الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فورست غامب أو باروديا لتاريخ أمريكا المعاصر

خالد أمزال
كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية

(Khalid Amazzal)

2015 / 2 / 15
الادب والفن


فيلم فورست غامب الذي ظهر سنة 1994 وقام بإخراجه روبرت زيميكس، مأخوذ عن رواية تحمل العنوان نفسه لونستون غروم، إنه قصة أمريكي ساذج يجتاز ببراءته مجموعة من المخاطر لا يمكن لأحد أن ينجو منها ببساطة، سلاحه الصدق المطلق في إقدامه وفي هروبه، هذا الهروب الذي يشكل العمود الفقري للشخصية، عبر نداء صديقته جيني : اركض فورست اركض، لكن فورست الذي امتلك تلك الطاقة الهائلة التي حولته إلى عدّاء شهير، لم يكن يخطر بباله أن النجاح والمجد هما وحدهما اللذان كانا قادرين على اللحاق به، بدءاً من مطاردة الصبية الأشقياء له في طفولته، وانتهاء بمشاهد المعركة التي شارك فيها بالفيتنام.
يستند الفيلم دراميا بصورة أساسية على شخصية مركزية هي فورست غامب والتي أداها "توم هانكس" بشكل متميز مما خوله الحصول على أوسكار أحسن ممثل. ويستند في بنائه السردي على لعبة بسيطة، حيث تتمثل نقطة السرد -التي تتشعب منها الأحداث- في انتظار فورست للحافلة في أحد المواقف المخصصة لها، تبدو هذه النقطة كما لو أنها مركز الدائرة، الذي تنطلق منه الحكاية لتدور في جزء من محيطها وتعود ثانية للمركز.
وحتى نهاية الفيلم تقريباً، يبدو جلوس فورست مسألة محيرة، يبحث المشاهد عن مبرر لها، لكن المشاهد في اعتقادي ما يلبث ينشغل عنها مؤقتا بسبب غنى الأحداث والمشاهد التي يقدمها الفيلم عن حياة بطله، ليكتشف في الأخير أنه جاء بحثا عن صديقته جيني. أما الأحداث التي يسترجعها فوريست فهي منتقاة بعناية لتختصر ليس فقط حياته كلها، بل تتجاوز ذلك لتختصر الحياة الأمريكية منذ الخمسينيات، مروراً بالستينيات والسبعينيات، من بروز ظاهرة الهيبز والحرب الفيتنامية، ووصولاً إلى ظهور مرض السيدا في إشارة موحية في نهاية الفيلم للمرض الغريب الذي أصيبت به جيني.
إن هذا الفيلم هو بمثابة إعادة صياغة لفترات هامة وقاسية من تاريخ أمريكا بنفس روائي واضح، وليس عبر تأريخ وثائقي للأحداث، فالأحداث التاريخية كحرب الفيتنام والتقارب الأمريكي الصيني، وفضيحة ووتر غيت تم سردها مثلا من خلال التفاعل الساذج لفورست مع هذه الوقائع، والذي تجعله المصادفات المحضة في دائرة الأضواء دون سابق تصميم، مما يجعلنا أمام فيلم لا يجعل من الوقائع التاريخية مادته الفيلمية، بل خلفية درامية يتم نسج خيوطها عبر أسلوب لا يخلو من سخرية، سخرية نابع من عفوية فورست ومن المصادفات التي يجد نفسه داخلها، وليس سخرية انتقادية عن سابق إصرار. إننا أمام باروديا لمحطات مفصلية من تاريخ أمريكا ما بعد الحرب العامية الثانية، أمام محاكاة ساخرة من شخص ساذج لواقع أمة تعتقد أنها عظيمة، وهذه هي المفارقة، فالانخراط القدري لشخص شبه معتوه داخل أحداث جسام غيرت مجرى التاريخ، يخلق توترا دراميا حادا داخل الفيلم، يرسم الابتسامة على وجه المشاهد من جهة، لكن من جهة أخرى يثير استغرابه ودهشته، لأن فورست كان قادرا بعفوية ودون قصد إلهام فنانين عظام مثل إلفيس بريسلي وجون لينون، وكشف عملية التجسس المعروفة بووتر غيت، وتحقيق التقارب الأمريكي الصيني عبر ما سمي بديبلوماسية البينغ- بونغ.
