الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(1) من السماء إلى الأرض

التجاني بولعوالي
مفكر وباحث

(Tijani Boulaouali)

2005 / 9 / 15
الادب والفن


- 1-
يهامسني هذا المساء الخريفي القارس في دلال، ينفخ في شراييني الكلمى نفثاته الساحرة، أنتشي كما أني تجرعت نخب المدام، وأمتطي صهوة الخيال بعيدا عن خزرات تمزق نسيج الفراغ، بعيدا عن كيان يشتهي السكون حورية هي الحسن الزاحف من فردوس الكلمات..

إني انزويت في ركن وضيع من الحافلة المدرسية الهرمة، التي تقلنا كل يوم أربع مرات، من البيت إلى المدرسة، ومن المدرسة إلى البيت! وهي تحرق تحت وطأة عجلاتها المشحوذة في كل مرة أكثر من 16 كيلومتر، في صمت.. وضعت رأسي على زجاج الشرفة، لأعلن انفصالي عن رحم الكينونة، صوفي المزاج.. يدق أوتاد خبائه في الذاكرة، يبذر حبات تطرفه في خفاء، ويردد أني لا أعرف عدا أشياء لا تُعرف!

إني أسبر ثنايا هذا الدجى الخريفي الفسيح، والحافلة تشق بنا طريقها نحو نقطة البدء، التي تنطلق منها كل يوم، باستثناء أيام العطل التي كلما تكاثرت، اعترى وجوهنا الشاحبة ما يشبه الانشراح، أقلد كل الطيور، أرقص رقصتي في النوى، كي لا يراني أحد، فأضحك من سذاجتي البيضاء، وأتهم ذاتي بالغباء، وابتسم إخفاء لامتعاضي الممتد.

غيرت ردائي لألج جبة الحلاج، غير متأله، بل شاعرا تكتسح فوهات الشداه أغواره، وينقر التشاؤم أجداثه المهجورة، فوار يخيم على جدران الفراغ، أنات حروف تصرخ، تتحدى، زمن للتحدي هذا، أنا هبة الرجاء، فمن أين أروي خلاياي الظمأى، متى تطفق سيمفونيتي، فالجمهور يترقب، وأنا... في ذاتي تشتهي جراثيم الفضول قد الانتحار، وهو يغتسل من جنابة الموت، يرتدي فستانه الوردي، يمسك خنجر الخليل، يقصد فنائي في غرور، أنتفض، أصيح في ارتياع، وصناجات الذعر تدوي بين أعطافي المنهوكة، فينعكس صداها عبر أجرافي الرمادية، أصرخ، لم أصغ لصراخي، ولا لصيحات طفل كان يلهو في حقولي، وينظم من زهر الأقاحي شكل الدعابة.

أموس تذوي، هالني رسمها المهتري، كأطمار معتوه يفترش مهملات الأثرياء، وأنا أعد.. أستعرض شذرات من تاريخي المنحول، وشطآن ذاتي يتحسس لذتها موج أبيقوري، تيأس من بحرها الأزرق، تلعنه في السر، وألعن في الجهر صمتي، انزياحي عن أنثى، ترسم على قسماتها الأرجوانية جغرافيا الشبق العربي، تبعث من مؤقيها النجلاوين لمحات هي الرجاء، والرجاء هي، أسطر البداية، أستوحي من "جميل" خطوطا، لأحيك جسري إليها، وأقول أني بدأت، فيردد صوت جدتي المبحوح: الأخ يغدر، والدهر يقهر.. والحب يكبر، يكبر في الذوات فتضيق، وفي الملامح فيذهب البريق.

على سطح زجاج الشرفة أنا.. بشكلي المتهدل، بشحوب صوفي يغرم نفسه.. ويحب الله، وأحب (؟) ولا آبه بهدير الحافلة التي تمزق سكينة الليل، ولا بأجساد التلاميذ المتهالكة، التي تملأ فضاءها المزدحم، وقد أضناها يوم حافل، بخشونة المقاعد، وثقل المحافظ والكتب، وواجبات المدرسين التي تشبه أوامر رجال الشرطة!


- 2 -
عبر زجاج الشرفة، فضاء متألق يستهويني لجلوس أريحي تحت البدر السارح في قصيدة عنوانها السماء، أخلد امتداد السكون العنيد، الذي تنغصه من فينة لأخرى، قهقهات التلاميذ المشبعة برائحة المراهقة المرهقة، والوجد المثخن بالجراح تهزني صواعقه إليك، أنت الجالسة قبالتي، وهي تهب على أهداب جفنيك الساحرين، تغبرين عن حاسة مني، كلما باغتني الليل وهو محفوف بالاغتراب، أو غرد الحزن في مملكتي مواله العتيق، فاعتزل الصخب، وأزاول صمتي.

أستفيق من أوهامي، عقلي حروف استفهام، على ذاتي ينسج عنكبوت الاغتراب، وفوق نطقي تكتظ أجناس من الكلمات، وفي غفوتي أبصر "لونجا" تروي عربيدا ريفيا من لعابها، وأضيق.. فأزمع على طعنه باحتجاجي، لكن يد أمي تمتد إلى عاتقي، فألتفت وأنا أرمق سماء البيت، أرى صورة شيخ وهو يرتدي جلبابا أبيض، يجلله بالمهابة، فأدرك أنه جدي، أرى أشياء عديدة، كل واحد منها يحمل ذكرى مخزونة في سراديب اللاوعي، أرى كتبا، أرى... أفكر ولا تفسير، أحرك رواسبي الجاثية، فأعي حينئذ أنه طيف وما بعده الصحو..

برودة المقعد الخشبي تسري في دمي، تغازل كياني النحيل، ونظري يشق بجناحيه بكارة الفضاء اللا متناهي، هذه نجوم مترامية.. هذه سحب تتسابق.. هذه تضاريس "تمسمان" الشامخة شموخ الريف.. هذه شناخيب تتمايل وإيقاع ذاتي.. أنسى وجودي على حافة الكتمان، أزيغ، أجري مجرى آخر، يقذفني الآن نحو قاع المجهول، أكاد أغرق، وبأعجوبة، أنقذ قلبي من مخالب الافتراس، فأقول أني جربت، فأنا ذو تجربة!

إني أتيت، فأوراق الليل تساقطت على أرجائي، تحدثني لا أفقه ما أنفث، إنني افتقدت كل اللهجات، بحثت عن لساني إذ هو، هو.. تلمست خفقات ذهني إذ هي، هي.. تساءلت في انطواء عما جرى، إني أنساني انبثاقها الأنثوي أنا، لغتي امحت، وحتى الحروف انهوت من أغصان الأبجدية، فتمزق ستر الشوق في أليافي.

تخطو أمامي، ألاحقها في ظمأ أخرس، تسحبني من حيزي، أستلذها رغيفا من شهوة، وأنشد لو أني أحل في بسمتها الوردية، أو تغمرني عبرتها الممزوجة بملح الشبق، ألتفت، صاحبي "سيزيف" يربت على كتفي الأيسر، أستاء وأكرر ما قالته الشمس وهي تغطس في عرض البحر، وأمشي تارة منصتا، وأخرى هاذيا!

نورس يغادرني، وأبي يغادر الفردوس، أمي بجواره تمسح رسوم الانشراح التي لم تستمر، تجفف خيبتها المرة، تتمزق كوامني من هول النكسة، تضطرم حشائشي الخفية، نار في الأحداق، وشرارة في الأعماق.. يا مهجتي، نبالي فتتها صرف الدهر، "لونجا" تستخدم المسدس، أتوارى خلف الكلمات، كلما طفقت فوهة أو صاحت فوهات.


يتبع...










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي