الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهدم الديموقراطي: قراءة في المشهد السوري

معتز حيسو

2015 / 2 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


لم يكن يخطر في مخيّلة السوريين، أنهم سيشهدون حراكاً سياسياً وشبابياً ميدانياً كالذي شهده العام 2011. لكنَّ الأكثر بُعداً عن التوقع هو حجم الدمار الذي تتعرض له البنى الهيكلية للدولة والمجتمع، والذي تتقاطع في سياقه مصالح وآليات اشتغال حركات دينية سلفية جهادية تعمل على كسر عنق التاريخ، وإغلاق آفاق تطوره، إضافة إلى شهوة السلطة التي هيمنت على تيارات وشخصيات معارضة، حاولت وما زالت ركوب موجة الترويج لديموقراطية ليبرالية مزيّفة، فتحوّلت إلى أدوات وظيفية لمشاريع دولية وإقليمية، وجسر لعبور مشاريع إسلامية جهادية. وقد ساهم في تعميق تلك التناقضات انكشاف النظام أمام تحالف دولي وإقليمي يستهدف وجوده بشكل مباشر. وتقاطع ذلك مع فشل السلطة في النهوض بمشروع اقتصادي تنموي وسياسي ديموقراطي يحقق العدالة الاجتماعية، ويضمن مشاركة القوى السياسية المدنية الديموقراطية، ويوحّد السوريين في سياق تمكين الروابط الوطنية لمواجهة التدخلات الخارجية.
من جانب آخر، فإن كثيرا من الثورات تنتهي إلى مآلات تُناقض مقدماتها وأهداف صانعيها. ويتعلق ذلك بالشروط الذاتية والموضوعية. فعلى أنقاض القيصرية قامت في روسيا أول رأسمالية دولة، في وقت كان الهدف من «ثورة أوكتوبر»، الانتقال إلى نظام اشتراكي. كذلك كانت تهدف إلى تحرير الإنسان من سيطرة الطبيعة والماورائيات وتجاوز النزعة القومية والقضاء على الاستغلال. لكنّ مآلاتها تجلت في نشوء سلطة شمولية صادرت الحريات السياسية والدينية وقمعت التمايز والتباين، وصادرت حق تقرير المصير للأقليات القومية والعرقية. واستمر ذلك إلى اللحظة التي تفكك فيها الاتحاد السوفياتي. فانكشف المجتمع الروسي على التباين والاختلاف والتنوّع. إضافة إلى ذلك، كانت تهدف إلى بناء نظام سياسي ديموقراطي محوره مصالح الإنسان العليا. لكنّها تحوّلت إلى وسيلة لتشييد صروح طغيان الفرد/ السلطة. وتمَّ ذلك في سياق تغوّل سلطة فردية كان فيها الأمين يختصر في ذاته الحزب والسلطة والدولة والمجتمع.
بالتأكيد، لا يوجد مجال للمقاربة بين ما يجري في سوريا وبين «ثورة أوكتوبر». لأن الثانية وبغض النظر عن إشكالاتها وتناقضاتها البنيوية التي لازمت مسارها التطوري، حملت مهام إنسانية كبرى، واستطاعت بناء دولة صناعية ذات بُعد قارّي. لكن المقارنة بين التجربتين تكمن في أن البعض ما زال يطلق على الأحداث التي تعصف في سوريا عنوان «الثورة». وشتان بين ثورة بلشفية وضعت المجتمع الروسي في مصاف المجتمعات المتقدمة، وأحدثت ثورة صناعية نقلت الاقتصاد الروسي إلى موقع ينافس أكثر الاقتصادات تقدماً وتطوراً، وبين «ثورة سورية» تعمقت فيها ملامح وعي طائفي جهوي ريفي، وجهادي ديني سلفي، كان لها دور في تراجع الفعاليات السياسية المدنية والأهلية، فضلاً عن وقوف شرائح اجتماعية واسعة على الحياد نتيجة موقفها الحذر من النظام وحوامل «الثورة»، فتحوّل التنوع الإثنوغرافي إلى ورقة سياسية بيد أطراف الصراع. هذه العوامل وأخرى أتينا على ذكرها، ساهمت في تعبيد الطريق أمام تدمير الدولة الكيانية وتفتيت النسيج الاجتماعي، في وقت كان من الضروري فيه بلورة برنامج سياسي وثقافي تنويري ينهض بالمكونات الاجتماعية كافة للانتقال إلى مجتمع المواطنة والمساواة الذي يضع بدوره مقدمات نظام سياسي يحقق العدالة الاجتماعية والتشاركية السياسية.
إن ما يجري في سوريا يتقاطع مع الكمونة الفرنسية من جهة العنف فقط، لكنّه يتباين معها من جهة الحوامل الاجتماعية والسياسية. أما بالنسبة إلى مآلات الثورة البلشفية، فإن «الثورة السورية» تتقاطع معها فقط في ما اصطلحنا على تسميته بالهدم الديموقراطي. وقد شكل المدخل إلى ذلك جملة من العوامل الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية، منها:
ـــ اشتغال بعض الأطراف على تحميل الحراك السلمي وأدواته السياسية المدنية على حوامل مسلّحة مدفوعة من قبل أطراف دولية وإقليمية وداخلية اشتغلت على إجهاض أي تجربة ديموقراطية. وكان ذلك يتم في سياق استهداف النظام بعينه. لكنّ تداعيات ذلك انعكست سريعاً على مكونات المجتمع السوري كافة. وساهم في تعميق هذا المستوى آليات اشتغال أطراف في السلطة، رأت أن أي تغيير سياسي سيكون مدخلاً إلى نهايتها، وشكّل ذلك مدخلاً إلى ممارسة أشد أشكال التطرف السياسي.
ـــ ساهم تحميل الحراك على حوامل إسلامية متطرفة في شد العصب الطائفي. وهذا بدوره عزز مخاوف الأقليات المذهبية تحديداً، من ميول إسلامية سلفية جهادية تفرض عليهم الاختيار بين الانصهار في بوتقة الإسلام أو دفع الجزية، وإما فإن مصيرهم سيكون القتل أو التهّجير. لهذا رأت تلك الأقليات أن النظام سيكون الضامن لوجودها. وقد شكل تداخل موقف الأقليات الحذر من سياسات السلطة، مع رفضها لسيطرة المجموعات الجهادية على المشهد السوري، سبباً في تخوينها من قبل «قوى الثورة». وكان ذلك من أسباب تراجع تأثير العقلانية والموضوعية السياسية، حتى بات العقل العقلاني هدفاً للتطرف السياسي والطائفي. أما في ما يتعلق بالشخصيات والشرائح والفئات المحسوبة على التيارات العلمانية والسياسية المعارضة، داخل تلك الأقليات، فإنها ترى أن تحولات الأزمة جعلت الأقليات ورقة للمساومة والابتزاز من قبل أطراف الصراع.
ـــ ساهم دمج الحراك السلمي بالإسلام السياسي، واتساع النزعات الإثنية والعشائرية والجهوية والعصبوية، في تعميق التطرف والاستقطاب السياسي والاجتماعي والمذهبي، وفي تراجع دور الأحزاب السياسية العلمانية والنقابات والمؤسسات المدنية. كذلك فإن اعتماد العنف كمدخل إلى تغيير سياسي محمول على مصالح دولية وإقليمية، شكّل مدخلاً إلى ظهور مجموعات إسلامية جهادية تدّعي الدفاع عن الإسلام والمسلمين بذريعة مظلومية تاريخية يعاني منها المسلمون «السنّة». وإضافة إلى ارتهان تلك المجموعات إلى مصادر الدعم والتمويل، فإنها مارست أكثر أشكال التشدد والتعصب والتطرف، وشكّل ذلك مدخلاً إلى إخراج القرار من يد السوريين، وتحويلهم إلى رهينة للمصالح الخارجية والتطرف والعنف المحمول على مجموعات جهادية عابرة للحدود والجنسية.
إن تزامن تنامي دور العنف المحمول على أيديولوجيا دينية سلفية وجهادية، وميول سياسية ليبرالية محكومة بمصالح قوى دولية وإقليمية، وتنامي مظاهر الاستقطاب الاجتماعي الطائفي والمذهبي والإثني، وانحسار دور القوى السياسية الوطنية العلمانية، والتحلل النسبي للروابط الوطنية، وإصرار أطراف نافذة في السلطة على إجهاض أي تغيير ديموقراطي، ساهمت في تهديم أي تحوّل وطني ديموقراطي. إن تراكب العوامل السابقة مع السياسات الإقليمية والدولية التدخلية، لن يقف تأثيره عند عتبة تهديم التحول الديموقراطي، لكنه سينعكس على مستقبل التحولات الاجتماعية السياسية والاقتصادية. هذه العوامل ساهمت في نشوء حالة من الإحباط واليأس عند عامة السوريين، فلم تعد المؤتمرات الدولية وحراك المعارضة الداخلية والخارجية والسياسات الحكومية، تترك عند المواطن السوري أي أمل في الخروج من الكارثة الوطنية التي باتت تهيمن على تفاصيل المشهد. وهذا يعني أننا بحاجة إلى استنهاض الوعي الوطني والتأسيس لثقافة ديموقراطية، لمواجهة المشروع الظلامي الذي تقوده المجموعات الجهادية بدعم من قوى دولية وإقليمية، ترى أن الخــــــطـر عليها يكمن في التــــحول الوطني الديموقراطي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سائقة تفقد السيطرة على شاحنة وتتدلى من جسر بعد اصطدام سيارة


.. خطة إسرائيل بشأن -ممر نتساريم- تكشف عن مشروع لإعادة تشكيل غز




.. واشنطن: بدء تسليم المساعدات الإنسانية انطلاقاً من الرصيف الب


.. مراسل الجزيرة: استشهاد فلسطينيين اثنين بقصف إسرائيلي استهدف




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش إرهاق وإجهاد الجنود وعودة حماس إ