هكذا يتحول فورست غامب إلى هرقل جديد، لكونه يقوم بأعمال خارقة لها سند تاريخي، ورغم أن الفيلم مبني على رواية تحاكي التاريخ بشكل ساخر، إلا أنها تستند في تفاصيلها على أحداث مذهلة غير تلك المرتبطة بخوارق فورست اللاحقة، نذكر هنا بمشهد ورد في البداية عندما لاحقه الأولاد له وهو الطفل شبه المعاق، هذا المشهد الذي تتغلب فيه غريزة البقاء على الإعاقة، فيبدأ بالركض بكل ما فيه من قوة، لتبدأ بعد ذلك الأحزمة الجلدية والحديدية بالتمزق، والتطاير بعيداً عن قدميه في مشهد من أعذب مشاهد الفيلم وأقواها. بل إن الفيلم من خلال أحداثه الروائية يصير ملحمة معاصرة بطلها ليس إلها ولا نصف إله ولا حتى بطل خرافي، بل هو مجرد شخص شبه معاق وشبه معتوه، وهذا ما جر على الفيلم نقمة بعض النقاد الذين رأوا فيه سخرية من التاريخ الأمريكي المعاصر الذي لا يصح أن يمثله شخص شبه معتوه مثل فوريست.
وإذا كان الفيلم معززاً برواية متميزة كما قلنا، فإنه ورغم بساطته الظاهرة كبساطة بطله وبراءته، يستند إلى آخر ما توصلت له تكنولوجيا الصناعة السينمائية من خدع سينمائية بدءاً من مقابلة فورست الطفل للمغني الذي سيصبح مشهوراً فيما بعد ألفس بريسلي وانتهاء بمقابلته لعدد من رؤساء الولايات المتحدة مثل كينيدي وجونسون ونيكسون.
إلى جانب شخصية فورست تتحرك مجموعة من الشخصيات أهمها شخصية جيني التي لا تحضر بقوة في الفعل الدرامي، ليس لكونها تحضر وتغيب بشكل متقطع، بل لأنها شخصية لا يتم استحضارها في الفيلم إلا باعتبارها تمثل المرأة والمعشوقة، إنها الحافز الذي يجعل فوريست يخاطر بنفسه، ويدور حول الولايات المتحدة الأمريكية جريا لمدة ثلاث سنوات بعد أن غادرته، ويذهب بحثا عنها بعد تلقي رسالة منها.
أما شخصية دان قائد إحدى المجموعات العسكرية في فيتنام، والتي تكاد شخصيته أن تكون المعادل الدرامي لشخصية فورست، فهي شخصية تشعر بعبثية الحياة لكن بشكل واعي، ومهيأة لأن تموت في ساحة حرب، دان الذي لم يخرج من الحرب فاقداً مصيره الذي انتظره (الموت) فقط، بل فاقداً ساقيه أيضاً، وهذا ما يجعله قريبا من وضعية فورست الذي عرف الإعاقة في صغره، لكن إنقاذ فورست له في فيتنام جعله يعيد مراجعة أفكاره، خصوصا بعد أن عمل مع فورست على ظهر مركب لصيد الأربيان، إحياء لذكرى صديقهما "بوبا"، ليصل في النهاية - رغم محاولته الإلقاء بمصيره في المجهول مرة أخرى - إلى نتيجة محددة وهي أن الحياة هي أجمل قيمة على وجه الأرض.
تبدو إشارة الفيلم الأولى ونهايته المتمثلة بالريشة الطائرة التي تتقاذفها الرياح، وتستقر أخيراً في كتاب يحمله فورست في حقيبته، ثم وقوعها من الكتاب وهو يوصل ابنه إلى موقف الحافلة، لتنطلق من جديد، تبدو هذه الإشارة عبر حركة هذه الريشة وانسيابها أشبه ما تكون بمصير أبطال الفيلم، وخاصة فورست ودان، إنها أيقونة الفيلم ومدار حبكته ومنبع إيحاءاته، فكأنها تقول أن لا أحد يختار مصيره بيده، فالمصادفات وحدها هي من يصنع المصائر والأقدار، وليس عزيمة الإنسان وعلو همته، وهذه ببساطة هي حال فورست غامب.
يبقى أن نشير في الختام إلى شيء ملفت، ففورست وهو يسرد حكايته في موقف الحافلات لكل من يجلس بجانبه، ويواصل سردها لشخص آخر بعد صعود الأول للحافلة بتلقائية شديدة، كان يحظى باهتمام جلسائه، والشخص الوحيد الذي سخر من فورست كان رجلا، أما النساء فكن على درجة كبيرة من التعاطف وهن يستمعن إلى قصته، أ هذه مجرد مصادفة ؟ أم أمر مقصود ؟ خصوصا إذا ما تذكرنا أن فورست كان ضحية الذكور في الفيلم، وظل يعاني من استغلالهم له، أما الطرف الذي كان يحميه ويدافع عنه فكان ممثلا في أمه وجيني الغائبة الحاضرة على الدوام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام