةِ
لكِنَّ هَذَا – رَغْمَ كُلِّ مَا أثَارَهُ لدَيَّ مِنْ شجونٍ –
لم يكُنْ شَيْئًا بجانِبِ قُدُرَاتِهِ العَديدَةِ
فَهُوَ خَفِيْفٌ
لِدَرَجَةِ أنَّهُ قَدْ سَبَقَني ذَاتَ يَوْمٍ بَعِيْدٍ
إلى الدَّورِ الثَّاني
مُتَّخِذًا مَكَانَهُ الأثيرَ
في مُوَاجَهَةِ النَّافِذَةِ
وَأكْثَرَ مِنْ ذَلكَ فهُوَ رَحِيْمٌ جِدًّا
لِدَرَجَةِ أنَّهُ يَتَحَوَّلُ – وَقْتَمَا أُرِيْدُ –إلى صَدْرٍ
أُرِيْحُ رَأسِي المكدُودَ فَوْقَهُ
وَعِنْدَمَا أسْتيقِظُ
يَتَحَوَّلُ تِلْقَائيًّا
لِسَاحَةٍ صَغِيْرَةٍ
أرَى خِلالهَا "
" ابْنَ حَزْمٍ "
وَ "ملوكَ الطَّوائِفِ "
وَ" الأسَاطِيْرَ المؤسِّسَةِ لِلسِّياسَةِ الإسْرَائيليَّةِ "
وَبَعْضَ :" الثَّوَرَاتِ الشَّعبيَّةِ "
وَعِنْدَمَا – لأسْبَابٍ كثيرَةٍ – تَنْقَطِعُ الكَهْربَاءُ
يَتَحَوَّلُ إلى كَتِفَيْنِ
يَنْتَظِرَانِ صُعُودِي
كَيْ أبدِّلَ المصْبَاحَ . "(8)
وَمِنْهُ ، كَذَلكَ ، قَوْلُ مَهْدِي صَلاح :
" لايَزَالُ
الجاكِتُ البُنيُّ الشَّاموَاهُ
ذُو الأزْرَارِ الفِضّيَّةِ اللامِعَةِ
وَاليَاقَةِ العَاليَةِ
محتفِظًا
بِذَاكِرَةٍ طَازَجَةٍ
حَتَّى بَعْدَ أنْ نَحَلَتْ فَرْوتُهُ
وَاكْتَسَبَتْ لَوْنًا رصَاصِيًّا
يُشْبِهُ عَلامَةَ التَّعجُّبِ
وَكُلَّمَا أبْعَدُوهُ
إلى زَاويَةٍ مُهْمَلَةٍ
عَاوَدَ الظُّهورَ مِنْ جَدِيد ."(9)

وَلا تَكْمُنُ العِلاقَةُ بَيْنَ التَّشيُّؤِ وَالأنْسَنَةِ في أنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا مَعْكُوس الآخَرِ ، فَقَط ؛ وَإنَّمَا في أنَّهُمَا يَعْكِسَانِ ، مَعًا ، حَالَةَ الاغْتِرَابِ ، وَالتَّواصُلِ مَعَ الأشْيَاءِ القَريبَةِ ؛ بالتَّمِاهِي فيْهَا ، أوْ بِاكْتِشَافِ حَيَوَاتِهَا الخاصَّةِ ؛ فَتَتَّسِع الذَّاتُ لأشْيَائِِِِِِِهَا ، وَتَتَّسِعُ الأشْيَاءُ لِلْكَائِنِ البَشَريِّ ، في مَشْهَدِ الغُرْفَةِ .

وَفي عُزْلةِ الغُرْفَةِ ، تَتَفَتَّحُ الحوَاسُ ، وَتَتَكَشَّفُ الصَّبَوَات ، وَتَتَأجَّجُ الشَّهَوَاتُ ، حُرَّةً ، جَيَّاشَةً ، كَمَا في قَوْلِ كريم عبد السَّلام (1967- ) :
" عَاريًا في سَريرِكِ ،
وَحِيْدًا في الرَّبعِ الخَالي
جَمَعْتُ سَبْعَ شُعَيْرَاتٍ لكِ
أنفِي جَابَ الملاءَاتِ طُوْلا وَعَرْضًا
وَمِنْ بَقَايَا رَائِحَتِكِ صَنَعْتُ تمثالاً ناقِصًا
حَرَقْتُ له البُخورَ وَقَرَأْتُ عَليْهِ كُلَّ التَّعَاويذِ الَّتي أعْرِفُ ،
لِيُصْبِحَ في هَيْئَتِكِ الكَامِلَةِ .
أدورُ في الغُرْفَةِ ، أُنَاديْكِ وَأعْوِي مِثْل ذِئْبٍ في الأسْرِ
وَأشُمُّ رَائحَتَكِ على البُعْدِ تُبادِلُني العُوَاءَ
بَيْنَمَا يقطُرُ شَهْدُكِ على الأرْضِ
أسْنَاني في عُنْفِ المخدَّةِ ، مُنْصِتًا لِفَحِيْحِكِ العَمِيْقِ ." (10)
إنَّ حَرَائقَ الجسَدِ ، تَتَوَهَّجُ – بغيرِ حدودٍ – في فَضَاءِ الغُرْفَةِ ، كَاشِفَةً ، عنْ شَهَوَاتٍ حَقيقيَّةٍ ، تَتَّقِدُ ، عَاريَةً ، وَعَارمَةً ، وَحُرَّةً ، منْ شَتَّى آليَّاتِ القَمْعِ .

