الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أم غاوية 12

حيدر الكعبي

2015 / 2 / 15
الادب والفن


كنت أتحرق شوقاً الى اليوم الذي أرد فيه شيئاً من أفضال أم غاوية عليّ. وحين جاء ذلك اليوم، أو خيِّل إلي أنه جاء، كنت في العام الأخير من دراستي الإبتدائية. كان اليوم هو السادس من محرم، وكنت عائداً من المدرسة أحمل كتبي وأشق طريقي في الزحام الخانق لسوق الدجاج، باحثاً عن جدتي. سألت عنها بائعات الدجاج فأومأت إحداهن الى منطقة مظللة في خلفية السوق. التفتُّ الى حيث أشارت المرأة فصعقني ما رأيت. بدت أم غاوية كأنها تنبثق من الدخان انبثاق المارد من مصباح علاء الدين، وفي يدها سكين طويلة، ووراءها خانٌ كبير للخضار تنفتح بوابته الهائلة عن ظل سميك دامس فكأنها تخرج من فوهة مغارة كتلك التي كان علي بابا يفتحها بكلماته السحرية. وقد زَيَّنَ لي هذا الوهمَ الدخانُ والشررُ المتطاير من موقد أبي صبيح بائع الكبدة والمعلاق الذي كانت جدتي تقف قربه. ماذا؟ أكانت تخوض معركة؟ ضد من يا ترى؟ وهرعت لنجدتها.

لكنني سرعان ما لحِظْتُ دجاجتين تستقران على الأرض عند قدميها، إحداهما زعفرانية اللون مبقعّة بالسواد، والأخرى بلون الجمر المغبرّ الذي كان أبو صبيح يشوي عليه كبدته ومعلاقه. كانت الدجاجتان تُحتَضَران وتنوسان برأسيهما، وقد حال لون عرفيهما من الأحمر الى البنفسجي، وغطت أجفانَهما خضرةٌ شاحبة، وراحت إحداهما تقيء ماءً أصفر. وكانت عيونهما نصف مغلقة، ورقبتاهما مقوستين تحت ثقل رأسيهما. ولم يكن يَحِلُّ لأم غاوية كامرأة أن تذبحهما. وهذا مما فضل الله فيه النساء على الرجال، برأيها. ولأن الموسم كان موسم ديكة لا دجاج، فقد كان بيع الدجاجتين في حالتهما تلك أشبه بالمستحيل، وموتُهما الوشيكُ شبهَ مؤكد. كان السوق ضاجاً بقوقأة الدجاج ورفرفة الأجنحة وصراخ الباعة ومساومات المشترين. كل ذلك اللغط يختلط بعضه ببعض اختلاط الإسمنت بالرمل بالحصى في خباطة. وبائعات الدجاج المفرد يصبغن فضاء السوق بعباءاتهن السوداء، ويطرزنه بالأيمان الغليظة والأكاذيب المزركشة التي تتطاير من أفواههن كأسراب الفراشات. وهن يمسكن الدجاج من سيقانه الصفراء المربوطة بخرق القماش. والناس يشترون الديكة لذبحها نذراً للعباس. والبائعات يحلفن، أول ما يحلفن، بالعباس كذباً ليبعن دجاجهن قبل غيرهن، أو ليبعنه بأعلى من سعره، أو ليبعن المريض منه بوصفه سليماً، أو ليبعن الدجاجة بوصفها ديكاً، أو يكذبن لمجرد الكذب لما فيه من لذة ومتعة و"ملوحة" في الفم. فالكذب علكتهن المفضلة، والبيع والشراء لا نكهة لهما بدونه. أما أم غاوية، فلم تكن الحياة عادلة معها، فهي لم تكن تجيد الكذب. ولأنها لم تكن تجيد الكذب فقد كانت بائعة فاشلة.

كانتْ أم غاوية تبحث عمن يذبح لها الدجاجتين، فاستبشرتْ خيراً حين رأتْني، وناولتْني السكين بلهفة، وكانت استعارتْها من أبي خضير، الذي رفض أن يذبحهما لها. حثتْني على الإسراع في ذبحِهما. لكنني، بدلاً من ذلك، قررت أن أبيعهما لها. فتركت كتبي لديها، متصامماً عن اعتراضاتها، وذهبت بالدجاجتين الى سوق الملابس النسائية، ثم الى سوق الصيارفة، فسوق الهرج، فالعطارين، ثم اتجهت الى سوق الصيادلة. كنت كلما ناداني زبون هززت الدجاجتين بقوة لأوقظهما موقتاً، ورحت أتحدث بلا توقف أملاً في صرف ذهن الزبون عن دنوّ أجل الدجاجتين. ولكنْ شاء الحظ أن يكون الزبائن الذين صادفتُهم جميعُهم من العقلاء، والعقلاء يصدقون ما يرون لا ما يسمعون. وكانوا يرون الدجاجتين على وشك الانطفاء، ويرون رقبتيهما المعوجتين، وعرفيهما المزرقّين وأجفانهما المخضرة التي شارفت على الانغلاق الأبدي. ولذا لم يأبه احد بتوكيداتي، وقابلوها بالسخرية وبابتسامات الإشفاق.

كدت أيأس من بيع الدجاجتين، وراح القلق يعتصر قلبي من أن تموتا فأعود الى أم غاوية لأطأطيء رأسي أمامها مذنباً، فأنا الذي حُلْتُ بينها وبين ذبحهما. وفجأة سمعت أحداً يناديني، ولم أكن قد اجتزت سوق الصيادلة بعد. التفتُّ فإذا برجل ضحّاك، جاحظ العينين، يجلس على كرسي أمام عيادة طبيب أسنان. كان بوّاباً ينظم مواعيد المرضى بإعطائهم بطاقاتٍ صغيرة. ويرتدي سترة برتقالية فضفاضة، ودشداشة شقراء، وسدارة بلون التراب الرطب مما كان يلبسه الشرطة حينذاك. وكانت أصابعه الطويلة مصفرة من التدخين. سألني عن السعر فطلبت ديناراً لكلا الدجاجتين. كنت سأبيعه إياهما بنصف دينار، ولكنني خشيت أن أثير شكوكه بطلب سعر مخفَّض. ورغم ذلك فلم يكن السعر الذي طلبته ليزيد على ثلثي سعر الدجاجتين لو كانتا صحيحتين. هززتهما لأوقظهما فلم تستيقظا. فقرصتُ إحداههما سراً فرفعتْ رأسها، فقرصتُ الأخرى فرفعتْ رأسها هي أيضاً، في حين عادتِ الأولى فخفضتْ رأسها. كان من المستحيل عليّ أن أعرف أي الدجاجتين أقرب الى منيّتها من الأخرى. نظر بواب الطبيب الى الدجاجتين في حيرة وابتسم، أو هكذا خُيِّل اليّ، ثم بَحْلَقَ في وجهي وابتسم، أو هكذا خُيِّل اليّ، ثم رفع جناح الدجاجة الزعفرانية ونفخ تحته، فكشف عن جلدة زرقاء كالنيل. ثم أمسك منقار الأخرى وفتحه فانفتح، وبحلق في باطنه، فقاءت الدجاجة شيئاَ كصفار البيض، نفضه الرجل عن يده باشمئزاز ثم التفت اليّ وقال: "عمي، الله عليك .." وتوقف ليتفحص ملامحي بعينيه الجاحظتين ويبتسم ابتسامته الغريبة، وقد اكتشفت الآن أن تلك الابتسامة لم تكن طوعية، وأنها مجرد تكشيرة ناتجة عن بروزٍ في أسنانه العليا، وقصور الشفة عن تغطيتها، ثم أكمل جملته وهو ينبر الكلمات بتوكيد وببطء متعمد "الله عليك .. الله عليك ما بيهن شي؟" وراح يواصل التحديق في وجهي ممتحناً مصداقيّتي بما يظنه في نفسه من فِراسة، فيما رحتُ أُقسم له أن الدجاجتين كانتا "أصحى من الليرة،" وهي عبارة كنت أسمع باعة الدجاج يرددونها، فقلدتهم. فأنا حين ولدت كانت "الليرة" العثمانية قد خرجتْ من حيّز التداول النقدي، لكن اسمها لم يخرج بعد من حيز التداول اللساني. قلت له إن الدجاجتين كانتا ناعستين، لا غير. فطلب أن أَخْفِضَ السعر، فرقَّ قلبي له، أو هكذا تظاهرت، وانتهيت ببيعه إياهما بثلاثة أرباع الدينار. وقد أيقنتُ الآن أن الرجل لم يكن لديه أدنى نصيب من الفِراسة التي ظن أنه يمتلكها. ليس هذا فقط، بل إنه لم يكن من العقلاء حتى، وإلّا كيف صدق ما سمع ولم يصدق ما رأى؟ وقد شَمَلْتُ بقِلَّة العقل طبيبَ الأسنان أيضاً. ألم يجد غير هذا المدخّن ذي الأسنان غير السليمة ليشغّله بوّاباً عنده؟ وسرعان ما لُمْتُ نفسي على تسرّعي وإضاعتي فرصةَ بيع الدجاجتين للرجل بسعرٍ أعلى بوصفهما ديكين. كل ما كان علي أن أفعله هو أن أقسم له. لكنّ الأوان قد فات، ومع ذلك فقد كانت الأرض لا تسعني من السعادة، فقد تخلصت من الدجاجتين المحتضَرتين. وكنت بذلك أقدم خدمتي الأولى لأم غاوية. ودسستُ النقود في جيبي، وتمنيت للرجل يوماً طيباً، وابتسمت - أنا هذه المرة -، وسِرْتُ في طريقي سيراً واثقاً، رغم أنني في داخلي كنت قلِقاً من أن تموت الدجاجتان أو إحداهما في يديه قبل أن أغيب عن أنظاره. ولكنني ما إن أن قطعت حوالي العشرين خطوة حتى حثثت الخطى مبتعداً، ثم لم أستطع صبراً فأطلقتُ ساقيَّ للريح.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل


.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ




.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع