الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بترحلك مشوار؟

منهل السراج

2005 / 9 / 15
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


كنت أتابع نشرة الأخبار، ميليس وجند الشام ومبارك وانتخابات مصر وإعصار كاترينا ومالاأدري..حين نظر عاصي في وجهي برجاء أو ربما بحنق. همهم بحروف بدت لي مفهومة أكثر من أي وقت آخر. كان كما لو انه يقول:
ـ لماذا يصفر وجهك ويحمر ويخضر كل ساعة مع نشرات الأخبار؟ ثم كأنه أضاف: أريد ان ألعب.
فكرت:
"أين أجد مساحة يلعب فيها طفل عمره سنة وبضعة شهور".
خطر في بالي الحديقة الرئيسية للمدينة.
كي يصل عاصي إلى ملعبه، أطاعني وجلس في عربته الصغيرة.
ماإن خرجنا من الباب الرئيسي للبناية التي نسكن فيها حتى مرت دراجة نارية بسرعة هائلة ونفثت دخانها الأسود وصوتها القاسي في وجه الصبي. اعتاد ابن العام الأول من عمره على هذا الأمر فأغمض عينيه، ولاأدري ربما حبس أنفاسه إلى أن تتبدد تلك العاصفة السوداء. وغداً يتعلم كيف يسد أذنيه ويغلق فمه حتى ينجو بنفسه من الأذى.
كان علينا أن نقطع الشارع. مشيت مسافة طويلة إلى أن وصلت الممر المخصص والمزود بإشارة ضوئية. انتظرت حتى صارت الإشارة رجلاً أخضر، حاولت أن أقطع، لكن سيل السيارات لم يتوقف. انتظرت مرة ثانية، حمراء ثم صفراء ثم خضراء ومضيت بجرأة، لكن السيارات لم تنتظر.. نظرت في وجوه السائقين محاولة استعطافهم، لكن كانوا جميعاً يحدقون في الاتجاه الآخر. زاوية الشرطي، وبما أن الشرطي غائب فلا مشكلة مع تجاوز الإشارة ولا مشكلة مع المارة لأنهم يتدبرون أمرهم.
ركضت بعربة عاصي أنفد من بين السيارات، حتى وصلنا إلى الرصيف المقابل. صعود وهبوط، كومة رمال، سيارات متوقفة على الأرصفة.. باعة لايبيعون في دكاكينهم. ارتأوا أن يصفوا كراسيهم الواطئة على الأرصفة ويثرثرون مع ضيوفهم دونما عمل، فقط كلام وكلام. كان علي كل حين، أن أنزل إلى الشارع وأتدبر أمري بالمشي بمحاذاة الرصيف محاولة تفادي الدراجات العادية كي لاتدهسنا إحداها. أرصفة تحمل شكل الأرصفة، فقط إذا شوهدت من الطائرات.
آثرت الذهاب من حارات ضيقة كي أوفر على نفسي وعلى الولد صخباً وشحاراً أسود. وتمنيت أن أجد ياسمينة تطل من سور إحدى الدور.
ماإن هدأ ضجيج السيارات حتى رحت أغني له: غسّل وجهك ياقمر.. نظر الصبي إلى الأعلى كي يرى القمر كما علمته وربما كان خطأي إخباره أن القمر في السماء. انهالت علينا قفة من الرمل رماها أحد العمال من السطح.
مسحت عيني الطفل، وجهه وشعره ونفضت يدي. عدنا أدراجنا لأن المرور مقطوع بكومة رمل هائلة. يبدو أن أحدهم يعمر طابقاً جديداً في بيته.
وصلنا إلى الحديقة بعد صعود وهبوط واهتزاز وصراخ وزعيق. تجاوزنا المدخل المليء بالبائعين الجوالين وبسطاتهم التي تسد كل المعابر.
كانت الحديقة مزدحمة، بل تغص بالناس أولاداً ورجالاً ونساء. عائلات بعدة يوم كامل. ترامس القهوة والشاي. مأكولات وبزر وكل ما يملأ الدنيا وسخاً في لحظات. نهرت نفسي: فليكن مثل بقية الأولاد ولتدعيه يركض وسطهم.. أنزلته وأنا أجابه أسفي وخوفي. تحرر عاصي من حبس العربة. نظر حوله. ماء وبط وحمام وأطفال. طار من الفرح وراح يركض..
ماإن قطع متراً حتى دفعته ساق طويلة لشخص ما. أوقعه ومضى دون اعتذار. اعتدل الطفل بلا معونة من أحد وراح يتابع لهوه،. لكن بعد خطوتين أسقطه ولد بعمره.. اعتدل عاصي مرة ثانية ومضى هارباً من مراقبتي.
فجأة جاءني صراخه. ركضت إليه وإذا بفمه ممتلئ بالدم. تبين أنه تعثر بحديد ناتئ عن الأرض وسقط على وجهه. لم أعرف حتى الآن وظيفة هذا الحديد أو ماكانت وظيفته. كذلك لم أستطع تحديد إن كانت سن الطفل قد كسرت أم عض على شفته حتى نزف كل هذا الدم. أعدت الولد إلى عربته مجبراً يبكي من ألم السقطة ومن رغبته في متابعة حريته في الحركة واللهو.
خرجت أبحث بعناد عن فسحة أمينة يركض الطفل فيها.
ظللت ساعة كاملة عاصي يبكي ويتلوى يريد التخلص من عربته وأنا أخرج من حارة، أدخل في أخرى. أكياس نايلون، علب صفيح فارغة، ورق وبلاستيك. غبار وجفاف.
فتشت وفتشت، إلى أن وصلت حديقة بدت لي منسية وسط منطقة نائية. سور حديدي كامل، بضع شجيرات وتربة شبه جافة في وسطها بحرة حجرية، مزودة برسوم ونقوش أثرية. تنفست الصعداء وأفلت عاصي من سجنه.
كعادته حين أفلته ينظر إلى السماء ويدور في مكانه ثم يستقر على اتجاه معين ليركض فيه.
قلت لنفسي: لأسترح على هذا المقعد وليلعب الولد على هواه.
صعد درجة وهبط أخرى. شد غصن الشجرة وتركه. راح يركض ضاحكاً. تعثر واعتدل، لمس السور وعاد. كان ينظر إلي كل حين، ويضحك بخبث لأنه تحرر من أسري.
فجأة انتبه إلى البحرة. عاصي يعشق الماء، يرمي نفسه فيه كأن أمامه فراش من ريش أزرق. هرول باتجاه البحرة وهمّ أن يتسلق حجرها. قمت من مكاني لأتفحص ارتفاع الماء في البحرة الحجرية ذات النقوش التاريخية، اقتربت، فداهمتني رائحة حموضة ثقيلة.
ماذا وجدت ياناس؟
كانت البحرة عبارة عن مستنقع من البول.

عدنا إلى البيت بلا هواء ولا غناء ، بلا ركض ولاحرية .
ودع عاصي يوماً جديداً من عمره دونما هناء، ونام من شدة بكائه.

أدرت التلفاز لأجد متحدثاُ سورياً يشرح المرحلة التاريخية الحاسمة التي تمر بها بلادنا، والتحديات الخارجية التي تترصد بوطننا، وأهمية التمسك بالولاء والثوابت الوطنية وخصوصيتنا القومية، و..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا