الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النافذة قصة قصيرة

فخر الدين فياض
كاتب وصحفي سوري

(Fayad Fakheraldeen)

2005 / 9 / 15
الادب والفن


كاتب وصحفي سوري
كنت أتسلل من بين الأجساد، المتلاصقة والمزدحمة، لأصل إلى النافذة!!
جميع العيون تتزاحم للنظر.. والامتداد.
شوارع نظيفة.. وأنيقة، شوارع قذرة.. وعابثة، أبنية وشرفات.. أرتال من السيارات المتزاحمة لتصل إلى مكان ما.. أيّ مكان!!
كل الأمكنة متشابهة وتحمل طعم الهواء نفسه..
أرصفةٌ لا تنتهي، وأشجار قبيحة ترتفع بحماقة عن الأرض المستسلمة للأقدام الهاربة نحو (مجهول أليف).. حاويات قمامة.. ولافتات مغبّرة.. وعسكر.
تلامذة المدارس بملابسهم المتشابهة، ذات اللون الواحد.. وضوضاء حقائبهم ينبعث منها ضجيج الدرس والملل والفوضى والشغب.. والحلم. ونساء.. كل النساء!!
كل أنثى عبر تلك النافذة يتراقص بين ساقيها صندوق الدنيا.. بعصافيره وأراكوزاته.. وعوالمه الملوَّنة!!
"كل أنثى تحمل مخيلتي!!" قالها وهو ينفث دخان سيجارته عبر النافذة التي تفصله عن الحياة!!
نظرت إليه ساهماً.. فأردف: "هل ترى الحياة.. النساء!! كل امرأة في العالم لديها تُفاحةٌ تتراقص أحلامي على حوافها.. ويسيل قلبي عبر دهاليزها الساحرة".
إنه ما انفك يبعث برسائله عبر القضبان الأربع.. إلى كل نساء العالم!!
انبعث صوت أجشٌ وحازم: "أطفئ السيجارة يا تيس.. اختنقنا!!"
انتبه نحو الصوت وابتسم لتلك اللحية الرقطاء.. ذات العينين الملونتين والأصابع الغليظة.. ترك سيجارته تسقط من يده، فركها بقدمه بحنق صامت وهو يكاد يختنق من غرفة متحركة ومزدحمة ببضائعَ بشرية، ونافذة واحدة بأربعة قضبان قصيرة.. ولا يدخن؟!
"اللعنة على تلك اللحية!!" خرجت من بين أسنانه.. كاظماً غيظه بها وكأنها تخرج من روحه المتفحمة..
اقترب برأسه من زاوية النافذة وأخذ نفساً عميقاً.. وهو يتأمل الأرصفة المتشابهة..
"قذارة.. قذارة الخارج أشد من قذارة الداخل" وانكفأ نحو الأجساد المتلاصقة، والتي يجمعها (جنزير) طويل.. سلسلة من المعدن الحار.. أيد متشابكة وروائح عرق تنبعث من جيفةٍ اختنقت في زاوية مظلمة ورطبة.. دون أن تثير اهتمام الأقدام العابرة..
"إنه آب اللهّاب" قالها جسد ما!!
"يقولون في آب.. يذوب المسمار على الباب" رد عليه جسد آخر.
"ضَع حذاءً بفمك أنت وهو.. نكاد نموت من الحرارة دون سماع هذا النعيق" قالتها اللحية الرقطاء كعادتها.. بحزم ووضوح!! "
اللعنة.. على تلك اللحية"
عاد وقالها هامساً مرةً أخرى.. إذ ما زالت غصّة السيجارة تعبث في قلبه..
سحب أحد الأجساد نفسه نحو النافذة، حتى أصبح رأسه ملاصقاً لرأسي سألني:
"كيف تصل إلى النافذة في كل مرة؟!"
"صه.. اخفض صوتك.."
وأشرت له إلى يدي.. كانت بلا قيد!!
"عفارم عليك"
قالها وهو يبتسم بتواطؤ مع حيلتي السرية على ذاك الجنزير الأحمق!!
لطالما ترك الجنزير في روحي نُدباً وجراحاً.. أعمق من تلك التي يتركها في معصمي!!
كنت أشعر أننا سبايا.. زنوج مخطوفون.. أو خراف للذبح!!
"أسرى رومانيون"
قالها أحدهم ذات يوم بعد أن رأى قطرة دم متخثرة على معصمه..
كنت أُدخل دبوساً وأحركه بهدوء شديد، وأتابع صوته مع تلك (الحبسة) المعدنية حتى يلتقط (المسنن).. وآنذاك أحرر روحي!! دائماً كانت النافذة أمنية.. تظل مخيلتي تبرق وتشتعل حتى أصل إلى تلك القضبان الأربع!!
لتبدأ متعة النظر وهو يتحرق إثارة وعذاب في شوارع تلك العاصمة الكبيرة..
لماذا يجعلون السجون دائماً في مناطق نائيةٍ وموحشة؟!
"إنه تقليد أخذه أحمق ذات يوم عن الجان!! ألم تحدّثك جدتك البائسة عن سجن الأميرة في قصر مسحور.. أو قلعة خارج الزمن؟!"
قال آخر: "أنت لا تساوي كعب حذاء أميرة.. قصر مسحور يا مؤخرتي!! الآن تصل إلى كهف يعجّ بالضباع"
تململ جسد مثقف وقال: "إنه تقليد أُخذ عن مصاصي الدماء.. الكونت دراكولا!!"
سيارة صغيرة، ذات لون أرجواني يلوح منها شبح أنثى كانت تسير ببطء وسط زحام الشارع العريض واختناق حركة المرور.. ذاك الاختناق الجميل الذي اخترعه مبدعٌ خارج حدود المألوف!!
"ببطء أيها الطابور المعدني" قلتها متوسلاً عبر النافذة..
السيارة الأرجوانية تبرق تحت أشعة الشمس المنصبَّة من سماء محترقة، عيناي تعانقان شعراً متعرقاً ومرفوعاً إلى الأعلى، عن نحر ينساب كما الذهب..
همس جسد مثقف "حين اخترعوا السجن.. كانوا قد حبسوا كلباً في غرفة مغلقة دون طعام أو شراب.. وحين فتحوا بابها كانوا يحملون قطعاً شهيةً من اللحم .. نظر الكلب لحظة عبر الباب.. ولحظة نحو اللحم الشهي.. آلام معدته الجائعة تجعل لعابه يسيل نحو الأرض.. لحظة أخرى.. وكانت أقدامه تسابق الريح نحو ضوء الشمس والمساحات الواسعة!!"
أجابه الآخر: "للكلب حاسة شم خارقة.. يشم رائحة الحرية من مئات الأميال!!
هل ما زال لديك شيء كهذا"؟!!
اللون الأرجواني ما زال يتراقص في الشارع العريض..
"ببطء.. أيها الطابور العظيم.. بحق الملائكة ببطء" كان قلبي يقولها مستغيثاً بضرباته الايقاعية التي تتسارع لهفةً وعنفاً.. مثل طبول أفريقية بدائية!!
الشعر المعقوص نحو الأعلى يقترب من النافذة.. وعيناي تعبثان بالنحر الذي تحوّل إلى نهر أسطوري يقود مخيلتي نحو بحيرةٍ من الحُلم.. والسحر، الطبول الأفريقية تتصاعد إيقاعاتها مع الأقدام المجنونة واللحم المنحوت من العاج الصاخب الذي يستحم تحت مطر أفريقي مفترس..
همس أحدهم: "كان في قفص الجنايات سبعٌ وخمسون متهماً اليوم.. صعد القاضي إلى القوس في الساعة الحادية عشرة.. وهبط في الواحدة.. كانت سبعة وخمسون قضية قد بُتَّ فيها!!"
أجابه الذي بجانبه: "سبعة وخمسون قضية في ساعتين؟! كل قضية دقيقتان!!"
"اللعنة.. هؤلاء الأوغاد!! كُلّه تأجيل.. هل تتخيل أن يؤجل أحدهم حياتك؟!"
الشعر المتعرق ينظر نحو النافذة.. أنثى تبتسم بحب لشاحنة نقل السجناء!!
لمعةُ برق في كبد السماء التي ألقت بغيومها دفعة واحدة.. لتغلّف بها الكون في لحظة استثنائية!! عينان تقطران أنوثة، توزعان الهدايا وأكياس الشوكولا وقطع السكر.. والحلم.
همس جسد متألم "يطلبون شاهداً منذ سنة.. وكل مرة يؤجلون براءتي لأن الشاهد لم يحضر!!"
"ولماذا لا يحضر هذا الشاهد النذل؟!"
"الشاهد ليس نذلاً.. إنه لا يحضر لأنه متوف ٍ!!"
ما زالت عيناها تنظران بحب.. واستغاثات روحي تملأ الكون غربةً.. وإيقاع طبول الرغبة يملأ المدينة ضجيجاً.
استهوتها تلك اللعبة!!
عيناي المرسومتان بين القضبان تحجرت نظراتهما نحو العنق الذهبي.. تلامسانه كما الفراشات حين تلامس ضوءً لتحترق!!
أصبحت قريبة جداً.. لا يفصلني عنها سوى عدة أمتار حمقاء وباردة ومستعصية بلؤم.. ابتسامة أثيرة ترتسم على ثغرها الواسع وشفتيها الممتلئتين بالحياة.
اللحية الرقطاء تنتهر (مثقفين) اختلفا على سيادة القانون.. أم قانون السيادة!!
"يلعن أبوك.. على أبو القانون وأبو السيادة.. احترقنا!!"
كنت أرى "تنورتها" التي تغطي ساقيها.. تلك التنورة الحمقاء هل تعرف أين تسترخي.. ماذا لو كان المرء "تنورة"؟! يحتضن كل تلك الفتنة والسحر.. معبر الحياة!!
"يا ابن.. أبعد رأسك عن النافذة، نريد أن نتنفس"
اللحية الرقطاء تنفخ كما "الحنش" الهائج.
حركت ساقيها قليلاً.. كان الصمت يسود العالم.. والطابور العظيم قد توّقف بوجل وحذر.. حتى أبواق السيارات هجعت متهيّبة..
ثغرها الواسع انفرج عن ضحكةٍ بحجم السماء، ودون أن تنظر إلى النافذة أزاحت تنورتها نحو الأعلى وكشفت عن بياض نادر.. كومة من الحلم الوردي المسافر نحو الغيب.. باقة من الأمنيات والفرح والدهشة قدمتها تلك الأنامل السحرية بعطاء القديسين وكرم إيمانهم لرجل من عالم منسي ومظلم وكافر.. تحوّلت عنده الحياة إلى.. ساق امرأة!!
"أيتها القديسة.." انبعثت من أعماق روحي وهي تخبئ في ثناياها كومة الحلم.. وهدية السماء الطيبة.. كانت روحي تطوي ذاك البياض بأوراق حريرية شفافة، دون أن تلامسه مخافة أن تترك عليه بصمة معدنيةً بلهاء.
"أبعد رأسك القذر عن النافذة"
كان (الجنزير) يمنع اللحية الرقطاء عن الحركة.. إلا أن فحيحه يهدر مع ارتفاع حرارة المعدن المتنقل.
الطابور العظيم تقدم بطيئاً.. وعيناي ما زالتا تلتقطان ذاك البياض بخشوع وخوف.. كما صلاة العذارى والأطفال.. أصوات الأبواق ترتفع.. والفم الواسع ينفرج عن قلب يقطنه أنبياء الرحمة والحب.. وعبر الزجاج كانت هناك أنامل قدسية ترتفع مودعة.. بعد أن نثرت على الكون غلالة خضراء مزينة برائحة القرنفل والحبق وعبق زهرة الخشخاش.
تلاشى صوت الطبول الأفريقية.. وغاب اللحم البرونزي المتعرق داخل البذلة "المقلمة" بالأزرق والأبيض.. اللحية الرقطاء تحصد العيون المنكسرة، والآهات الغامضة، ووحوش العتمة.
أصواتٌ مبهمة تنبعث مثل الهمهمة من صدور تتآكل بفعل الصدأ.. وسحل الرغبة.. والحلم.
كانت حرارة (الجنزير) قد ارتفعت، وبدأت تحز بقسوة على الأيدي المستسلمة.. والغرفة المعدنية القاتمة، كجثةٍ مشوّهة.. تحوّلت جدرانها آنذاك إلى غرف لحرق الصلصال.. والأجساد الكاسدة!!










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أون سيت - هل يوجد جزء ثالث لـ مسلسل وبينا ميعاد؟..الفنان صبر


.. حكاية بكاء أحمد السبكي بعد نجاح ابنه كريم السبكي في فيلم #شق




.. خناقة الدخان.. مشهد حصري من فيلم #شقو ??


.. وفاة والدة الفنانة يسرا اللوزي وتشييع جثمانها من مسجد عمر مك




.. يا ترى فيلم #شقو هيتعمل منه جزء تاني؟ ??