الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلةُ المنفيّ الأخيرة

حسين الموزاني

2015 / 2 / 20
الادب والفن



خرجت من القبو غير مصدّق بأنّني أصبحت برفقة امرأة على هذا القدر الهائل من الفتنة والجمال. وقفنا زمناً طويلاً ننتظر سيّارة أجرة، لدرجة أنّني خشيت من أن تتخلّى عنّي وتلتحق بمن يمتلك سيّارة خاصّة. قلت لها لكي أزيح الأوهام والظنون من نفسي «إِيه رأيك لو نشتري حاجة للشرب ونسهر في البيت؟» غير أنّها بقيت صامتة وتنظر ساهمةً إلى الشارع. وبسبب القلب وجدت نفسي مضطراً إلى إِيقاف عربة نقل كبيرة لتقلّنا إلى الدار، واشترط علينا السائق أن نجلس في المقدمة. فقلت له إنّ المرأة حامل وتريد أن تستلقي على ظهرها بعض الوقت. قال «خلّيها تستريح وحدها، وتفضل حضرتك أقعد جنبي!»
تراءت المدينة في الهزيع الأوّل من الليل فارغةً خاويةً مثل خرائب وأطلال أثرية مهجورة تثير الرهبة في النفس: السكون الصحراوي الموحش، وهذا الظلام الكبير الذي استحال لونه أزرق براقاً والتوتر الحسّي العجيب! كانت الشوارع تنشطر بين الحين والحين لتكشف عن دكاكين بقالة ومقاه صغيرة كانت تقفل أبوابها في هذه الساعة، وثمّة عربات جرّ للأطعمة والفاكهة غمرتها أشعّة الفوانيس الكثيفة الصفراء التي تشبه أجراماً سماويةً صغيرةً مستديرة. إنّها اللوحات الليلية التي لم يشهدها متحف بشريّ أبداً، صور القاهرة بعد منتصف الليل وأنفاس الصحراء الأفريقية المرهفة الرقّة. فأيّة رحلة، وأيّة خرافة، وأيّ دين عميق، وأيّة رحمة، وأيّة امرأة هذه التي أرخت يديها المصريتين على ركبتيّ.
دخلنا البناية مثل شبحين ضائعين، فلم يلمحنا أحد وحتّى البواب عبد السميع البحراوي نفسه كان نائماً. ولأنّني لا أعرف بعد كيف أداعبها فقد أطلقت عليها حالما دخلنا الدار اسم أمنية، لكنّها رفضت أن تستبدل اسمها، فقلت لها مجاملاً إنّ الحلم أكبر من الأمنية. وقالت إنّها تريد، كما هي عادتها، أن تغتسل أوّل الأمر.
استدرتُ على نفسي كالمصراع ثمّ طفرتُ من فرط الفرح طفرتين تعادل الواحدة منهما ذراعين، وقمت بحركات سريعة متذبذبة تشبه انفراج المقصّ وانطباقه في لحظة نشوة. وتطلعت إلى باب الحمّام الذي تركتهُ أحلام مفتوحاً، فلاحظتُ خطاً طويلاً من النور يتسرّب عبر فتحة الباب. فازددت اطمئناناً وفتحتُ زجاجة فودكا واحتسيت خلسة كأساً مطفطفة. وكان الليل قد تجاوز الانتصاف وبدا الهلال الواهن الصغير معلقاً في الظلام مثل قشرة ضباب رقيقة متكسرة. وصنعت مائدةً مرتجلةً جمعت فيها كلّ ما بقي من مأكولات في الدار وجلست أنتظر...
وفي هذه اللحظة بالذات خطرت في ذهني كلمات صاحبي الرسّام أمير قبل بضعة أيام من رحيله: «خويه چا شسوي؟ شبيدي يا بعد عيني؟ تدري بيّ من أگعد بفراشي أصير چنّي جمل بارك، مابي حيل أگوم. خويه شو ما أحسّ إِلاّ والماي ينگط على راسي. شنهي، يا سبحان الله، مطرت الدنيا؟ شنهي مزروف البيت؟ خويه چنت توني نافض نص بطل فودگا. فعاينت ليفوگ وأشوفلك الثدي أسمر عراقي مدوّر ويگطر ماي، طگ، طگ! چا آنا شنهي خويه؟ حجارة؟ طابوگة؟ صلبوخ؟ خويه: چا عليمن يا عبيد تون؟ ولك على المفدوع فدع الدن، على المفدوع فدع الدن! شو وراها وگامت الگومة. شگلك فلان گام أنوب يطگ بالعراقيات! چا بالعراق چتا نطگ هنديات؟ والرجال قوامون على النساء؟ چا النساء أنوب عليمن يقومن؟ چا خويه القائم وين يطي وجهه؟ طيّح الله حظهم، خزونا بغبائهم، سوونا مضحكة للعرب والأجانب، وداعتك نسوانهم ألف مرّة أخير منهم!» هكذا كان صوت أمير.
وخرجت أحلام ملفوفةً بمنشفة كبيرة وتتهادى في مشيتها كالحورية المبلولة الأطراف، وتجفف شعرها المتناثر بيديها. كانت تسير بخطى واثقة ثابتة لا أثر فيها للتردّد والارتباك. وبدت ثرية ممتلئة الجسد حقّاً شديدة الخصوبة، حتّى أنّني خلتُ نفسي لو تزوجتها لأنجبت لي عشرين طفلاً على الأقل، فيا لهذا الثراء المصري، ويا لهذه المرأة المترعة بالحبّ والخصب والجمال. وسألتها إن كانت ترغب في سماع عبد الوهاب، فقالت إنّها تحبّ الغناء عموماً، بما فيه غناء ناظم الغزالي، إِلاّ أنّها تفضّل دائماً الأستاذ عبد الوهاب. وحينما نطقت بذلك، تمعنت في وجهها جيّداً، فوجدته صافياً فطناً يبعث على الألفة والطمأنينة. فسرحت ببصري إلى ثدييها المبللين اللذين كانا يتنفسان بهدوء وبطء كلّما وخزت حلمتاهما الثوب الرقيق المهفهف.
ـ «بتبص على إِيه؟»
كنت في الواقع قد سرحت بأفكاري إلى أماكن بعيدة نائية، وفكّرت دفعة واحدة بطفولتي الضائعة الغائرة في أخاديد الزمن الخرافي، زمن بغداد الذي اندثرت معالمه وبات حطاماً ركاماً، هذا الزمن الشبحي اليتيم الذي كان يشبه طفولتي. فأصبحت أشدّ انفعالاً وتوتراً ممّا كنت عليه أصلاً. لقد اختفت إلى الأبد رسوم ومعاني مدينتي الخرافية القديمة التي صنعت أوهام طفولتي وصباي.
قلت لأحلام «عبد الوهاب؟»
وبعد لحظات جاء صوت الموسيقار متهادياً، شجياً، مترعاً بالحنين، مثل نبع يغسل أدران الروح والبدن.
ـ «بتفكّر في إِيه؟»
فدنوت منها ومسحت شفتيها المبللتين بسبّابتي وأسندت رأسها على يدي ثمّ هويت على فمها الخفيف الانفرج وتوغلت في جوفه أفتش عن اللسان الذي اختفى في سقف اللهاة. وشعرت بسخونة مغناطيسية بين ساقيّ، فاتجهت إلى جيدها الطري وأنا ألهث وأفحّ منحدراً نحو الثدي الصلب اللاهب الحرارة. هنا سمعتها تتأوّه بتمنّع ورضى. وفجأةً اندلق الثديان الخمريان على يدي حارين ناضجين فوضعت رأسي المستعر بينهما. ودارت الأغنية العذبة فتراخا جسدانا، وسقطنا من القنفة الضيقة المتخشبة، ثمّ تقلبنا على الأرض العارية شبه عاريين، وشيئاً فشيئاً أخذت يدي تتحسس متاعها للمرّة الأولى، فتصلبت ركبتاي وشعرت باضطراب يشبه الانخلاع الروحيّ، فشهقت بضع شهقات بأنفاس متقطعة، شاعراً كأنّني سقطت متدحرجاً من غيمة حلم إلى حالة وهم ومن حالة وهم إلى حلم من جديد قبل أن أصل إلى تخوم الخرافة، لكنّني بعد حين استطعت القبض على جسد الخرافة.
حاولت أن أحملها لكي أضعها على السرير، إِلاّ أنّ جسدها لم يرتفع قيد أنملة. كان ثقيلاً ثملاً أسكرته القبل، أو ربّما كنت أنا نفسي واهناً منهكاً، فتعرينا ونحن على الأرض، ثمّ تدانينا وتلامس جسدانا العاريان، فشهقنا هذه المرّة معاً كالغريقين وتخضّب جسدانا بالرحيق، فأيّة هشاشة جسد هذه، أيّ ليل، أيّ نيل يسقي فراتاً نضبت روحه. أنا العطشان، أنا المقطوع، أنا المفطوم على الظلم وهذه هي فطرتي، هذه هي مملكتي الأولى. كنت أرعى. كنت أرغو. كنت أزبد. كنت أرعد. أنا العربيّ الطريد الذي لا أرض له لا سماء سوى هذا الجسد المصري الكريم. فكم فسيح لامتناه هو الجسد! وكم هشة ناعمة هي الأرداف! وكم طويل هو ليل المهزومين، أنا المهزوم، أنا البابلي الصريح الوجه، وها هو المرحوم عبد الوهاب يطاردني:
سيرانا الدهر نمضي خلفها وحدةً مشبوبةً باللهب
نعم، أنا المتوحد الذي يجرجر أسلابه خلف وحدته أبد الدهر، أنا المنهوب، أنا المنكوب، أنا المنتصب. فشعرت بالاحتقان يصعد إلى حبل الوريد، شعرت به ينتشر في خلايا الدم. والتففت حول خاصرتها أتنسّم أنفاسها، وحين وضعت يدي على ردفها انزلقت، إذ أنّ المتاع كان حليقاً أزرقَ يضيء تحت نور الكواكب. وانتبهت أيضاً إلى أنّ أحلام لم تكن مختونة! يا للدهشة! كان الهُريم الصغير يطلّ عذباً رقيقاً ومستوفزاً ومتوتراً، فداعبته بأناملي، ثمّ لثمته ولعقته حتّى كاد يجفّ ماؤه. فأيّة نبتة هرمية حمراء، أيّة وردة ليلية، أيّة صحراء، وأردت أن أصرخ في الناس، في جحافل البشرية جمعاء التي خرجت كلّها من «فدعة الدن». فخرجت إلى الشرفة أقفز كما الجندي البابلي، ورأيت الفجر تبزغ تباشيره من آخر الكون، هناك، وراء الإهرامات، حيث تنتهي السماء. كنت عارياً ومنكشفاً تحت قبّة الفجر الكبيرة، فجر الشرق العتيق الذي ضيعته منذ عشرين عاماً، أنا الذي قتلت أعوامي كلّها ودفنتها في صحراء الجليد، أقف الآن متوحداً وسعيداً بجسدي ولحمي وثروتي. ورفعت ذراعيّ إلى الأعلى كالنسر الذي يتأهب للانطلاق، على حين غرّة اجتاحني هدوء عجيب، الهدوء الذي يسبق لحظة الولادة، لا شكّ أنّها اللحظة التي يُسمع فيها صوت النداء. وتخيلت الشرق كلّه نائماً سعيداً ينسج أحلامه وأوهامه وخرافاته، وتخيلت نفسي وكأنّني الغفير الوحيد الذي كان يحرسه، ثمّ التفت إلى أحلامي، فوجدتها غافيةً هي أيضاً. وكان هناك خيط شفيف من ضوء الفجر الذهبي يتسلل إلى ردفيها العاريين، فدنوت منهما، ولثمتهما، ثمّ أرخيت رأسي بينهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