إنَّ شِعريَّةَ الغُرْفةِ ، بهذَا ، تَتَخَطَّى مجرَّدَ اعتبارهَا رَصْدًا لمَا يحدُثُ في الغُرَفِ المغلَقَةِ ، إلى الكَشْفِ عنْ علاقَةِ هذِهِ الغُرْفةِ بالفَضَاءِ الاجتمَِاعِيِّ المحيطِ بهَا ، وَتحوُّلاتِ الذَّاتِ المسْتوحِدَةِ في رَحمِهَا ، تصنعُ شِعريَّةُ الغُرْفةِ صورًا مُقرَّبةً لِلذَّاتِ الإنسَانيَّةِ ، في دَوائرِهَا القَريبَةِ الخاصَّةِ ، في حَيَوَاتهَا الخَاصَّةِ ، المحرَّرةِ منْ شَتَّى آليَّاتِ القَمْعِ المجتمَعِيِّ ، وَفي عِلاقتِهَا بالأشْيَاءِ الحمِيْمَةِ ؛ المتمثِّلةِ على محوريْنِ أسَاسيينِ : محور التَّشيُّؤِ ، وَمحورِ الأنَسْنَةِ ، وَفيْهِمَا ، مَعًا ، تتفاعَلُ الذَّاتُ مَعَ الأشيَاءِ ، تفاعُلاتٍ مُتعدِّدةٍ ؛ تكشِفُ عنْ تحقُّقاتٍ شِعريَّةٍ لافتَةٍ ، كَمَا يتحرَّرُ الجسَدُ ، منْ آليَّاتِ القَمْعِ المضروبَةِ حَوْلَ شَهَواتِهِ . تُصْبِحُ الغُرْفةُ ، بهذَا فَضَاءً لاستردَادِ إنسَانيَّة الإنسَانِ ، وَحُريَّته ، وَالكَشْف عنْ علاقتِهِ بالأشْيَاءِ الحياتيَّةِ البسِيْطَةِ القَرِيْبَةِ منْهُ ، وَاكْتِشَافِ حَيَوَاتِ هَذِهِ الأشْيَاءِ الَّتي تُشَاركُهُ هَذَا الفَضَاءَ .











الهَوَامِشُ وَالإحَالاتُ

-1- والت وايتمان : في الدّروب المقْفِرَةِ - ترجمة : يوسف الخال ، في كتابه : ديوان الشِّعر الأمريكيِّ- دار : مجلَّة شِعر- 1958 - ص : 76 .
-2- فريد أبو سِعدة – طائرُ الكحول – دار قباء ، للطِّباعة والنَّشر – القاهرة – 1998 – ص :60 .
-3- السَّابق – ص : 40 .
-4- عليَّة عبد السَّلام – موتُ مَنْ أحبُّوني – دار النَّهضَة العربيَّة – بيروت ، لبنان – 2011 – ص: 145 .
- 5- رفعت سَلاَّم – بحثًا عنْ الشِّعر – كتابات نقديَّة ، العدد : 188 ، الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – ص ص : 165 .
- 6 - ميلاد زكريا يوسف – سيِّدُ العالم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1996 – ص ص : 103 – 104 .
- 7- عماد أبو صالح – عجوزٌ تُؤلمه الضَّحِكاتُ - على الرابط التالي :
http://www.Geocitiescom/emadabusaleh.
– 8 - محمد السَّيد إسماعيل – استشرافُ إقامةٍ ماضيةٍ – الهيئة المصريَّة العامة للكتاب - 2010 – ص ص : 130 – 132 .
- 9- مهدي صلاح – تلقَّتْ النبأَ بقلْبٍ محايدٍ – إبداعات ، العدد : 239 ، الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – 2006 – ص ص : 19 – 20 .
- 10 - كريم عبد السَّلام – قصائدُ حُبٍّ إلى ذِئبَةٍ – دار الجديد – بيروت ، لبنان – 2010 – ص : 33 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو